الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النبوة الخاصة والعامة بين الإمكان والوجوب والامتناع

تنزيه العقيلي

2009 / 8 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


عندما نتحدث عن أدلة النبوة، وكل ما يرتبط بها، من وحي، وتبليغ، وأحكام لشريعة إلهية، أو من وجود رسل، وأديان، ووحي، مُدوَّن بعضه في كتب مقدسة، فلا بد من تقسيم البحث ابتداءً إلى النبوة العامة، والنبوة الخاصة، وأي منهما تثبت أو يدعى ثبوتها بالأخرى، الخاصة بالعامة، أم العامة بالخاصة، أو بتعبير آخر، بين النبوة كمفهوم عام، والنبوة كمصادق خاص، بما يعني بالنسبة للمسلمين نبوة محمد، وعلماء الكلام يوردون الأدلة العقلية والنقلية، على كل من النبوتين.



عندما نتناول هذه القضية ونفحص أدلة علماء اللاهوت أو علماء العقائد (Theology)، لا نجد دليلا قطعيا على صدق النبوة، بل قد نجد من الأدلة ما يجعل النبوة أمرا ممكنا من الناحية العقلية، وقد تستطيع بعض طرق الاستدلال أن تصل بالمتلقي إلى ما يجعله يرجح صدقها، دون إمكان بلوغ مرتبة القطع واليقين. بل الأدلة القطعية هي وهم يتوهمه أصحاب هذه أو تلك العقيدة عبر يقين مسبق، مما يجعل صاحبه يقتنع بالأدلة التي تؤيد عقيدته المتخذ قرار الإيمان القطعي بها بموقف مسبق، وبالتالي فإن لاهوتيي تلك العقيدة يوردون حصرا الأدلة القوية، أو التي تبدو قوية للمتلقي غير المتوفر على مؤهلات الإلمام بكل طرق الاستدلال العقلي، والمشحون بقرار التصديق المسبق، ويسكتون عن موارد الضعف والثغرات في أدلتهم، ثم يوردون بالعكس الضعيف من استدلال خصومهم، أو حتى ما يبدو قويا، ولكن ما يملكون القدرة على الرد عليه بأدلة تكون أكثر متانة، أو تبدو كذلك، أو يدعّون ذلك، بما يجعل المتلقي يصدق بمتانة أدلة الرد على الخصوم. ولا نجد لاهوتيا يعرض هو عقيدة دينه الذي يدين به بطريقة يكتشف عبرها نقاط الضعف والثغرات المشتملة عليها الأدلة المسوقة لصدق تلك العقيدة. أقول كل هذا عبر تجربتي التدريسية، لاسيما في تدريس العقائد؛ تلك التجربة التي طالما استوقفتني خلالها الثغرات الاستدلالية، والخلط بين الممكن والواجب العقليين، والخلط بين المنهج العقلي والمنهج التبريري، المتلبس بشكل المنهج العقلي، لا بجوهره الحقيقي. ولطالما رفضت المنهج التبريري هذا الذي تعتمده الكتب التدريسية المعتمدة، مصرا على مواصلة المنهج العقلي، وتأصيل مرجعية العقل، بدلا من مرجعية النص الديني، مقدما العقل على النص المقدس.



إن أصل فكرة أن يختار الله من أفراد المجتمع البشري أشخاصا، فيوحي إليهم برسالته إلى الإنسانية، ويكلفهم بمهمة تبليغ ما يوحى إليهم من رسالة، تتناول تصحيح العقائد، وتشريع الأحكام، ونقد السائد من أعراف وتقاليد خاطئة، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، من حيث المبدأ تمثل إخبارا بدعوى قابلة للتصديق وللتكذيب، كونها من ممكنات العقل، وليست من ممتنعاته، ليمتنع التصديق، وبالتالي يجب التكذيب بها، ولا هي من واجباته، ليمتنع التكذيب، وبالتالي يجب التصديق بها.



ولكن يمكن القول ابتداءً، ولكونها قضية استثنائية، إن المطالَب بالأدلة هو القائل بصدقها، وليس القائل بكذبها. وكونها أصبحت ظاهرة مألوفة مرت عليها الثلاثة آلاف سنة، وصدّق بها أكثر الناس عبر الأجيال المتتالية، بما في ذلك المثقفون والعقلاء، لا يحولّها من قضية استثنائية إلى قضية عادية، أو بتعبير آخر من استثناء إلى قاعدة، بحيث يُستنكَر على غير المصدقين بها، أو المصدقين غير الموقنين، المطالبة بالدليل، لأنها ليست كالحقائق العلمية، مثلا كحقيقة دوران الأرض حول الشمس، التي لم تكن من قبل معروفة لدى الإنسان، فأصبحت من البديهيات، حيث إن الأدلة العلمية على ما هو متحقق، لا على ما هو مفترض التحقق، أدلة قطعية، إلا إذا كان غيرلا المتحقق ممكنه يقينا عبر خضوعه لقانون طبيعي، تيقن العلم من صحته وشمول سريانه. بينما قضايا الدين، وعالم ما وراء الطبيعة، تبقى مفتقرة إلى الدليل.



أدلة النبوة العامة على النبوة الخاصة:

المقصود بالنبوة العامة، هو أصل ثبوت مبدأ النبوة (رسل، أنبياء، وحي، كتب مقدسة، رسالات إلهية ...). وهنا لا بد من معالجة هذا الموضوع عبر مرحلتين؛ الأولى تقرير حكم العقل مستقلا تجاه دعوى النبوات والأديان، ما إذا كانت من الممتنعات العقلية، أو الضرورات العقلية، أو الممكنات العقلية. بدأت بالممتنعات، لأن لو ثبت الامتناع العقلي، لتوقف البحث عند هذه المحطة، فيكون الموضوع منتفيا بانتفاء الإمكان. ثم تلوت الامتناع بالوجوب، لأنه لو ثبت الوجوب، يكون أصل النبوة، أي النبوة العامة، قد ثبت مفهوما، ويبقى علينا البحث في صدق مصاديقها، فيما هي هذه أو تلك النبوة الخاصة. وعندما يتكلم المسلمون عن النبوة الخاصة، فيعنون بها نبوة محمد. فاليهود صدّقوا بالنبوة العامة، وبالنبوات الخاصة، التي هي النبوات المعترف بها من قبل دينهم وكتابهم المقدس، وكذّبوا بالنبوات الخاصة لكل من عيسى ومحمد، والمسيحيون صدّقوا بالنبوة العامة، وبالنبوات الخاصة، التي هي النبوات المعترف بها من قبل دينهم وكتابيهما المقدسين (العهد القديم والعهد الجديد)، وكذبوا بالنبوة الخاصة لمحمد. أما إذا قررنا بالدليل أن النبوة لا واجبة ولا ممتنعة عقلا، فعندها يمكن - ولا لأقول يجب - البحث بحيادية وتجرد تامين عن مدى صدق دعوى الأديان.



دعوى ثبوت النبوة العامة بالنبوة الخاصة:

هذه الدعوى فيها دور، والدور في الاستدلال ممتنع عقلا. وأقصد بالدور بأن النبوة العامة نفسها تحتاج إلى دليل، وكوني قد صدّقت بها سابقا، إنما صدّقت بدليل تصديقها من قبل الكتاب المقدس الذي أؤمن به، لأني – في حالة الإسلام - توهّمت انسجام القرآن مع ضرورات العقل، ولذا اعتبرت تصديقه حجة، وذلك مع الإيمان بأنه قد طرأ على الأديان السابقة تغيير وتحريف، وإلا لو كنت بحثت فيها مسبقا، بدون افتراض صدقها بدليل تصديق الإسلام لها، فهي، وبالرغم من الكثير من تألقاتها، مليئة بالمقولات الخرافية، والتي تنسب إلى الله سبحانه وتعالى النقص في الحكمة تارة، وفي القدرة تارة أخرى، وفي العدل تارة ثالثة، وفي العلم تارة رابعة، وذلك بشكل ضمني، وإن لم يكن مصرَّحا به، لكن تلميحاته تكاد تكون بدرجة التصريح. وهذا كله من موارد النقص المنسوب لله محال، ليس بضرورة الإسلام، بل بضرورة العقل. ووجدت وبحق أن القرآن نزهه سبحانه عن جُلّ ما نسبت إليه تعالى الكتب المقدسة السابقة، ولكني بعد التعمق في القرآن، وجدت القرآن هو الآخر ينسب إلى الله ما لا يليق بعدله ورحمته وحكمته وجماله وجلاله، كما سأبين لاحقا، إلا إذا أُوِّلت تلك النصوص بجهد فوق العادة، لا يبتعد عن ليّها ليّا عنيفا. إذن تصديق ما يحتاج إلى دليل بدليل يحتاج إلى دليل محال عقلا، ومن هنا دعوى أن الأديان السابقة قد بشرت بدين الإسلام ونبيه بشخص محمد، حتى لو ثبت صدق هذه الدعوى، لا يصلح دليلا لصدق إلهية مصدر الإسلام. ونفس الشيء يقال عن ثبوت صدق النبوات السابقة بدليل تصديق الإسلام لها، أي بما يحتاج نفسه إلى دليل، فإنه محال عقلا هو الآخر.



والآن لننظر إلى ما يسوقه علماء الكلام المسلمون من أدلة على صدق كل من النبوة العامة ونبوة محمد، لنرى مدى قدرتها على مواجهة أدلة العقل النافية لها، أو المشككة بصدقها. وهنا لا بد من تثبيت أني في لحظة كتابة هذا البحث، كنت ما أزال أتبنى مقولة الإمكان بالنسبة لصدق النبوة الخاصة، أي المصداق لمفهوم النبوة العام المتجسد بنبوة محمد، وترتيبا عليها صدق النبوة العامة مفهوما، ومصاديقها أي النبوات السابقة، بدليل تصديق الخاص بالعام، في حال ثبت صدق الخاص يقينا. ولكن الإمكان العقلي لا يمنع من الوصول إلى نتيجة بترجيح إحدى كفتي التصديق أو عدمه، واللتان رجحت منهما عندي مع الوقت وباطراد كفة ترجيح عدم ثبوت النبوة؛ هذا الترجيح الذي أريد أن أبيّن أسبابه وأدلته.



هناك مقولة تناقلتها الأجيال المسلمة جيلا بعد جيل، واعتبرتها من البديهيات التي لا يقوى دليل على نقضها، وهي مقولة المعجزة الخالدة المتمثلة بالقرآن. ولو تمعنا بدقة في هذه الدعوى، لن نجد أمرا معجزا بحيث يصلح كدليل قطعي على إلهية القرآن، بل على مواجهة التشكيك بهذه الدعوى. فالكل يردد أن القرآن تحدى، ولم يستجب أحد لهذا التحدي. فالتحدي مثلا بأن يؤتى بمثله، يعتبر تحديا غريبا، لأننا إذا أتينا بمثله تقليدا له، مع تغيير في بعض المفاهيم والمفردات، فهذا سيعتبر تقليدا له، وأما إذا أتينا بشيء مغاير، فالقول أن القرآن أبلغ وأفصح وأدق وأشمل وأجمع وأمنع، تبقى قضية نسبية لا دليل عليها. فلو صح ادعاء أن كل نتاج بلاغي أو فكري استثنائي يكون إلهي المصدر، فلعل نتاج الكثير من المبدعين من شعراء وفلاسفة وفنانين وعلماء طبيعة يمكن نسبته إلى الله وادعاء الإعجاز له. وإذا قيل أن كل هذه النتاجات غير معصومة من حيث إمكان نقدها، فالقرآن لا يستثنى من هذه الحقيقة. وهناك في القرآن أدلة كثيرة على تعارضه مع الحكمة والفصاحة والبلاغة. ومع الوقت سأتناول تلك التعارضات، التي أذكر هنا أمثلة منها على شكل عناوين:



- التكرار دليل العجز عن التعبير عن الفكرة بنص واحد جامع مانع لا ثغرة في بلاغته وفصاحته. (مثال قصة خلق آدم).

- تعدد الفهم والتأويل، بحيث يكون الفهم الصحيح لا ينال إلا بجهد استثنائي ومحصورا في إطار النخبة.

- تحدث الله بضمير الجمع، مما ينافي حقيقة واحديته، وإن برر ذلك من المفسرين على أنه جمع التعظيم، وهذا هراء.

- قصص الأنبياء، وما فيها من غرابة، وتعارض مع الحكمة، ومع القيم الأخلاقية.

- القسوة الدنيوية عبر الأحكام والحدود، والأخروية عبر الجزاء بنار جهنم، كموقف تجاه الآخر المغاير عقيدة، أي من لا يؤمن بالإسلام، وإن آمن بالله واليوم الآخر، والتزم بالبعد الأخلاقي والإنساني في علاقته مع الناس، والبعد الإيماني والروحاني في علاقته مع ربه.

- الموقف من المرأة.



وهذه مجرد عناوين، سأورد في مقالات لاحقة بحوثا تفصيلية عن كل منها، وأقول مسبقا أني أعرف أعرف الإجابات، ولطالما أجبت المشككين بها، قبل أن أكتشف مع الوقت شيئا فشيئا أنها ليست إجابات حقيقية، بل هي تيريرات وهروب من مواجهة الحقية، خوفا مما يسميه المؤمنون الدينيون بسوء العاقبة، دون أن يدركوا ان الإيمان العقلي الفطري، أي اللاديني، هو الإيمان الأنقى والأقرب إلى كل من العقل والفطرة، وهو الأكثر تنزيها لله سبحانه.



في وقت لاحق سأتناول بتسديد الله، جلّ وعلا، أدلة النبوة، كما يعرضها علماء الكلام المسلمون، وأناقش مقولات الامتناع العقلي، والوجوب، والإمكان، بشكل أكثر تفصيلا.



كتبت في 2008

روجعت في 15/08/2009









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكر وتقدير
علي ( 2009 / 8 / 16 - 20:46 )
السيد تنزيه بعد التحية الطيبة .. لك الشكر على هذا الجهد الرائع وسأتابع سلسلة مقالاتك التي وعدت بها
تركتك بخير


2 - انا اؤيدك
حب لاينتهي ( 2009 / 8 / 16 - 22:10 )
انا اؤيدك في كل كلامك
فأنا اجد ان جميع الاديان كلها مثل اساطير وخرافات
وبرغم العلم والتقدم ما زالت الناس تحن وتشتاق لماضي اجدادهم
عن طريق دين كان الاجداد يتبعونه وهم جاهلون ,
برغم ما يجدونه من تناقض ونسخ وقصص وهمية في الاديان لكن ما زالت الناس تحب من يستعبدهم عن طريق الدين والخوف والرعب من المجهول
اتمني ان نجد كلنا الطريق الي الله العظيم الذي خلق هذا الكون العظيم
ما اظنش الله الذي خلقنا وخلق هذا الكون الجميل , خلقنا حتي يعذبنا


3 - خير الناس من نفع الناس
باحث عن الحقيقه ( 2009 / 8 / 17 - 06:19 )
نتابع بشوق وشغف لتبيان الحقيقة ولا سيما من رجل كـ شخصكم الكريم وكما بينت بانك كنت مدرسا للدين ولكنك بعد البحث وجدت ان ما كنت تدافع عنه هو مجرد مغالطات لتبرير ما كنت تؤمن به. اخي الكريم اتمنى عليك ان تكتب باسلوب مبسط كي يتاتى للكل من مثقفين وغير مثقفين فهم الموضوع مع الاستدلال بالمصادر الاسلاميه لكيلا احد يقول هي من بنات افكارك ويا حبذا لو تخبرنا الى اي مذهب تنتمي .تحياتي لكل الساعين لاظهار الحقيقة بعيدا عن التعصب وللحقيقة وحدها فقط. تحياتي لك وسلمت اناملك.


4 - الكاتب المحترم
الجوكر ( 2009 / 8 / 17 - 10:12 )
شكرا على الموضوع الذي يفتقر للحقائق الثابتة في القرآن
لقد كتبت التالي
- تحدث الله بضمير الجمع، مما ينافي حقيقة واحديته، وإن برر ذلك من المفسرين على أنه جمع التعظيم، وهذا هراء.
أنا أجيبك ياسيدي
هذه الأيات ليست جمع تعظيم لأن الله تعالى غني فهو عظيم في ذاته
فضمير الجمع هنا إشارة لفئة من خلقه إصطفاهم لأمره
فحقيقة الفعل لله تعالى فله الأمر من قبل ومن بعد وحركته بهم
قال تعالى
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
وقال تعالى مخاطبا نبيه عيسى عليه السلام
ورسولا الى بني اسرائيل اني قد جئتكم باية من ربكم اني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا باذن الله وابرئ الاكمه والابرص واحيي الموتى باذن الله وانبئكم بما تاكلون وما تدخرون في بيوتكم ان في ذلك لاية لكم ان كنتم مؤمنين

عزيزي نحن في إنتظار كتاباتك
وما هذا إلا غيض فلا تدع نفسك موضع الحاكم وأنت محكوم
قال تعالى
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
دمت بعافيه


5 - عيب الانسان الوحيد
ahmed ( 2009 / 8 / 17 - 12:44 )
اذا كانت هذه نماذجك من التعارضات فى القران فاقول لك سلامة عقلك
سيد على لاتتسرع اخاف عليك من النهاية
عيب الانسان الوحيد انه يستطيع ان يفكر!!!!!!

اخر الافلام

.. أول موظفة يهودية معيّنة سياسيا من قبل بايدن تستقيل احتجاجا ع


.. البابا فرانسيس يعانق فلسطينياً وإسرائيلياً فقدا أقاربهما على




.. 174-Al-Baqarah


.. 176--Al-Baqarah




.. 177-Al-Baqarah