الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة منحازة لحادثة أحمد عبد الحسين وتداعياتها

جمال علي الحلاق

2009 / 8 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الآن ، وبعد أن قال الجميع ما لديهم ، وعادت بغداد الى دوّامة القتل المجّاني تحت مسمّيات غبيّة دائما ، أحاول أن أقرأ حادثة الإعتراض التي بادر بها صديقي الجميل الشاعر ( أحمد عبد الحسين ) ، وقد أعلنتُ من العنوان أنّها قراءة منحازة ، ولا أرى في إنحيازي هذا ما يمكن أن يسيء للقراءة ، إنّه إنحياز للحظة الزمنية التي بلغها الإنسان ككل ، خارج التأطيرات الرثّة كالدين والقومية والعرف ، فهنا ، ينبغي علينا أن ننحاز ، لأنّه في النهاية إنحياز ضدّ التقنفذ ، وحتى لا تقع القراءة في حيّز ضيّق ، أحاول الخروج منها أيضا ، كي أكون مراقبا للقارئ في ذات الوقت .

نصّان متضادّان

النصّ هو عقل الفرد ، وقديما قال سقراط : " تكلّم حتى أراك " ، والكلام نصٌّ ، والسلوك نصٌّ أيضا ، فالناس بسلوكياتهم يكتبون نصوصهم الأكثر تأثيراً في عملية التغيير الإجتماعي ، من هنا ، أجد المجال مفتوحا للخوض في قراءة نصَّين كتابيين وسلوكيين في نفس الوقت معا .

وقبل ذلك ، أحبّ أن أنطلق من مقدمة : أنّ الفرد كوعي متجسّد هو تيّار إجتماعي بذاته ، وعليه فما أراه بدءاً هو صراع بين منظومتين معرفيتين ( إنطلاقا من أنّ : الجهل ليس صفر المعرفة ) ، وتيّارين إجتماعيين مختلفين .

وبهذا أخرج من تضييق الحادثة الى إتّساعها ، لأنّها تمثّل بنية الصراع الإجتماعي في العراق الآن .

الإصطفاف والتنصّل

قبل أن أدخل الى قراءة النصّين ، أحاول هنا أن أسلّط الضوء على نقطة في غاية الأهمية كشف عنها الإصطفاف السريع والفاعل لتيّار الوعي المنفتح داخل المجتمع - ممثّلاً بالنخب والمؤسّسات المدنية - الى جانب ( أحمد عبد الحسين ) ، والتنصّل السريع الذي بادر به تيّار ( المجلس الأعلى ) من أحد كوادره الفاعلة ( جلال الدين الصغير ) .

فهذه الممارسة قلبت النظرة السائدة حول التسيّد السلطوي واقعياً للقوى المتصارعة ، ممثّلة بالتيّار المدني الذي يقرّ بحقوق الإنسان ، ومن ضمنها حقّ حريّة إبداء الرأي ، والتيّارات التي ترتدي الماضي المُختَزَل لباساً لحياتها اليومية ، رغم علمي أنّ الصراع لا يدور على حلبة واحدة ، بل أنّ المتصارعين يقفون كلّ واحد على حلبة مختلفة ، فالمثقفون يقرأونها كصراع فكري ، والجهات الأخرى تقرأوها كصراع سلطوي / إقتصادي ، لذا فقوى الصراع لا تلتقي حتى في صراعها ، ومع هذا فإنّ الفنطازيا تنتج أحيانا نقاط التقاء غير محسوبة ، تكشف فيها عورات كلّ جهة على حدة .

نزول النخب الواعية الى الشارع جعلهم للمرّة الأولى خارج حلبتهم ، بل جعلهم مباشرة داخل حلبة الآخر وجهاً لوجه ، النزول الى الشارع أخرج الإعتراض من حلبته الثقافية الى حلبة السلطة وإتّخاذ القرار .

أقول كشفت الممارسة الأخيرة لأحمد عبد الحسين وردّة فعل جلال الدين الصغير أنّ الإنفتاح على الحريّة المدنية تيّار إجتماعي قائم ، وأنّ الإنغلاق والعنترة الجوفاء مسألة فردية . أي أنّ من يطرح نفسه منبرياً على أنّه لسان الشارع ، ولسان الأغلبية ، هو في الحقيقة لسان نفسه فقط ، وأنّ مفهوم الأغلبية هنا لا يعدو أن يكون وهماً أو ترويجاً سياسياً ، يمكن أن يتبرأ الحزب - أيّ حزب كان - منه في لحظة الوقوع تحت ضوء المكاشفة العلنيّة ، وبالتالي سيكون " فرد مع فكرة هو أغلبية ساحقة " على حدّ تعبير برنادشو .

الإصطفاف السريع للوعي المنفتح الجميل رفع مستوى شجاعة الشاعر ( أحمد عبد الحسين ) من كونها شجاعة فردية الى كونها شجاعة تيّار إجتماعي ينبغي أن يكون له حقّه المدني في إبداء الرأي . التكتّل والنزول الى الشارع دعمٌ ليس لأحمد عبد الحسين فقط ، بل دعمٌ للتيّار المنفتح ككل ، أصبحت القضية الفردية قضية عامة ، وأصبحت الحرية الثقافية حقّ إجتماعي .

كما التنصّل السريع كإجراء سياسي من قبل تيّار ( المجلس الأعلى ) لقمع ( الصغير ) ، أنزل مستوى التبجّح ، من مستواه الإجتماعي الى مستواه الفردي .

يُفترض ، من الآن فصاعداً أن لا تكون المنابر واجهة للتبجّح والعنترة الجوفاء ، وبالتأكيد لا يقتصر الحديث هنا على منابر المساجد ، والتكايا ، والحسينيات ، فالصحافة ، والإعلام الفضائي ، وكلّ قنوات إيصال المعلومة تندرج ضمن دلالة المنبر أيضا .

يُفترض ، من الآن فصاعداً على الحكومة ، أيّ حكومة ، أن تتبنّى - وأن تحفّز في الوقت ذاته على - المكاشفة العلنيّة كخطاب سياسي ، الغاية منه ، جعل كلّ الأفراد والتيّارات المتضاربة داخل مفهوم الوطن كجغرافيا وإنتماء ، تحت عين المجهر صيانة للممتلكات العامة ، وصيانة للحقوق المدنية للمواطنين . قد يبدو في القول سعة من الطوباوية – فالغرقى يقودون السفينة - لكنّه أيضا يتضمّن الآن جانباً من الموضوعية ربّما لم يكن موجوداً سابقا .

جدل الرقابة والمراقبة

بدءا ثمّة فرق هائل بين دلالتي الرقابة والمراقبة ، رغم أنّهما يشيران معاً الى هرميّة البناء الإجتماعي ، فالرقابة تتضمّن دلالة تجسّسية / قمعية ، بينما المراقبة تتضمّن دلالة إحترازية .

الرقابة سلطة فوقية تمنحها الحكومة لذاتها من أجل قمع أيّ خروج على حلقيّة تفكيرها ، أي أنّ الرقابة في النهاية جهويّة نخبويّة تعمل على تصدير وعي أحادي النظرة ، بينما المراقبة على النقيض تماماً تتضمّن المتابعة اليومية للممارسات الإجتماعية للبناء الهرمي للدولة ككل ، باعتبارها حاضنا لكلّ القوميات والإثنيات المختلفة ، وهي بذلك ممارسة إجتماعية يحاول فيها المجتمع صيانة حقوقه وممتلكاته المدنية من الطفيليات التي تعتاش على إمتصاص وسرقة حقوق الغير ، المراقبة تبدأ من نظافة الشارع الى نظافة المسؤول .

وعليه فالرقابة تجسّسٌ علني يقوم به أفراد معيّنون ، يحاولون من خلال عملهم هذا صيانة امتيازات ومصالح جهويّة نخبويّة ، بينما المراقبة فعل عام ، يتحمّل مسؤوليته كلّ أفراد المجتمع ، بل إنّ عدم القيام به أو التكاسل في إجرائه قصداً ينبغي أن يُعدّ تقصيراً يحاسب عليه القانون .

ما قام به الجميل ( أحمد عبد الحسين ) وإصطفاف النخب ذات الوعي المنفتح يدخل في باب المراقبة ، وهو حقّ عام ، ينبغي على الدولة أن تحترمه وتتبنّاه ، وما قام به ( جلال الدين الصغير ) يدخل في باب الرقابة وهو فعل خاص يخدم فئة بعينها على حساب المجتمع ككل ، لذا كان على الدولة أن تقوم بإدانته ، وهو ما حصل باستحياء .

وحتى لا يكون ما حدث ، سواء تنصّل تيّار ( المجلس الأعلى ) من ( الصغير ) ، أو إدانته من قبل الحكومة ، أقول حتى لا يكون ذلك إجراءً سياسيا آنيّاً ينتهي مع إنتهاء الأزمة ، وحتى لا تعيد التفجيرات الغبية اللحظة الزمنية الى ما قبل الإعتراض ، وحتى لا يتكرّر البدء من الصفر دائما ، وحتى لا تتحوّل ال 800000 بطانية الى 800000 ضحيّة ، ينبغي مواصلة تفعيل مفهوم الرقابة إجتماعيا ، أن يكون الجميع تحت عين المجهر ، وقابلاً للمكاشفة العلنية . وبالتأكيد سنحتاج هنا الى مبادرات شجاعة أخرى تتبنّاها وسائل الإعلام العراقية بدءاً ، الشجاعة هنا أن يؤدي كلّ فرد مسؤوليته الفعلية تجاه بناء المجتمع ، إن لم يكن بدافع جماعي ، فليكن على الأقل بدافع فردي ، أن يعيشوا كأفراد داخل بيئة إنسانية .

وهنا أجعل سبابتي في وجوه مسؤولي وسائل الإعلام ورؤساء تحرير الصحف ، لقد كشفت رسالة أحمد عبد الحسين التي حاول فيها وبمهارة أن يُنقذ رئيس التحرير من البطولة ، أقول كشفت بوضوح صارخ الأحجار الكونكريتية التي تعيق حركة الإعتراض في الداخل .

أذكر أنّ رجل إطفاء في ( سدني ) أنقذ ثلاث أطفال من موت حتمي ، جعلته وسائل الإعلام بطلاً أسترالياً، لكنّه في حوار أجرته معه إحدى الصحف اليومية قال : " أنا لست بطلا ، كلّ ما هنالك أنّني قمت بإداء واجبي بطريقة صحيحة " . ينبغي تفعيل هذا الحسّ الإجتماعي ، لأنّها " بائسة تلك الأمّة التي تحتاج الى أبطال " على حدّ تعبير بريخت .

القطرة التي تخلق بحرا

أعلم أنّ الشارع العراقي في حالة غليان مستمر ، وهو سائر الى التغيّر بإطراد ، المطلوب هو تفعيل الإحساس بالحريّة ، تفعيل الإحساس بالحياة لا بالموت والعالم الآخر ، تفعيل الإحساس بالرغبة على التغيير نحو الأفضل ، لا بإنتظار ما لا يأتي ، لأنّ هذا وحده – ووحده فقط - يمكن أن يقضي على التشكّل المافيوي هنا وهناك . ولا تفعيل بلا مبادرات .

لقد كشفت حادثة ( أحمد عبد الحسين ) ، أنّ المافيا يمكن أن تتقلّم أضافرها بسهولة ، وأنّ الشارع ينتظر مبادرات فردية شجاعة ليصطف ، فالشجاعة والتحرّر يبدآن بفرد مثلما أنّ المافيا والقمع يبدآن بفرد أيضا .

رسالة ذات اتجاهين

لعلّ تظاهرة شارع المتنبّي أن تكون رسالة مهمّة موجّهة لا الى الحكومة والتيّارات التي تتسيّد الشارع فحسب ، بل رسالة موجّهة بالدرجة الأولى لتيّار الوعي المنفتح الذي بادر الى القيام بها أيضا .

لقد أثبتت التظاهرة أنّ ( أحمد عبد الحسين ) ليس فردا ، وأنّ الوعي المنفتح موجود ، وإنّه كتيّار إجتماعي يمكن أن يكون له تأثيره الواضح أيضا ، التضامن السريع منح المثقّف سلطة توازي سلطة السياسي ، وجعلته يشعر بإمكانية أن يساهم بشكل فعلي في عملية التغيير . التظاهرة جعلت الكلمة ممارسة ، وهذا إنجاز هام وخطير في تاريخ الثقافة العراقية .

لقد كان ذكياً جداً إنطلاق التظاهرة في شارع المتنبّي ، فهو قلب بغداد الثقافي ، مثلما أنّ الشورجة قلبها الإقتصادي . ينبغي أن يكون لهذا الشارع حضوره الفعلي في توجيه دفّة الثقافة داخل المجتمع .

لا زلت أذكر ( الشطري ) الذي يفتتح مزاد بيع الكتب كلّ جمعة بحسّه الجهوري قائلاً : " أفتح نافذتي على ثقافات العالم : غاندي " ، الإنفتاح على العالم ليس إلغاءً للخصوصية ، بل هو إغناءٌ وتعميقٌ لها . كم هو مخجل أن تتقنفذ وتتصارع على زوال ، في لحظة بدأ الإنسان فيها يبعث برسائله الى الكون بحثا عن كائنات حيّة أخرى . ( أشعر بأمّية الموضوع وأنا أناقشه ، كان ينبغي أن نتجاوز ذلك منذ زمن طويل ) .

ردّة فعل متوقّعة

ما قام به بعض أصحاب محلات بيع الكتب في الشارع من رفع لافتات ضدّ قيام التظاهرة بتحريض من الحكومة بالتأكيد يتطابق مع ما تحاوله ميليشيات الحكومة والتيّارات والبيوتات الأخرى من ترسيخ التقنفذ وجعله صفة مجتمعية ، خصوصا وأنّ التظاهرة رفعت شعارا ضدّ إصدار أيّ قانون رقابة على المطبوعات الداخلة الى العراق ، ذاك أنّ الإنفتاح – بالنسبة لهم - إشارة لكساد قادم ليس ثقافيا فقط ، فما تمّت قراءته على أنّه خطوة باتّجاه ثقافة منفتحة من قبل النخب الواعية ، تمّت قراءته من جانبه الإقتصادي والسياسي أيضا من قبل الجهات المناهضة للإعتراض . لقد كانت التظاهرة إعلاناً بفشل ( إقتصادي / سياسي / ثقافي ) على الحكومة ومستشاريها أن يبادروا في خلق مناخ أقلّ توتّراً وحدّة ، وأكثر شفافيةً ونزاهةً ، لتجاوزه .

لا يمكن قراءة الممارسة بأكملها من جانب ثقافي فقط ، بل أنّ الشعارات التي رُفِعت ضدّ التظاهرة كانت تندد وتلعن قاطعي الأرزاق ، لقد كانت التظاهرة – بالدرجة الأولى - تهديداً إقتصادياً بالنسبة لميليشيات الحكومة والبيوتات الأخرى ، وبالتالي كانت تهديداً للسلطات المتفشّية داخل المجتمع بلا حق .

وبالتأكيد ، فإنّ تبنّي المبادرة بأسماء صريحة ( أفرادا ، ومؤسّسات ، ومنظّمات مجتمع مدني ) ، سيعمل على تفعيلها كممارسة إجتماعية ، وبالتالي ، سيشير الى المستوى المرحلي لتغيّر الراهن الإجتماعي ، ويعطي للقارئ القدرة على استشفاف البناء الروحي لأفراد المجتمع ، والى أين تّتجه السفينة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زفة الأيقونة بالزغاريد.. أقباط مصر يحتفلون بقداس عيد القيامة


.. عظة الأحد - القس باسيليوس جرجس: شفاعة المسيح شفاعة كفارية




.. عظة الأحد - القس باسيليوس جرجس: المسيح متواجد معنا في كل مكا


.. بدايات ونهايات حضارات وادي الرافدين




.. شاهد: المسيحيون الأرثوذوكس يحتفلون بـ-سبت النور- في روسيا