الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد الإنسان – الجزء الرابع

آية آبول

2009 / 8 / 20
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كما تغير حال النبي محمد بعد هجرته إلى مكة كذلك تغيرت توجهات النص المقدس المصاحب له؛ فكما تحول محمد بن عبد الله من إنسان بسيط متعبد مسالم بين اسوار مكة إلى حاكم قائد محارب داخل المدينة، كذلك تحول القرآن من خطاب مسالم يدعو إلى العفو وعدم الغلظة في القول والجدال بالتي هي احسن داخل اسوار مكة إلى خطاب يثربي حربي يدعو إلى القتال والإثخان في الأعداء وضرب اعناق من لا يؤمن بالله ورسوله ولا يحرم ما حرم الله ورسوله. وذلك التغيير هو تفاعل طبيعي وانسجام بديهي مع البيئة الجديدة التي وجد النبي نفسه بداخلها؛ ففي مكة كان إنسانا بسيطا يخاف بطش الناس ويحاول جمع اتباع له ويبحث عن قبيله تضمه وتأويه، ولكنه في المدينة حاكما وراعيا عليه مسئوليات وواجبات لا تتيح له فرصة التفرغ للدعوة السلمية والجدال بالتي هي احسن كما كان يفعل داخل مكة، لم يعد هناك بديلا آخر امامه غير السيف والقتال، فلم يعد امامه خيار إلا ان يكون او لا يكون. وكما تغير حال النبي العربي الأمي وتغير لسان ضميره (القرآن)، تغير أيضا حال اصحابه واتباعه. صار صحابة نبي الإسلام متعطشين للقتال والدماء بعدما بهرتهم الخيرات والكنوز التي يديرها عليهم الحرب والإنتصار، فباتوا يطالبون نبيهم بمزيد من الحروب ويحثونه على الخروج لملاقاة العدو بل وطمعوا فيما هو اكثر من ذلك، طمعوا في اراضي يهود المدينة المكتظة بالنخيل والخيرات!

بنو قينقاع، بنو النضير، وبنو قريظة هم اكبر واغنى القبائل اليهودية التي كانت تعيش بالمدينة. من الواضح ان عرب يثرب الذين ناصروا النبي كانوا يكرهونهم، فمن الأسباب التي دفعت اهل يثرب إلى مناصرة محمد بن عبد الله في نبوته رغبتهم في التوحد ضد اليهود المتعاليين عليهم بالعلم والمال، وبالتالي اي حرب ضد يهود المدينة لن يمانعها عرب المدينة المتربصين باليهود. وإلى جانب ذلك، كان يهود المدينة شوكة في ظهر النبي لأنهم يشكلون خطوره عليه وعلى دعوته، فمن ناحية هم اهل كتاب احترمهم هو في البداية وحاول ان يتقرب منهم ويطلب مساندتهم ولكنهم لم يبادلوه نفس الإحترام في المقابل وتعالوا عليه وعلى دعوته وفضلوا ان يعتزلوا اسلوبه وتحركاته، ومن الناحية الأخرى خاف النبي ان يتحد اليهود مع مشركي قريش حقدا على المسلمين للتخلص منهم ومن نبيهم. ضرب النبي لليهود في المدينة يعني ضرب عصفورين بحجر واحد، الأول من حيث التخلص من خطر قد يشكله اليهود في المستقبل القريب او البعيد على الدعوة الإسلامية، والثاني الإستيلاء على اراضي اليهود اغنى بقاع يثرب وطردهم جميعا من المدينة وتمليك المسلمين اراضيهم وممتلكاتهم مما سيعود بمزيد من الرضا على النفسية المسلمة والتي ستشعر بنعم الله التي لا تحصى عليها.

طبعا كان النبي ينتظر الفرصة التي ينقلب فيها على اليهود ويلغي المعاهدة التي بينه وبين كل من قبائلهم. وجاءت الفرصة الأولى سانحة في شهر شوال من السنة الثانية هجريا عندما قام تاجر يهودي بالتحرش جنسيا بإمرأة عربية مسلمة في احد أسواق بني قينقاع فصرخت مستنجده فلحقها مسلما وقتل التاجر اليهودي، فتجمع عليه معشر اليهود واردوه قتيلا فكثر الهرج والمرج وطالب المسلمون بالثأر لعرضهم ودمهم، وبما ان النبي محمد هو حاكم المدينة فكان مفروضا ان يحكم في هذه القضية ولكن بني قينقاع رفضوه حكما في هذا الأمر، فحاصرهم النبي عسكريا واقتصاديا ليال قليلة حتى نزلوا على امره وقبلوه حكما فأمرهم بالخروج جميعا من المدينة بمذنبهم وبريئهم. خرج بنو قينقاع إلى خيبر بشيوخهم ورجالهم ونساءهم واطفالهم تاركين خلفهم أراض غنية بالتمر والنخيل ومحملين بالكراهية والرغبة في الإنتقام من هذا النبي الذي شتتهم بعد جمعهم ورفع من شأن الأميين عليهم وورثهم مال بني إسرائيل وعلمهم.

استقر الحال نسبيا بالمسلمين بعد انتصار بدر وتمكينهم من اراضي بني قينقاع اليهودية حتى رغبوا في مزيد من القتال والأنفال، فحثوا النبي على ارسال من يغتنم لهم بعض اموال قريش، فقام بإرسال زيد بن حارثة في جمادي الأول من السنة الثالثة من الهجرة على قافلة تجارية لقريش يقودها صفوان بن أمية. وقد تنبهت قريش لهجمات متوقعه من جبهة عدوهم محمد فغيروا طريق تجارتهم عبر العراق بدلا من طريق الشام، ولكن جواسيس النبي محمد كانوا اسرع منهم ونقلوا الخبر إلى نبيهم فأرسل عليهم زيد والذي نجح في الإستيلاء على تجارة قريش مرة اخرى واسر معه رجليين. وهنا ضاق صدر ابو سفيان بن حرب زعيم مكة بما يحدث وشعر ان محمد حفيد عبد المطلب قد تجاوز كل الحدود المقبولة فإن سكتواعن تهديده لإاقتصاد مكة بدعوته التوحيدية فلن يسكتوا عن قتله لخير الرجال من قريش وترميل نساءهم وتيتيم اطفالهم وخاصة أنه لا يكل ولا يمل عن الهجوم على اموال قريش وتجارتها. فحث العرب وقبائلهم على قتال النبي محمد لأنه يشكل خطرا على أمن واستقرار المنطقة.

ولما كان شهر شوال من السنة الثالثة، خرجت مكة في جيش مهيب مكون من ثلاثة ألاف مقاتل بقيادة أبو سفيان وزوجته وخيرة من مقاتلي قريش فيهم خالد بن الوليد. وكانت زوجة ابي سفيان هند بن عتبه قد خرجت لتنتقم لمقتل ابيها على يد حمزة بن عبد المطلب وقد استأجرت عبدا حبشيا اسمه وحشي ليقوم بالمهمة. وقد سمع النبي بخروج مكة فأعد ألف مقاتل مسلم وكان يرغب في البقاء داخل المدينة وانتظار العدو ومحاصرته داخل اسوار المدينة والإجهاز عليهم، ولكن صحابته أبو إلا الخروج وملاقاة العدو حيث عسكروا عند جبل أحد. فنزل النبي – الذي يؤمن بالشورى ورأي الأغلبية - على رغبة صحابته ولم تتدخل اصوات "ضميره" الإلهية في توجيه الجيش المسلم، وأُرجع ذلك إلى ما رآه النبي من عزم واصرار في رغبة أصحابه في الخروج لملاقاة العدو بعد ان منحهم انتصار بدر ثقة عالية بالنفس وبقدراتهم العسكرية والتكتيكية فلم ينتظروا صوت الله ليرشدهم هذه المرة. فخرج المسلمون لملاقاة العدو القريشي وكانت خطة النبي تتلخص في وقوف الرماة اعلى الجبل فيمطرون العدو بوابل من السهام تشل حركتهم في حين يكثر فيهم حاملي السيوف من المسلمين فيكون النصر حليف امة لا إله إلا الله. وقد شدد النبي المسلم على الرماة قائلا: احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا (الإمام احمد).

بات واضحا في معركة أُحد ما آل إليه المسلمون من حب لشهوات الحياة والرغبة في امتلاك غنائم الدنيا وان عقلهم وقت القتال كان مركزا على ما سيغتنموه بعد النصر، فبمجرد ان شُلت حركة قريش نتيجة كثرة السهام المسلمة المتجهة ناحيتهم وهموا بالهروب مرتدين إلى مكة حتى ظن المسلمون ان الغنائم التي يركزون عليها اصبحت لهم، فهبطوا إلى ارض المعركة لجمع كل ما تقع عليه ايديهم ونزل الرماة خلفهم لا يأبهون بما شدد عليه نبيهم من حماية ظهروهم حتى وان كانوا يغنمون. ولما رأى مقاتلي مكة هذا الهرج والمرج بين المسلمون وأن ظهورهم اصبحت مكشوفة للقتل عادوا ادرجاهم واثخنوا في المسلمين، ولما رأى المسلمون ذلك هرب منهم من هرب عائدا إلى المدينة ليحتمي بأسوارها ومنهم عثمان بن عفان وصعد منهم من صعد إلى اعلى الجبل للإحتماء بالصخرة ومنهم ابو بكر وعمر بن الخطاب وتركوا النبي وحده يواجه اعداءه بلا حجاب فرماه ابن قمئة الحارثي بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجت رأسه وترنح فسقط على الأرض وشيع انه قتل.

لما وصلت إشاعة مقتل النبي للمسلمين المتحصنين اعلى الصخرة انقسموا إلى قسمين، قسم يرى الرجوع إلى المدينة وتمكين عبد الله بن أُبي من الحكم ومطالبته بتصالح فوري مع اهل مكة وعودة السلم والإستقرار إلى المنطقة وقسم بقيادة أنس بن النضر يرى استمرار القتال وصرخ فيهم قائلا: يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد (ابن جرير). هنا ظهر بينهم النبي المجهد من جراحه وطمأنهم انه لم يمت واستمع إلى حديثهم وما جرى بينهم فتلى عليهم وحيه المقدس قائلا: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ*.... (آل عمران 144). وقام النبي ومن تبقى معهم من الصحابة - بعد ان هرب الجيش المسلم إلى المدينة – بصد جيش قريش عن صعود الجبل بإلقاء الحجارة عليهم من أعلى الجبل. ولم اجهد ابو سفيان وتعب نادى على النبي محمد من أسفل الجبل متباهيا بإنتصاره وقتله العشرات من المسلمين في مقابل قلة من قتلى المشركين قائلا: اعل هبل، يوم بيوم بدر، الأيام دول، وإن الحرب سجال (البخاري والإمام أحمد). ثم عاد أبو سفيان وجيشه إلى مكة متفاخرين بالنصر.

قتل العديد من المسلمين في يوم أحد ومثل بجثثهم، وكان من ضمن القتلى عم النبي حمزة بن عبد المطلب والذي حزن النبي وبشده على مقتله وتعهد أن يمثل بجثث المشركين كما مثلوا بجثة عمه وصحابته، فنزل على قلبه وحيا: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ۖ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (النحل 126)، فقرر ان يفوض امره إلي الله ويصبر ونهى اصحابه على المثلى وحرمه على المسلمين. أنه لشيء عظيم ان يتجاوز النبي المسلم كل هذا الغضب والغيظ الذي شعر به يوم رأى بطن عمه المبقورة وفضل الإنصياع لآوامر وحيه والصبر على ما ابتلاه، ولخير دليل على شدة تألمه وتمسكه بالصبر عندما قابل وحشيا الذي قتله عمه يوم فتح مكة وجها لوجه فطلب منه ان يحدثه عن كيفية قتله لحمزه، فأجابه وحشي بأنه ضربه برمحه في ثنته فخرج الرمح من بين رجليه فسقط حمزة صريعا بعد قليل من الترنح من لهيب الألم، فغضب النبي قائلا: ويحك! غيب عني وجهك فلا أرينك (ابن اسحاق). يعني محمد الإنسان لم يستطع اخفاء كراهيته لوحشي الذي قتل عمه بصوره بشعه وهذا لدليل على عظيم صبره يوم اختار ألا يمثل بجثث اعداءه نزولا على رغبة وحيه المقدس.

وعلي صدى النويح والعويل على موتى المسلمين في ارجاء المدينة، ونهى النبي المسلمات عن الصراخ مثل المشركين والكفار وتلى عليهم وحيه: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (آل عمران 169)؛ فقتلى المسلمين احياء وقتلى المشركين اموات ولا يوجد مدعاة للنواح والصراخ بل للفرح حتى لا يشمت فيهم اعداءهم. وانتهت السنة الثالثة هجريا بمقتل الكثير من المسلمين واستعدوا لدخول السنة الرابعة بمزيد من الغزوات ضد المشركين ويهود بني النضير.

http://sharazadtalks.blogspot.com








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - إلى الأمام يا آية.. أنصري الإسلام، بتبيان علمانيته
شريف حافظ ( 2009 / 8 / 19 - 21:18 )
أعتز جداً بصداقتي لبنت بلدي آية، التي بالفعل إنسانة قارئة ومحترمة ومثقفة على أعلى مستوى ممكن. وإلى جانب كل هذا، فهي علمانية ومسلمة. الكثيرون لا يفهمون كيف يمكن أن يصبح المرء علماني ومسلم في الوقت نفسه، ولكن هذا قصور في الفهم وتراجع في القراءة والتحليل. ولأني أنتمي إلى نفس مدرسة آية، فاني فخور جدا بها، كونها تعرف كيف تقص التاريخ الإسلامي، بكامله، وليس بمالمقتطفات الناقصة فقط. تحياتي وإلى الأمام، وعقبال أول كتاب


2 - انسانية
حمورابي ( 2009 / 8 / 20 - 09:33 )
حقا انه رسول الانسانية والمحبة بدرجة امتياز .


3 - تعليق
سيمون خوري ( 2009 / 8 / 20 - 15:41 )
سرد تاريخي جميل وشيق ،وموثق شكراً لجهدك .


4 - مقال متزن
Osama Nazzal ( 2009 / 8 / 20 - 17:35 )
تحياتي لك يا آيه لأن مقتاك متزن ويسرد التاريخ بعقلانيه دون التهجم على المسلمين وازدرائهم ........تحيه لك من الأعماق

اخر الافلام

.. ظاهرة غريبة.. السماء تمطر أسماكا في #إيران #سوشال_سكاي


.. مع تصاعد الهجمات في البحر الأحمر.. تعرف على أبرز موانيه




.. جنود الاحتلال يحتجزون جثمان شهيد من المنزل المستهدف في طولكر


.. غارة إسرائيلية استهدفت منزلا بمنطقة الصفطاوي شمال غزة




.. قائمة طويلة من لاعبين بلا أندية مع اقتراب فترة الانتقالات ال