الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اعترافات آخر متصوفة بغداد (14)

سعدون محسن ضمد

2009 / 9 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هل كَذَب الأنبياء؟

بعد أن اتضح، كيف أن النبي يدرك عدم إمكان الاتصال بالمطلق اتصالاً يُمَكِنه من النطق باسمه، لا بد من أن ينقدح في الذهن سؤال يقول: إذا كان الأنبياء يدركون هذه الحقيقة فلماذا إذن عملوا في مسارات تختلف مع إدراكهم ذاك.. بالأحرى، لماذا نطقو باسم الله؟.. وهل يعني هذا أنهم كانو كاذبين؟
رحلة التصوف في أصلها رحلة للبحث عن سر الحقيقة، محاولة يتفرغ خلالها الصوفي للمعرفة، مكرساً كل طاقاته وإمكاناته المادية والمعنوية من أجل الاقتراب من المطلق إلى مديات تمكنه من فهم حقيقته والارتباط به وتمثيله.. وبالتأكيد الفناء به. والصوفي ينطلق هذه الانطلاقة بسبب الأديان التي تقف على قاعدة الوحي، الذي هو مفهوم ينفتح على فلسفة الرسالة التي تتلخص بفكرة أن الله يصطفي من خلقه أحداً منهم يبلغهم تعاليمه. هذه الفلسفة إذن تقول بقدرة الوعي البشري على إدراك حقيقة المطلق وفهم رسالته ومن ثم حملها إلى الناس.. من هنا ومن هذه الفلسفة تحديداً انطلقت فكرة التصوف. وتجربة التصوف وكما هو معروف تجربة تُختزل بالانعزال عن البشر وترك الانشغالات الدنيوية في محاولة لتكريس الطاقات التأملية ـ أو (العبادية/ الشعائرية) عند الأديان السماوية ـ من أجل الوصول للمطلق، ولو أنك بحثت جيداً في موروث المتصوفة لوجدت أن أكثر ما يؤكدون عليه هو هذا النمط من الحياة، الذي هو النمط الانعزالي الزهدي التأملي.
لكن الملاحظة الغريبة جداً هي أن جميع المتصوفة، بضمنهم الأنبياء، ختموا رحلة البحث عن المطلق والانعزال تلك، بالعودة إلى الحياة الطبيعية وممارستها بشكلها المألوف، إذا لم يكن بعضهم مارسها وانغمس بها أكثر من المألوف. وهذا يثير في الذهن تساؤلات عدة عن السبب الكامن وراء هذا الرجوع؟ الانبياء مثلاً ختموا رحلة الانقطاع للبحث والتأمل بعودة مكثفة للعناية بشؤون الناس وترك الانقطاع من خلال تفرغهم لتبليغ رسالات جديدة تنسخ الرسالة السابقة لها. مع أنهم في بدايات انقطاعهم لم يكونوا معنيين بنسخ الرسالات ولا بتعليم البشر وإرشادهم... حتى المتأخرين من الصوفية، وقعو بهذا (الفخ) بل أن بعضهم ختم رحلة الانقطاع للفناء بالحقيقة، بالرجوع لتأسيس دولة إسلامية، أو الثورة على الأنظمة الظالمة. فهل هناك علاقة بين مشروع الانقطاع عن الناس لفهم الحقيقة والتعرف عليها، وبين الثورة أو تأسيس دولة بما يتضمنه هذا التأسيس وتلك الثورة من انشغالات دنيوية تفصيلية تتقاطع مع الانعزال؟
تكمن أهمية هذه التساؤلات بأنها تكشف عن حدوث انعطافة بفكر الصوفي ـ تحدثت عنها في الحلقات السابقة بشكل أو بآخر ـ تنعكس بشدة على سلوكه وطبيعة فهمه للأشياء وتعامله معها. هناك بالتأكيد من يقدم أجوبة جاهزة على هذه التساؤلات، هناك من يقول (مثلاً): إن ترك الصوفي انقطاعه وبحثه وتأمله وعودته للانشغال بالهموم البشرية دليل على أن رحلة التصوف مكرسة أصلاً لهذه النتيجة، وأن الفناء بذات الله يؤدي حتماً لتلقي رسالته، ويملي شرط تبليغها. لكن هذا الجواب استهلاكي، وهو نفسه الجواب الذي قدمه الصوفية والأنبياء (تحديداً) للتعمية على حقيقة أن المطلق ليس لديه مشروع يُحَمِّله أحداً من خلقه ويجعله مسؤولاء عن تبليغه للناس، لأن وعي البشر، وكما أكدت سابقاً، غير مؤهل للتواصل مع المطلق ومعرفة إن كان لديه رسالة يوجهها للبشر أم لا.
الدليل على أن المطلق ليس لديه مشروع، هو الفشل الذي عانت منها جميع (الأديان) التي هي المشاريع التي ادعى الأنبياء أو حتى بعض الصوفية أن الله كلفهم بحملها إلى الناس، وحمل الناس من ثم على الامتثال لها حصراً. فكل هذه المشاريع فشلت في تحقيق الوعود التي انطلقت لتحقيقها.. لم تتحقق العدلة التي وعدت بها الأديان، ولا المساواة بين البشر، ولا بث الرحمة في مجتمعاتهم.. بمعنى آخر لم يتحقق المجتمع المثالي، بل ولم تتمكن الأديان من صناعة الإنسان المثالي الذي اعتقدت بأن تعاليمها كفيلة بصناعته. خاصَّة وأن الأعم الأغلب من رعاة الأديان من رهبان وعلماء دين وقساوسة كانو مثالاً سيئاً على الانحطاط الأخلاقي، الذي شمل تسخير الدين بأبشع الطرق من أجل استغلال الناس. إذن وإذا كان المشروع الإلهي غير قادر على النجاح في إصلاح المبشرين به من علماء دين ورهبان، فكيف يمكن له أن ينجح مع غيرهم؟ ومع مثل هكذا الفشل هل يمكن ان نعتبر مثل هذا المشروع مشروعاً إلاهيا؟
إن جردة بسيطة لتأريخ الأديان تكشف بسرعة، البون الواسع بين ما وعدت به وبين ما حققته، نعم حقق الدين الإسلامي (مثلاً) امبراطورية مترامية الأطراف، لكن هذه الامبراطورية لم تكن في أجندت الرسالة التي بشر بها حاملها، لأنها كانت إمبراطورية أباطرة استعبدوا الأمم وسلبوا خيراتها، ثم إن الأمبراطوريات قامت وتقوم بالدين وبغيره.. أما غير الأمبراطوريات فلم تقدم الأديان (إسلامية مسيحية يهودية.. أو غيرها من الأديان) أي شيء أخر يجعل من مقولة، أنها مشاريع المطلق وتعاليمه، مقولة مقبولة ومعقولة. لنأخذ أوربا مثالاً على ذلك، ونسأل: ماذا قدم الدين المسيحي للشعوب الأوربية بعد أن انتشر فيها؟ هل جعلها أخلاقية أكثر؟ إنسانية أكثر؟ هل قلبها من مجتمعات بشرية تنتشر فيها الطبقية والعبودية والفقر والمجاعة إلى مجتمعات ملائكية؟ أعتقد أن التاريخ يقول ـ في حال قرأناه بحياد ـ أن المسيحية لم تقدم لتلك المجتمعات أي شيء مهم، هذا إذا تغافلنا عما تسببت به من خراب ودمار. ونفس الكلام ينطبق على تجربة الدين الإسلامي بالنسبة للمجتمعات التي انتشر بين ظهرانيها.
رعاة الأديان، أو رعاة فلسفة الوحي يقولون بأن مشاريع المطلق لم تحض بفرصة مناسبة للتطبيق، لكن هذا التبرير ينزل بالمطلق من عليائه، ويجعل من مشاريعه باهتة اللون وباردة برودة العبث. فهل يعمل المطلق بمنطق الأماني أو الاحتمالات؟ لماذا لم يكتف بالفشل الذي عانت منه اليهودية، أو الذي عانت منه المسيحية؟ ويعرف حينها أن التبشير بأمر ما، شيء، وتطبيقه على الأرض شيء آخر. ويكف بالنتيجة عن تكرار ما لا نفع من تكراره. إن الحقيقة التي تقول بأن الأديان لم تقدم شيئاً تكشف عن أن المطلق لم يصطفي أحداً ليُحمِّله رسالة للبشر.. وهذا ما يعيدنا إلى سؤالنا الأول: هل الأنبياء كَذَبَة؟
ربما لا أستطيع اتهامهم بالكذب لكنني أستطيع القول بأنهم فشلوا بالاعتراف بحقيقة أن الرب الذي استغرقوا حياتهم بالبحث عنه غير موجود، وهو مجهول لدرجة لا يمكن معها معرفته وفك أي طلسم من الطلاسم المحيطة بطبيعته وطبيعة إرادته وطبيعة غايته. صدمة الفشل هذه واجهها بعض الأنبياء والصوفية بالصمت والعجز عن البوح بأي شيء، وهؤلاء الذين لفهم النسيان وتجاهلهم التاريخ. وواجهها البعض الآخر بالفشل في البقاء خارج إطار الفعالية التاريخية، فهذا البعض، ومع أنه أدرك أن المشروع الرباني غير موجود، أصر على اختلاق مشروع اعتقد ـ صادقاً ربما ـ بأنه مشروع قادر على إنقاذ البشرية من ضياعها. أو أنه أدرك أن الجهل، أو اللاأدرية، ليس بديلاً صالحاً يمكن تقديمه للمجتمعات المؤمنة بالرب والحياة الآخرة، الأمر الذي اضطره لمسايرة القدر المجهول الذي يحمل التجربة البشرية، ومن خلال أديانها، الى حيث لا تعلم. والسؤال المحرج في هذا المقام هو: هل أحسن الأنبياء صنعاً عندما اختلقو المشروع الإلهي ولم يواجهوا البشر بحقيقة أن العلة من خلقهم وخلق الوجود لا يمكن لأحد معرفتها؟ أعتقد أن القراءة الموضوعية والمتأنية لتاريخ الأديان تكشف عن أن الجواب هو: لا، لم يحسنوا صنعاً.. أبداً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الك وحدك الف بوسة وفوكاها وحدة انوب
ابو محمد العراقي ( 2009 / 9 / 5 - 00:59 )
ولا يهمك ولا ادوخ الشغلة كلش سهلة وما يرادلها تعب وكما قلت لك سابقا ان كنت صادقا ومخلصا في بحثك عن سر الوجود ولم تعثر عليه فما ذنبك وباي حجة سيحاسبك ان كان موجودا علما انه لم يعطينا الدليل الكافي على وجوده كما قال احدهم0ان امنت بهذه الحقيقة فلا تتعب نفسك بالبحث عنه بعد ان عانيت الكثير


2 - ابو محمد العراقي
سعدون محسن ( 2009 / 9 / 5 - 06:33 )
عزيزي ابو محمد شكرا على بوساتك الألف وشكرا جزيلاً على البوسة الواحدة الملحقة لأنها اكثر روعة من الألف السابقة.
عزيزي لست خائفا من أي حساب، وان كانت هناك حياة أخرى، فعليه هو أن يخاف من عتابي له وربما حسابي العسير، وما يدريك لعلي اتمكن من اقناع البشر وقيادة ثورة ضده ادعو فيها الى انتخاب رب يكون اكثر انصافا وعدلا ورحمة بالبشر، فتجربتنا معه كانت مع الأسف مليئة بالكوارث والأحزان والآلام، اقرأ تاريخ البشر وستجد بان الغالبية العظمى منهم عاشو حياة الألم.
أما بالنسبة للبحث عنه فقد عرفت بان لا سبيل اليه، أقصد عرفت واعترفت بقصر منظومتي الادراكية عن تجاوز حدود معرفة المحسوس.. انا اعول كثيرا على علماء الفيزياء ـ لا على الصوفية ـ فهم جادون في البحث عن سر المادة وقد حققو طفرات رائعة بهذا المجال، وخاصة من خلال نظرية الاوتار الفائقة. ادعوك للاطلاع عليها.. ودمت بفرح ومحبة.


3 - الاستعارة وحدود استخدامها
محمد ( 2009 / 9 / 5 - 08:28 )
استطيع ان اعلق على كتابة الاخ سعدون بانها استعارة درامية عن الحدث العراقي وعظم تأثيره على الذات الا انني اطلب منه اذا صحت قراءتي ان لا يضيع منه المعبر به والمعبر عنه، واذا صحت قراءتي ايضا وقبل الكاتب بفكرة الاستعارة اي انه يكتب بتأثير الانفعال بالحدث العراقي الدموي،يستعير الواقع الالهي بالارضي في حدود مملكتنا الدموية وبلغة اقرب الى نصية الشعر منها الى العقل، ان المطلق مرتسم في حدود ما تشي به لغة الكاتب من مرارة، تنم عن واقع مرير ودام،بحيث يغدو الرفض مناجاة للخالق ويصبح البحث في سر الوجود فوق علانيته وفجائعه
لوكان المطلق مطردا مع النسبي لجاءت الكتابة بغير الصورة العقلانية الدرامية التي تخفي وجعا من الآني.


4 - محمد
سعدون محسن ( 2009 / 9 / 5 - 09:37 )
كل ما سجلته في هذه الاعترافات يا صديقي محمد هو ما ادركته واحسست به قبل عام 2000، أي ما بين عامي 1997 وعام 2000 ، بمعنى أنه تسجيل لسيرة ذاتية حقيقية، لكنني اقتصرت خلال هذه الحلقات على نشر الجانب الفكري منها فقط.. لكن ما تقوله صحيح، فجزء كبير من محفزات التمرد المسرود في هذه الاعترافات ناتجة عن الواقع العراق الحالي.. بمعنى آخر اقول ربما لو لم اكن عراقي ولم اعايش فجائع العراق لما وصلت لمستوى التشاؤم الذي وصلته والذي دفعني للاعتراف بفشل التجربة الصوفية ومن خلالها التجربة النبوية في التعرف على المطلق، ربما لو لم أكن عراقيا لسكت كما سكت غيري من الصوفية.
على أساس ما تقدم استطيع أن اضع دائرة حول مفهوم الاستعارة الذي تقصده، فتجربتي ومفاهيمي وفلسفتي التي أؤمن بها الآن هي نتاج مخاض استمر أكثر من عشر سنوات نبشت خلالها كل ما تمكنت من نبشه من امكانيات التصوف في القفز بالوعي البشري على حدوده، لكنني وجدت بأن حدود هذا الوعي غير قابلة للاختراق.


5 - زال الغبار
مصطفى ابراهيم ( 2009 / 9 / 6 - 14:23 )
اعتقد ان من المنطق ان لا اغوص بالغيبيات والماورائيات
حيث وجود الشيء مبرره ولايحتاج لتبرير ملطقات غيبية

اذاً اعتقد من المنطق العقلي ان التصوف واعتزاله بسبب تعرج الطريق كان له اسباب اولية جعلت تخبطاً
واولها اساطير الاولين التي استمد منها من ثم تم لعنها بنفس الشخص
لو راجعنا مفاهيم الاديان وسطورها لرأينا ان اصلها كانت
من اللادين الى صقل ثم وضعها ضمن دين ودين ودين يثتب وجود المطلق
اذا راجعنا برديات النقوش الفرعونية لوجدنا مفاهيم مقتبسة مؤدلجة وفقا لما يريدون كمثل رواية حورس ابن ازيروس
وهلال القمر المتمثل بعين حورس سابقا وحالياً رمضان
والخنزير المقتول نحراً كونه شيطان والان محرم اكله حتى في الاديان الثلاث
اضافة الى زيف ادعاء المطلق بالعلم
فكان هناك ارض مسطحة والفلك والحسابات الفيزياوية اثبتت كرويتها فضلاً عن عدم سير الشمس والتي ادعي انها تسير
وتسجد
اين المتصوف عن مواكبة العلم
الم يعلم اي منهم بصفته مصطفاً من الله
ان الزمان يسير بخطى ثابتة متغيرة المعالم
فانا الرسالة لم تكن منطقية مع يومي ولحظاتي هذه

لم اعمد الى ذكر الكثير من متصوفي الرسائل الربانية حتى لا يتم تسويف الموضوع
اذا لاغبار على كلامك


6 - مصطفى ابراهيم
سعدون محسن ضمد ( 2009 / 9 / 6 - 21:08 )
يا صديقي التصوف ليس خياراً فقط، لكنه في بعض حالاته يكون اضطرار، وكما حصل الأمر معي، فبعض البشر لا يستطيعون السكون عن أسئلة المصدر، من أين، وإلى أين، ولماذا، وكيف، هذه الأسئلة يتركها العلم بلا أجوبة لأنه يعتبرها تعمل بمساحة الغيب، وهو ـ كعلم ـ لا يتعامل مع مفاهيم غير قابلة للقياس والتجريب، وهكذا لا يعود أمام الشخص الذي يبحث وراء الأجوبة غير التصوف، أو الدين، أو أي طريقة يحاول من خلالها أن يبحث عن أي إجابة تُسكت مخاوفه من أن تكون عملية وجوده على هذه الأرض والتجربة المرة التي عليه أن يخوضها مجرد مرور عابر وربما عبثي.. فمثل هذا المخاوف تؤدي إلى الموت، وللموت أشكال أكثر قسوة من الموت الجسدي، أنا الآن ميت يا صديقي، صدقني ولا تعتقد بأنني أبالغ، أنا ميت بالفعل وأعيش على هامش الحياة، أعيش بلا خيارات وبلا إرادة وبلا أمل، اشعر في بعض الأحيان بأنني مجرد آلة للكتابة والثرثرة ليس إلا...
شكرا على اهتمامك وتعليقك ودمت بفرح غامر.

اخر الافلام

.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم


.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله




.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah