الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيكولوجية المنطقة الخضراء (تحليل لشخصية السياسي العراقي المُعَولَم)

فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)

2009 / 8 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


((حتى في العصور المليئة بالفوضى، .. علينا أن نفكر بهدوء!)): هذا ما نادى به الشاعر "بوريس باسترناك" (1890 – 1960)م وسط دموية الحرب الأهلية التي مزقت مجتمعه الروسي بُعيد التغييرات العاصفة التي جاءت بها الثورة البلشفية في اكتوبر 1917. وهذا ما يجدر أن نفعله اليوم عند تحليلنا للتغييرات الكاسحة التي ما برحت تضرب البنية السوسيو– سياسية للمجتمع العراقي، وتصبغ ذاكرته الجمعية بدماء ساخنة لن تجف قريباً !
إن واحدة من ستراتيجيات التفكير الهاديء، أن تُختزل الظاهرة المراد دراستها الى سؤال مركزي أو أسئلة فرعية ومتسلسلة، يُجاب عليها ضمن إطار منهجي محدد في التحليل ينبع من اختصاص الباحث ومستوى الرؤية الذي يريد أن يختزل اليه تلك الظاهرة. ولأن الأزمة العراقية الحالية ارتبطت في نشوئها واستمرارها واستفحالها بتبلور نمط معين من الشخصيات السياسية المحلية التي برهنت الأحداث على وجود منطق سيكولوجي متين يقف خلف بنيتها وأدائها، فإن توظيفنا لإطار التحليل السيكولوجي للظاهرة السياسية العراقية الحالية سيقود بالضرورة الى طرح السؤال المركزي الآتي: ما هي عناصر التركيبة النفسية للنخبة السياسية العراقية الحاكمة اليوم ؟!
وبصياغة أدبية أشد اختزالاً وتجريداً: ما هي سيكولوجية المنطقة الخضراء* ، بوصفها المجال النفسي الذي برزت فيه شخصيات حكام العراق الجدد ؟!

شخصية السياسي المُعولَم:

بدءاً، لا يمكن النظر الى شخصية السياسي العراقي القابع اليوم في المنطقة الخضراء، بمعزل عن التبدلات الجوهرية التي حدثت في خارطة السياسة العالمية في أعقاب انتهاء الحرب الباردة أواخر عقد الثمانينات من القرن الماضي، وما أفرزته من أنماط جديدة في شخصيات النخب السياسية على مستوى الكرة الأرضية عموماً، وفي الدول النامية خصوصاً.
ولايجاد مدخل يحيط بهذه الظاهرة السيكو– سياسية المستجدة، نقترح صياغة مصطلح جديد هو "السياسي المُعولََم" Globalized Politician ، يقصد به: (( نمط من الشخصية السياسية المحترفة، في سدة الحكم أو خارجها، برزت في العقد الأخير من القرن العشرين وما بعده في الدول النامية، بالتزامن مع عولمة الاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام، وهي آخذة بالانتشار بأبعاد متعددة، إلا أن ما يوحدها هو ارتباطها النفسي والوظيفي بمراكز الاقتصاد العملاقة خارج حدود بلادها، بما يجعلها تنشط لإفراغ المضمون الفكري والأخلاقي للصراعات والتحولات الاجتماعية في بلدانها، مستبدلة إياها بالدعاية لصور نمطية مبسطة تتضمن: "فضائل" اقتصاد السوق، و"حتمية" الديمقراطية الليبرالية، وتصنيفها النمطي للعديد من حركات التحرر والإصلاح والتغيير ضمن مصطلحي "التطرف" و"الإرهاب")).
ويمكن تحديد أهم خصائص هذه الشخصية (أياً كانت جنسيتها) بالآتي:
• نزعتها التبريرية الديماجوجية.
• نظرتها البراجماتية المفرطة.
• ضعف الحس الاجتماعي والوطني لديها تجاه شعوبها.
• تبعيتها العصابية لمراكز اتخاذ القرار خارج مصالح مجتمعاتها.
• افتقادها لفلسفة سياسية إنسانوية محددة المعالم بالرغم من مرجعيتها التكنوقراطية.

وامتداداً لهذا التحليل، وبناءاً على المعطيات التي أفرزتها السنوات الخمسة الماضية من عمر العصر العراقي الجديد، يمكن الافتراض أن تبلوراً قد حدث لـ "شخصية سياسية عراقية"، تشترك مع الشخصية السياسية المعولمة بالخصائص المشار اليها قبل قليل، فضلاً عن امتلاكها لخصائص متفردة أخرى، سيتم التطرق إليها بعد قليل، نابعة من تفرد الظاهرة العراقية، دون انكار لوجود استثناءات قليلة من هذا التعميم، إذ يوجه التحليل الحالي تركيزه على الطابع النمطي السائد لهذه الشخصية ويهمل الحالات الفردية التي تقع خارج التنميط.
إن هذه الشخصية السياسية الانتفاعية الجديدة، لم تكن وليدة مباشرة للاحتلال، بل هي نتاج تراكمي لآخر أربعة عقود من تأريخ العراق، وتزامنَ نموها النفسي تصاعدياً بالتوازي مع النمو التصاعدي ثم التنازلي للشخصية السياسية الفاشية التي حكمت البلاد خلال الحقبة نفسها. وكل ذلك حدث على حساب غياب الشخصية السياسية "المثقفة العقلانية" عن السلطة، والتي انقطع نسلها منذ اغتصاب الجنرالات الموهومين للحكم في أواخر العقد الخامس من القرن الماضي.
ويجب التوكيد إن هذه الرؤية النظرية المقترحة ليست إلا تأملاً ابتدائياً قائماً على الملاحظة والتصنيف العقلي للأحداث، يتطلب إغناءاً مفاهيمياً أشد لأبعاده وعناصره، وتحققاً بحثياً ميدانياً يتثبت من صدقيته، وهو ما يفترض أن يقع على كاهل كاتب هذه السطور وغيره من الباحثين المهتمين بسيكولوجية المأساة العراقية.
ولكي يحقق التشريح النفسي نفاذاً أشد، يجدر الاقرار بإن مفهوم "السياسي العراقي المُعولَم" يتطلب تصنيفه الى شخصيتين نمطيتين فرعيتين، احداهما طائفية التأسيس، والأخرى علمانية الجذور!

السياسي المُعولَم الطائفي:

"التناشز المعرفي" Cogniotive Dissonance مفهوم شائع في علم النفس الاجتماعي المعرفي، جرى توظيفه على نطاق واسع لتفسير السلوك الاجتماعي. ويقصد به حالة من التوتر النفسي تنتاب الفرد عندما يجد نفسه مضطراً لتبني اعتقادين متناقضين (متناشزين) في وقت واحد، أو مرغماً على السلوك بإسلوب مخالف لمعتقداته أو قيمه أو مصالحه. وعندها يندفع لاختزال هذا التناشز بانتهاج ستراتيجيات إدراكية أو سلوكية متنوعة، قد لا تكون عقلانية بالضرورة، تعيد الاتساق بين تلك المكونات المتناقضة. فالموظف ذو الدخل الشحيح، قد يجد نفسه مضطراً لقبول الرشوة ليلبي متطلبات أسرته، فيتولد لديه توتر نفسي بسبب التناقض بين سلوكه هذا ومنظومته القيمية التي ترفض الرشوة، فيحاول خفض هذا التوتر بتبنيه لستراتيجية معرفية تبريرية قائلاً: لستُ الوحيد الذي يرتشي، فالعوز يدفع الجميع إلى ذلك، ولكنني سأتوقف عن قبول الرشوة حالما أحصل على راتب مجزٍ.
لقد تعرض السياسي العراقي ذو الايديولوجيا الدينية في الشهور الأولى من الاحتلال الى تناشز معرفي حاد بين منظومته القيمية التقليدية القائمة على رفض القيم الغربية الديمقراطية المؤمنة بتداول السلطة وعلى حتمية إن الحكم للشريعة الاسلامية وحدها، وبين سلوكه المتعطش للسلطة والمضطر لمجاراة الشعارات الديمقراطية التي سوّقها الاحتلال الأمريكي لتبرير حملته العسكرية الساعية ظاهرياً لأن تكون الحد الفاصل بين حكم مستبد تهاوى وبين نظام سياسي جديد يراد له أن يمسك بأذيال "الديمقراطية الليبرالية" بوصفها الفلسفة السياسية المحرّكة للدولة الأمريكية العابرة للقارات!
إن هذا التناشز الحاد ما كان له أن يُحلّ أو ينخفض من الناحية السيكو– سياسية إلا على يد أفراد بمواصفات شخصية محددة، شكلوا بسلوكهم النفعي نخبة سريعة النمو خارج الهوية الوطنية العراقية، سيّست على وجه السرعة الموروث المتخلف الكامن في الهوية الطائفية بشقيها المعروفين، مستفيدة من دعم الاحتلال وفراغ السلطة وانهيار مؤسسات الدولة وسلبية الجماهير وغياب اليسار الفاعل، مستولية بذلك على المغانم الغرائزية التي تركتها الفاشية السابقة في قصور المنطقة الخضراء، وفاسحة الطريق لتناسل طبقة ثيوقراطية أخذت تقضم "دستورياً" ما تبقى من أحشاء الدولة العلمانية العراقية، خافضة تناشزها المعرفي الى أدنى حد عبر ايديولوجيتها الجديدة: وما الضير من رفع لواء الديمقراطية، ما دمنا نحكم بسمعتها الطيبة، ونحقق امتيازاتنا واستثماراتنا دون أن نضطر لخلع عمائمنا أو إزالة البسملة من افتتاحات خطاباتنا !!
أما أهم ملامح شخصية هذا السياسي العراقي الُمعولَم الطائفي (أياً كانت طائفته)، فيمكن تحديدها بخصائص شخصية السياسي المُعولَم (أياً كانت جنسيته) الواردة في السطور السابقة، مضافاً إليها الخصائص المحلية الآتية:
- شخصيته متزمتة متصلبة، تفتقر الى قيم الجمال والتسامح، نشأت غالباً في أجواء المدارس الدينية المذهبية المغلقة، على مدى أربعة عقود من الحجر السياسي الذي تعرض له العراق.
- يعاني بوضوح من أعراض الشخصية التسلطية، أي الافتتان بالقوة والسلطة والخضوع لهما (الماسوشية تجاه الاحتلال) من جهة، والقسوة المفرطة تجاه من يراهم أضعف شأناً أو أوقل أحقية بالحكم (السادية نحو خصومه المحليين) من جهة أخرى.
- تتوافر لديه بعض سمات الشخصية السايكوباثية، كالبرود الانفعالي أمام مشاهد القتل اليومي، وضعف الشعور بالمسؤولية الأخلاقية نحو النتائج الكارثية لسياساته وتحالفاته، والغياب شبه التام لمشاعر الذنب أو التوبيخ أو النقد الذاتي لأخطائه، وافتقاد القدرة على التعلم من الأخطاء عبر الامعان بتكرارها دورياً، والاندفاع الغرائزي غير المحدود لإشباع حاجاته الفزيولوجية والنرجسية على نحو مباشر لا يقبل التأجيل عبر سنّه القوانين التي تؤمّن له الامتيازات المعيشية الضخمة أو انخراطه في الفساد المالي الناجم عن استثماراته وصلاته المالية الخفية في الخارج والداخل.
- مفتون حد الادمان بعقد المؤتمرات الصحفية والظهور النرجسي في وسائل الاعلام، بالرغم من افتقاره الى الثقافة التحليلية الموسوعية، ولذلك فهو متمترس بخطاب لفظي جامد ووسواسي في دلالاته ومصطلحاته، يحاول التغطية عليه بما يبديه من طلاقة كلامية جوفاء.
- عاجز عن التفكير الجدلي. وتهيمن الثنائيات الحدية السطحية على إدراكه للوقائع، مثل: "الخير – الشر"، و"الصديق – العدو".
- تخلو شخصيته من "هوية سياسية" محددة بالمعنى الفكري، مستبدلاً هذا النقص بـ"هوية طائفية" خاوية يستعين بها لتفعيل دوره السياسي بعد عجزه عن أن يكون امتداداً حقيقياً لجماعة اجتماعية أو ثقافية معينة.
- نشأت لديه، بتأثير مركبات النقص تلك، عقدتا "التفوق" و"الشك" نحو الآخرين، والتي اندفع للتعبير عنها عبر شغفه العصابي بالصراع على السلطة، وعبر استعانته بميليشيات مسلحة توفر له "الأمان المفقود"، محيطاً نفسه بدروع بشرية وكونكريتية تحميه من غدر "الآخر"، أو بتصفيته "الاستباقية" لهذا الآخر بوصفه "العدو" و"الشريك" معاً في العملية السياسية!

السياسي المُعولَم العلماني:

على الطرف الآخر من المعادلة السياسية العراقية، نمت شخصية السياسي العلماني ضمن إطارين ايديولوجيين متباعدين فلسفياً في جذورهما، ومتقاربين عملياً أمام الأسلمة والتطييف الحثيثين اللذين باتت تتعرض لهما هوية الدولة العراقية على يد السياسي المعولـَم الطائفي:
• ففي الاطار"الليبرالي"، تأسست خلال العقود الثلاثة المنصرمة، تنظيمات سياسية عراقية معارضة في معظم عواصم الغرب الكبرى، انفتحت في طروحاتها وبرامجها ونشاطاتها السياسية والتجارية على التمويل المخابراتي ولا سيما الأمريكي منه.
• وبالمقابل، ظل الاطار "اليساري" العراقي في المنفى، محافظاً بمجمله على طروحاته الايديولوجية التقليدية وسط رياح التغيير التي عصفت بالمنظومة الاشتراكية العالمية، محيلاً تراثه الكفاحي وعلاقاته النضالية السابقة مع المحيط الوطني والاقليمي والأممي إلى صفقات تجارية وعقود عمل وموافقات إقامة ورواتب للإعانة الاجتماعية، في مهاجر توزعت في شتى أرجاء الخارطة الأوربية.
لقد عانت النخب العلمانية المنضوية تحت هذين الاطارين من تبلد حتمي في بناها الفكرية والتحليلية، بتأثير الكسل الآمن في عواصم الغرب لأكثر من ربع قرن. وحينما عادوا الى الوطن عشية التغيير، برومانسية الفرسان المنقذين، اكتشفوا هشاشة صلاتهم التأثيرية في "قواعدهم" الشعبية التي هشمت ذاكرتها الحروبُ والحصاراتُ وآلة القمع الاسطوري لتنين الفاشية. كما فوجئوا إن الاحتلال الأمريكي، بشركاته النفطية والاستثمارية والأمنية، قرر العزوف عن تمهيد السبيل لهم نحو الامساك بالسلطة، وعقد بدلاً عن ذلك قرانه الغرائبي على النخبة الطائفية، فلاذوا (أي السياسيون العلمانيون) بعبادة البراغماتية المطلقة، فانخرط بعضهم (ليبراليون) في تحالفات غامضة مع قوى اقليمية أو مراكز قوى داخل الادارة الأمريكية عسى أن تحنّ عليهم، فيما آثر البعض الآخر (يساريون) العمل بالحكمة القائلة أن أفضل ما تفعله وسط الضجيج هو الصمت والتغافل والاهتمام بشؤونك الخاصة، حد فقدان الهوية!

  

يبقى السؤال: لماذا اختار الحاكم الأمريكي في المنطقة الخضراء أن يجافي أقرانه وحلفائه المفترضين من السياسيين العراقيين المعولَمين العلمانيين، وأن يسبغ بركاته على السياسيين المعولَمين الطائفيين، وأن ينام معهم على سرير واحد تمتزج فيه أوهام الميثولوجيا الدينية بأرقام حواسيب الشركات "الليبرالية" العابرة للجنسيات؟
إن مفلسف السياسة الأمريكية لم يشف بعد من فوبيا "الشيوعية"، وهو ما يزال يعمم مخاوفه القديمة منها على كل ثقافة أو تيار يجد فيه ميلاً للتبشير بالمساواة ومشتركية الثروة والحقوق. ولأن الشخصية العراقية، ببعديها الواقعي والميثولوجي، تختزن تعلقاً عاطفياً غنياً بضرورة العدل الاجتماعي وحتميته، لا سيما أن تمثال الظلم الذي كان يبدو سرمدياً تدحرج متناثراً وسط بغداد، فكان لهذا المفلسف العصابي أن يتخذ قراره الأول (بعد ولعله قبل) احتلال بغداد :
(( لا يمكن شفط الثروات الطبيعية بسلاسة من أعماق هذه البلاد، ولا تهجير ثرواتها البشرية قسراً الى الغرب، ولا إقامة قاعدة دائمية فيها للتحكم بالمخزون النفطي العالمي، إلا إذا انشغل سكانها "المغرمون بحلم العدالة" بإحراق هويتهم الوطنية، في موقد الطائفية والعِرقية الميتافيزيقي. لا نحتاج أحزاباً اشتراكية، ولا ليبراليين وطنيين، ولا طبقة وسطى مثقفة، ولا رجال دين متنورين. كل ما نريده فكراً أساطيرياً سائداً، يحرك العنفَ واللاعقلانية في سلوك الحكام والناس على حد سواء، نحميه بإطار "دستوري" لفظي ريثما ننتهي من صفقاتنا التي عبرنا البحار والمحيطات لإنجازها بالتمام والكمال!)).
لكن إصدار هذا القرار ما كان يعني أن تنفيذه سيكون ناجحاً بالضرورة، لا سيما إن الحراك السوسيولوجي للجماعات التأريخية المعقدة التكوين، كالمجتمع العراقي، قابل على الدوام أن يتخذ تعرجات وتحاشيات تكيفية تحقق له الديمومة وإعادة تنظيم علاقاته البنائية والوظيفية الداخلية بأنساق مبتكرة تحمي هويته الوطنية المُنجَزة بوصفها الشعور الجمعي الأكثر تلبية لحاجة الفرد الشديدة لتحقيق الاحترام الذاتي والشعور بالفخر والعزة وسط المجتمعات الأخرى.
ولذلك بلغت مشاعر الوطنية لدى العراقيين (في الداخل والخارج) أقصى مدياتها الكمية والنوعية في عز أيام الاقتتال الطائفي والتهجير القسري اللذين أفرزهما الاحتلال، في إشارة بليغة الى ديالكتيك الصيرورة الاجتماعية، إذ تنبعث الوحدة من التفتت، ويبلغ مفهوم "الوطن" أرقى تجريداته العاطفية في أذهان العامة حينما يرون بأعينهم كيف يتم تغييب الإطار المكاني والفيزيقي للوطن رغماً عنهم بوسائل خارجية مصطنعة لا تمت بصلة الى جوهر نسيجهم المجتمعي الذي غزلوه بضرورات الزمن وقوانينه السوسيو- سيكولوجية المتريثة!
إن النخبة السياسية المعولمة الحالية ستدافع عن مصالحها الغرائزية الى آخر قطرة دم عراقية، لكن نخبة سياسية عراقية وطنية عقلانية هي في طور التشكل والتبلور الكامن والبطيء، ولن يذهب الوعي الاجتماعي العميق لدى العراقيين سدى، إذ نؤمن تماماً إن القوانين النابعة من داخل الظاهرة الاجتماعية تظل المحك الأكثر اسهاماً في تقرير مسارات الظاهرة بالرغم من تفاعلها الجدلي (ايجاباً أو سلباً) مع قوانين الخارج وتحدياته وإلزاماته. وسيضطر مفلسف السياسة الأمريكية لاحقاً الى الإقرار بوجود "ظاهرة عراقية" تتجاوز حساباته البترولية، وهي ظاهرة متقدمة ومتمردة بالضرورة على الإطار "العمائمي" الضيق الذي حُشرت فيه حشراً. وسيضطر الى التعامل مع يسار عراقي جديد، ومع جماعات تكنوقراطية ثورية من طراز غير مسبوق، ومع حركات ثقافية تنويرية واسعة التأثير، ومع تنظيمات دينية متنورة اجتماعوية التوجه تؤمن بأسبقية الوطن على الدين، ومع مجتمع مدني فقير ومحروم وممزق ولكنه قابل للبقاء والتسامح والتوحد والنمو والاحتجاج الايجابي والتطور السلمي المبدع داخل إطار "النزعة العدالوية" التي ميّزت وستظل تميز هويته الجمعية المُنجَزة !

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هامش
* المنطقة الخضراء Green Zone: مصطلح جغرافي – سياسي، أطلقه الجيش الأمريكي عند احتلاله لبغداد في نيسان 2003، على منطقة القصور الرئاسية التي شيدها "صدام حسين" على نهر دجلة إبان سنوات حكم البعث (1968 – 2003)م، والتي تشغل مساحة تقدر بـ (10) كم مربع ما بين جسري "الجمهورية" و"14 تموز" (المعلق). وابتداءاً من تأريخ الاحتلال هذا، أصبحت هذه المنطقة بقصورها وبيوتها وشواهدها العمرانية، المعقل الحصين للإدارة الأمريكية في العراق، ثم للسفارة الأمريكية لاحقاً، وكل مؤسسات السلطة العراقية الجديدة التي تعاقبت بعد ذلك في ظل الحماية العسكرية الأمريكية. وقد غدت "المنطقة الخضراء" مصطلحاً مألوفاً في القاموس السياسي العراقي والعالمي، يرمز الى تمتع الأقلية الحاكمة بالأمان والحماية والترف المعيشي وخدمات الماء والكهرباء والاتصال، وسط أكثرية سكانية مهمَلة ينخرها الفقر والفوضى الدموية وانعدام الخدمات وتعطل القوانين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شئ بديع ولكن
ابو حيدر ( 2009 / 8 / 13 - 23:20 )
استاذ غارس اهنئك على هذه المبادره الفكريه الرائعه والجديده
ولكن صدقني ان النفط وابو النفط في الراءسماليه المعولمه - اي الراقيه - حيث من خلال السوق تقوم الراءسماليه بوظائفها على احسن مايرام بلا حروب ولااحتلالات ولا وضع يد
من الضروري ان نصفن صفنه عميقه لاستيعاب ماحصل في دنيانا وان نتحرر من قيود افكار وخرافات الحرب البارده وعنجهيات بناء الاشتراكيه في بلدان حافيه
مع كل التوفيق في هذا النوع الجديد - علي على الاقل - من التحليل المعولم


2 - مقالةيجب قراءتها
محمد سعيد ( 2009 / 8 / 14 - 15:44 )

دراسة رائدة شخصت انماط القادة الجدد في عراق ساهمت مع قوي الاحتلال في الاستمرار في تدميرة وابقاءة عاجزا عن النهوض المستقل وان يظل يدور في دوامة النظام العالمي المعولم .يطلق البرفسور وليم روبنسمون علي هذة النخبة الوكيلة الجديد ب “polyarchy” حيث اشار الي الترابط بين هذة الفئة والنخبة العالميةحيث قال -يتحكم اليوم بالاقتصاد العالمي احتكارات راس المال ويدار من قبل وكلاء يشكلون نخبة عالمية واعية لمصالحها الطبقية وتتخذ من بلدان المركز مقرا لادارة هذا النظام الذي تقودة الولايات المتحدة الاميركية .ان تسارع عملية تمركز راس المال والقوة الاقتصادية بايدي هذة النخبة العالمية في بلدان الشمال جعلها قادرة علي التاثير بشكل حازم في تنظيم العلاقات بين شرائح المجتمع وتكوين اصطفافات جديدة وتشكيل النظام السياسي في كل بلد ضمن هذا النظام من خلال اعادة توزيع النفوذ السياسي والاقتصادي في كل اقليم يرتبط بالراسملية الكونية والشركات العالمية الكبري ومجمل الاقتصاد الكوني بالتالي يصبح تسيير الاقتصاد والسياسة بهذة الدول منسجما وخاضعا لمسيرة العولمة التي تقودها النخبة الكونية الحاكمة وبعد ان تضع لها وكلاء تكنوقراط في البلدان النامية –الجنوب – لتراقب مسيرة اعادة الترتيب الاقتصادي الاجتماعي الجديد .
)William

اخر الافلام

.. بين الاتهامات المتبادلة والدعم الكامل.. خبايا العلاقة المعقد


.. الشيف عمر.. أشهر وأطيب الا?كلات والحلويات تركية شغل عمك أبو




.. هل ستنهي إسرائيل حربها في غزة.. وماذا تريد حماس؟


.. احتجاجات طلابية في أستراليا دعما للفلسطينيين




.. أصداء المظاهرات الطلابية المساندة لغزة في الإعلام • فرانس 24