الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفارقات المثاقفة بسوس –الجزء الرابع

ابراهيم ازروال

2009 / 8 / 18
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



وقد نتج عن الاستعراب أو التعريب و"التفقيه" و"التصويف" المنهجي للمغارب وسوس تخصيصا ما يلي :
1- خلق ازدواج ثقافي ، في الثقافة السوسية نفسها ، وخلق نوع من التجاور العضوي أو اللاعضوي بين المأصولات السوسية والمنقولات العربية ؛ وقد تميز هذا التجاور، عموما ، بتوزع رؤيوي ، تؤكد فيه اللغة الأمازيغية على تاريخها العقدي والفكري فيما تتشبث المنقولات الفقهية بحتمية تجاوز ذلك التاريخ العقدي والقبول المرحلي بحامله اللغوي المتغلغل في الشخصية الأمازيغية . والواقع أن الفاعل الأمازيغي ، ارتضى هذا التوزع والازدواج الرؤيوي في غياب أطر اجتماعية للمعرفة الأمازيغية وفي غياب الوعي بتقعيد الوعي الأمازيغي ؛
2- القرض التدريجي للسان الأمازيغي ، عبر إغراق اللغة الأمازيغية بالمنقولات اللغوية العربية ، وفرض منافسة لغوية غير متكافئة في سوق التداولات اللغوية بسوس بالنظر إلى تأكيد المخزن المركزي والمؤسسة الفقهية المالكية على الأفضلية التداولية للغة العربية .
نقرأ في سيرة أمازيغية لسيدي إبراهيم الماسي ما يلي :
( لا بود أداسند يازن لهاشم لهادييات نس ، ئما لهادييات نس لي ياسد ئتازن غ كرايكان ئخف ؤوسوكاس أبادان، أراسد ئتازن تاوايا ديسمك ، ئما مولاي عابد راحمان لابود أديازن ئ لهاشم أقنضارن ن لمال كرايكان أسكاس ئنا ياس : صاداقا لجادنك سيدي حماد ؤموسا ، أداغ ئنفعا ربي س لباراكا ن زاويت نس ، آمين . ) .
( - سيدي ابراهيم الماسي – أخبار سيدي إبراهيم الماسي عن تاريخ سوس في القرن التاسع عشر – تعريب وتعليق عمر أفا – منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية –الطبعة الأولى -2004-ص.56).

وقد ترجم عمر افا هذا النص إلى العربية :
( صار من الأكيد أن يبعث هاشم هدايا لمولاي عبد الرحمان على رأس كل سنة على الدوام ، حيث كان يبعث له أمة وعبدا . أما مولاي عبد الرحمان فقد دأب أيضا على أن يبعث لهاشم ألف مثقال سنويا ، قائلا بأنها تعتبر صدقة لجدك سيدي أحمد أوموسى – نفعنا الله ببركة زاويته ، آمين . )
( - سيدي ابراهيم الماسي – أخبار سيدي إبراهيم الماسي عن تاريخ سوس في القرن التاسع عشر – تعريب وتعليق عمر أفا – منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية –الطبعة الأولى -2004-ص.57).
يحبل نص إبراهيم الماسي المكتوب في ثلاثينيات القرن التاسع عشر ( 1834) بمعحم عربي غزير نسبيا ( لا بود : لابد / لهادييات : الهدايا / أبادان : أبدا / أقنضار : قنطار / لمال : المال / صداقا : الصدقة / لجادنك : جدك / لباراكا : البركة / زاويت : الزاوية ...الخ ) ، ويبني عالما دلاليا يؤثثه المخيال الديني العربي – الإسلامي ويمده بالتوجيهات العرفانية الأكثر انغراسا في اللامعقول الطبيعي والسياسي . فلتقريب المدلولات الفقهية والمناقبية للنص ، لا بد للكاتب الأمازيغي من الامتياح من بئر المعجمية العربية العرفانية !
والحقيقة أن قرض المعجمية العربية ، الفقهية والصوفية في المقام الأرأس ، للمعجمية الأمازيغية لا ينحصر في الاستعارة والاقتراض المعجمي فقط ، بل يتجاوز ذلك ليطال الدلاليات والتداوليات ، ويمس الإطار الميثو- تاريخي والميثو- إيديولوجي ، للثقافة الأمازيغية .
3- محاصرة الإبداع الثقافي الأمازيغي بعد مأسسة الفقه المالكي والتصوف الجنيدي ؛ فالثقافة الفقهية المالكية / الأشعرية / الجنيدية ،محكومة بالأطر النظرية للشرع ، وبالأسس النظرية للفكرية السنية .
يقول محمد أديوان في قولة أحسنت التوصيف وأخطأت سبيل التعليل :
( إن الثقافة السوسية مرتبطة بالفروع المالكية بعيدة عن أجواء الجدل والتنظير . ذلك أن التحديات التي واجهت الثقافة السوسية هي تحديات عقدية وليست مذهبية ، فعلماء سوس كانوا يواجهون العدو الكافر في صورة النزوع البورغواطي المارق عن الدين إذ لا يتعلق الأمر بخلافات مذهبية بسيطة و إنما بخلاف مبدئي على مستوى العقيدة والعبادات . )
(-محمد أديوان – النسق الثقافي بين سوس والصحراء – ضمن : الصحراء وسوس من خلال الوثائق والمخطوطات : التواصل والآفاق – إعداد : عمر أفا – منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط- الطبعة الأولى – 2001-ص.154-155) .
فالتنميط المالكي للمغرب ، بعد محو الفعالية النظرية للتراث الأمازيغي القديم ، وتصفية التراث الشيعي والخارجي والاعتزالي والبورغواطي ،قاد إلى تكريس وضع دليلي نقلي واتباعي فاقد لأي فعالية إبداعية أو قدرة تصورية أو كفاءة نظرية . ويكمن القاسم المشترك بين المالكية والأشعرية والجنيدية في اعتماد نسق دلالي مغلق ،منشغل كليا بإحداثيات ميثو- معرفية ، وبمبتغيات نجاتية ولاهوتية . فالمالكية تروم تحكيم القواعد الفقهية في كل مفاصل الحياة الاجتماعية ،وتحويل الأفراد إلى ذرات في سديم الشرع . أما الأشعرية فتتغيا ، المدافعة المنهجية شبه العقلية عن المرسخات السلفية والتصورات السنية عن الذات والصفات والأفعال الإلهية وعن حدود الفعالية التعقلية للإنسان . أما التصوف فقد سعى ، في العمق ، إلى استكمال الترميز الديني ، وبناء نسق دلالي استنادا إلى المكنونات العرفانية الوردة في النص الشرعي . فالمالكية تلغي العقل التشريعي رمة ، والأشعرية تبطل العقل المعرفي والسببية والعلية والتوليد وحرية الإنسان ، والجنيدية تتوخى نقل الإنسان إلى التجوهر عبر الجمع بين علم المعاملة و علم المكاشفة ،بين الشريعة و الحقيقة .
نقرأ في كتاب ( أعز ما يطلب ) ما يلي :
( سبحان من شهدت الدلالات والآيات بأنه لا تتناوله الأوقات ، سبحان من شهدت الدلالات والآيات بأنه لا تحيط به الادراكات ، سبحان من شهدت الدلالات والآيات بأنه لا تعتريه الحاجات ، سبحان من شهدت الدلالات والآيات بأنه لا تطرأ عليه الآفات ، سبحان من شهدت الدلالات والآيات بأنه عالم بجميع المعلومات . سبحان من شهدت الدلالات والآيات بأنه مدبر لجميع الكائنات ، سبحان من شهدت الدلالات والآيات بأنه لا يفعل بالآلات . سبحان من شهدت الدلالات والآيات بأنه لا تلتبس عليه الأصوات ، سبحان من شهدت الدلالات والآيات بأنه لا تخفى عليه الخفيات ، سبحان من شهدت الدلالات والآيات بأنه لا يشبه المخلوقات ، سبحان من شهدت الدلالات والآيات بأنه لا تتناهى له المقدورات ، سبحان من شهدت الدلالات والآيات بأنه لا تنحصر له المعلومات ، سبحان من شهدت الدلالات والآيات بأنه جل عن التكييفات ، سبحان من شهدت الدلالات والآيات بأنه إلاه من في الأرض والسماوات . )
(- محمد بن تومرت – أعز ما يطلب – تقديم وتحقيق : عبد الغني أبو العزم – مؤسسة الغني للنشر – الرباط – المغرب -1997- ص 226) .
ينهض هذا النص ، دليلا على افتتان بعض الأمازيغيين واهتيامهم ، بموسيقى الألفاظ ،وبالمتواليات اللغوية المرصوفة رصفا ، وبالتوقيع النغمي المترفع عن الاستدلال البرهاني البارد . والواقع أن اللفظية والتهوس بالتنغيم البلاغي وبالمحسنات البلاغية ، كثيرا ، ما تبعد النظر عن التدقيق في المضامين ، وعن التحقق في الملاءمة النظرية أو الصلابة المنهجية للمقررات الأشعرية أو الاجتهادات الفقهية أو التأويلات الصوفية . فهذه الفكرية الموسومة باللفظية والنصية والنقلية واللاسببية ، مناقضة للعقل الإبداعي الاستدلالي المتفاعل مع المعطيات المتجددة للمعرفة بالطبيعة والإنسان والكون . فرغم افتقار التراث الأمازيغي ، لجهاز نظري أو إطار فلسفي أو علمي مصاغ نسقيا ، فإن الأمازيغي قادر على التعاطي الإبداعي مع الكثير من الإشكاليات التاريخية .أما المعتصمون بلذة الألفاظ وحلاوة المجازات اللاهوتية ،فلا يلتمسون العزاء للاستعصاءات ، إلا بالدعوة إلى نبذ البدع والتزام منطق التحليل والتحريم أو الانقطاع عن الخلق جملة !
4-تغييب أي مأسسة للغة والثقافة الأمازيغية . فالامازيغي المتشبث بالتشريع وبالأطر الاجتماعية والسياسية لحياته ، لم يستوعب مأسسة اللغة والثقافة الأمازيغية ، ولم يتمكن من خلق الأطر الاجتماعية الأمازيغية . ولاعبرة في هذا المقام ، بالمؤلفات المكتوبة باللغة الأمازيغية ، بالنظر إلى انتظامها في سياق فكرانية عربية – اسلامية استيعابية ثقافيا ، ورافضة ، مبدئيا ، للتعددية الثقافية وللمثاقفة المتكافئة .
وهكذا ، غابت المأسسة اللغوية ، وافتقرت الأمازيغية السوسية إلى المعاجم والقواميس وكتب اللغة المتخصصة ، كما تعرضت الذاكرة الأدبية السوسية لنزيف كبير ، بسبب غياب التدوين والكتابة . ولا يمكن للذاكرة في سياق متحول ومتموج مثل السياق السوسي ، المعروف بتقلباته وتحولاته التراجيدية ، أن تحتفظ بالمنجزات الإبداعية الشفوية .
لقد عاش السوسي وضعية فصامية في الواقع ؛ فهو معتز باللغة الأمازيغية ، إلا أنه عاجز عن مأسستها ومعيرتها وتقعيدها وتمتيعها بالمؤسسات والبنيات الفكرية القمينة بحفظ ديمومتها من جهة ، وهو راغب في لغة يعجز في الغالب عن اتقانها أو التضلع فيها . وقد أشار ابن خلدون إلى ظاهرة الاستعراب الإشكالي للأمازيغ في المقدمة .
يقول ابن خلدون :
( فأهل إفريقية والمغرب لكما كانوا أعرق في العجمة و أبعد عن اللسان الأول ، كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم . ولقد نقل ابن الرقيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له : " يا أخي ومن لا عدمت فقده ، أعلمني أبو سعيد كلاما أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي ، وعاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج . و أما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلا ، ليس من هذا حرفا واحدا . وكتابي إليك و أنا مشتاق إليك إن شاء الله ". وهكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري ، وسببه ما ذكرنا .
وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة ، ولم تزل كذلك لهذا العهد . ولهذا ما كان بإفريقية من مشاهير الشعراء ، إلا ابن رشيق وابن شرف . و أكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها ، ولم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن ماثلة إلى القصور .)
(- ابن خلدون – المقدمة – تحقيق : درويش الجويدي – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – طبعة : 2002- ص .563-564).
فلا الأمازيغ أتقنوا الاستعراب ، ولا العرب أتقنوا التعريب، فبقي المشهد اللغوي بسوس خلاسيا أو فصاميا ، تهيمن فيه امازيغية بلا اطر معرفية ولا بنيات منهجية وتدرس فيه عربية منقطعة عن المعهود اللغوي للقوم ومحصورة في نخب ما وجدت إلا لتستجيب لحاجيات الكتل الأمازيغية ، وهي حاجيات وظيفية تقنية في الغالب.

والأنكى أن الثقافة العربية – الإسلامية ، استكفت عن الاستمزاغ أي البحث المنهجي في أصول وفصول اللغة والثقافة الأمازيغية ، واكتفت بالدعوة إلى الاستعراب مع التمسك بالتراتبيات الميتافزيقية وبالمقامات القدسية الموضوعة من قبل مدبري المقدس الإسلامي .

ألم يحن وقت كتابة التاريخ النقدي للإمبريالية الثقافية العربية –الإسلامية ؟ ألم يحن أوان كتابة تاريخ المثاقفة الصعبة بين ثقافة شديدة التمركز وثقافات غيرمدعومة سياسيا ومؤسسيا ؟ألم يحن وقت تدشين مبحث "الاستعراب " ، باعتباره مبحثا نقديا استشكاليا ،للثقافة العربية من منظور ذاتيات غير عربية ؟


إبراهيم ازروال
اكادير – المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صفقة أمريكية-سعودية مقابل التطبيع مع إسرائيل؟| الأخبار


.. هل علقت واشنطن إرسال شحنة قنابل إلى إسرائيل وماذا يحدث -خلف




.. محمد عبد الواحد: نتنياهو يصر على المقاربات العسكرية.. ولكن ل


.. ما هي رمزية وصول الشعلة الأولمبية للأراضي الفرنسية عبر بوابة




.. إدارة بايدن تعلق إرسال شحنة أسلحة لتل أبيب والجيش الإسرائيلي