الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثنيوية الذهنية والسلوك البشري

جمان حلاّوي

2009 / 9 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تحدثني قراءاتي وحدسي أن الإنسان ثنائي الطبع والتفكير والاستنتاج ، ولا يمكن بأي حال أن يكون مفردا" بتصرفه وإدراكه واستنباطاته وقدومه على أي عمل ، ولعل فكرة وجود الشيطان في الكون عند الأديان جميعها مردودها هذا التفكير الثنيوي أو الميل الفكري عند الإنسان إلى إيجاد تعادل بين النقيضين ..الرب/ الشيطان .. والغلبة تعود في النهاية للخير (أو الرب ) لتمنح الإنسان الاستقرار والتوازن .
ولو رجعنا إلى المذاهب الدينية القديمة كالمذهب الديونيسي نراه مبني على الثنيوية الكونية المتمثلة في النور والظلمة بمعنى الخير والشر ، وبمعنى وجود عالمين : عالم دنيوي وعالم آخروي مع اعتبار أن العالم الدنيوي عالما" مرذولا" موهوما" والآخروي عالما نقيا" صافيا".
وكما فقي الفلسفة الصينية القديمة هناك توأمان احدهما ايجابي والآخر سلبي ، ومن صراع هذين التوأمين أو من تعاونهما نشأ العالم ، فالتوأم الايجابي يسمى( يانك ) والتوأم السلبي يسمى( ين )، ويمكن أن يسميا بالمذكر والمؤنث وبالفاعل والمفعول ، وبالمتقدم والمتأخر .
ويانك هو الجنوب المشمس ، و ين هو الشمال المظلم . ولذلك فأن يانك هو النور والحرارة ، و ين هو الظلام والبرودة .
وفي مجال الحياة يكون يانك رمز النمو والفرح والربح والشرف ، ويكون ين رمز الفناء والخسارة والكرب والشقاء .
وهو تناقض ظاهري لدى الفلسفة الصينية القديمة لأن النقيضين صورتان لشيء واحد وأكيد هو العقل البشري كونهما من نتاج هذا العقل المبدع !
والزرادشتية تقول أيضا" بوجود روحين في الكون منذ الأزل : روح الخير ( سبنتا ماينيو ) وروح الشر ( أنكرا ماينيو ) , وان عمل الخير هو من روح الخير وهي أعمال الخالق الأعظم ، ولكن أعمال الشر لا يمكن عزوها إلى الخالق الأعظم ولذلك فأن زرادشت رأى أن أعمال الشر ناجمة عن قوة روحية أخرى اسماها انكراماينيو كما أسلفت تعمل عن طريق الإنسان بمعنى أن هناك تعارضا" بين الاتجاه الرباني والاتجاه الإنساني ، أي بين الله والإنسان ، وفي ذلك شبه وتقارب مع الأفكار الدينية اليهودية والمسيحية وفيها الشيطان وعن طريق استخدام الإنسان يعمل دائما" على إحباط التدبيرات الإلهية
والمسيح في الديانة المسيحية قوة إلهية تعمل للخير وتقاوم الإغراء والمعصية وهو إغراء الشيطان بصورته الحقيقية أو بتجليات بشرية .
والفلسفة اليونانية قبل سقراط كما في الفلسفة الآيونية وهي فلسفة مادية تؤمن بثوابت الطبيعة وهمها تعليل العالم الخارجي تعليلا" ماديا" عن طريق إيجاد عنصر أساسي هو الأصل في كل ما نراه في الكون المحسوس فقال بعضهم الماء والبعض الآخر الهواء ..الخ
وهذه الفلسفة بالعموم بدأت ترى في الوجود اضطرابا" وتقلبا"وتغيرا" وان لابد من وجود ثبات ودوام واستقرار تكون هي الحقيقة المستورة وراء تلك المظاهر الفوضوية . ومن هنا نشأت فكرة ثنيوية تقوم على أساس الصراع بين التغير من جهة والثبات من جهة أخرى .
ويبدو أن الإنسان ميال إلى حب الاستقرار والاستناد إلى شيء ثابت يعينه على الشعور بالاطمئنان الداخلي أمام تهديدات الطبيعة . وفعلا" نرى الإنسان بسيط التفكير يتشبث بالديانات الحالية تشبثا" أعمى لأنها تعلمه القناعة والركون والقبول بما مقسوم وتعلمه أن الخير قادم ولو بعد حين !
ففكرة الخير الذي يغلب الشر والنور الذي يغلب الظلام موجودة منذ القدم حيث نقرأ في إحدى الأناشيد الدينية المصرية أن أعداء فرعون سيهلكون كما تهلك الحيـّة أبوفيس في صباح السنة الجديدة ، فالحية هنا رمز الظلام ، وان نور الصباح في مستهل السنة الجديدة يقضي على الظلام .
وفي ديانات وادي الرافدين القديمة الشيء الكثير من انتصار الخير على الشر في احتفالات رأس السنة عندهم رمز لتغلب الحياة على الموت متمثلة بخروج ( تموز ) من ارض الأموات والظلام ليعود إلى الحياة من جديد فتعود الخصوبة وتزرع الأرض في موسم الربيع سنويا" كبداية لسنة جديدة، ويتم الزواج بينه وبين ( عشتار )...
وان قيام المسيح وصعوده إلى السماء بعد الصلب كما في الحكاية المسيحية هو رمز للتغلب على الموت .

إن فكرة الثنيوية عند الإنسان ناشئة في الأصل من التركيب الفسيولوجي للدماغ البشري حصرا" دون الكائنات الدنيا كونه يحمل وعيا" وتمثيلا" واستنتاجا"، ثم تنامى إلى تطبـّع منذ احتكاكه في أول عهده في العيش على الأرض البدائية وتفاعله مع محيطه ، وشعوره انه طرف والطبيعة طرف ثان ، وان الطرفين متناقضان ومتعارضان ، وان الشعور بالذات الذي نشأ في الإنسان بعد التجارب والمعاناة أهم تطور في هذا الكون لأن الإنسان بدأ بالتمييز بين نفسه والطبيعة وبين نفسه والغير ، وان هذه الثنيوية كانت مشفوعة بثنيويات محيطية كوجود التناقض بين الليل والنهار والنور والظلام والسماء والأرض والموت والحياة ، فالعالم في نظر الإنسان القديم كان مأهولا" بهذه الثنائيات التي تصارع بعضها البعض الآخر ، وكان هو في بؤرة هذا الصراع .

وعندما نصل في حديثنا إلى الإسلام نرى الثنيوية واضحة في السلوك المنهجي للإسلام وفي النص القرآني على الرغم من تمسك الإسلام بوحدانيته الإلهية ظاهريا" فأن عملية خلق ( إبليس ) من قبل الربّ ثم مشيئته أن لا يسجد لغير الله لألا يسقط في مسألة الشرك ، لكنه مع ذلك أمره أن يسجد لآدم ، والمشيئة الإلهية الأزلية لا ترد لذا كان الربّ مدركا" ومتعمدا" أن يخطـّيء إبليس ليوقعه في حبال المعصية ! فالنص القرآني صريح بتوجيه الأمر :

" ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين . قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ......إلى آخر النص / الأعراف"

نلاحظ هنا أن توجيه الرب للقيام بفعل السجود هو ( الأمر ) لكن المشيئة الإلهية الأزلية تجعل إبليس أن لا يسجد كونه أفضل من آدم من ناحية الجوهر ، وكذلك فالسجود لغير الرب هو الشرك به
وكما يقول ( د. صادق جلال العظم في كتابه نقد الفكر الديني / فصل مأساة إبليس ) إن الله أمر إبليس بالسجود لآدم لكنه شاء له أن يعصي الأمر ، ولو شاء الله لإبليس أن يقع ساجدا" لوقع ساجدا" لتوه إذ لا حول ولا قوة للعبد على رد المشيئة الإلهية ( حسب الأسطورة المذكورة في القرآن ) .
كان فعل التخطئة متعمدا" لخلق المعارض والنقيض ، فقد أراد الله أن يصنع نقيضه ، ولولا إبليس ما عرف الله ولن تكون هناك أهمية لوجوده !
كما أن لا أهمية للجمال إذا لم يكن هناك قبح كون كل ما يحيطنا سيكون شيئا" معتادا" لا نتمكن أن نصفه بالجميل لانتفاء وجه المقارنة !!

إن الثنيوية واضحة في الفكر والسلوك البشري لإتمام توازن ما .. فالكون عبارة عن متناقضات متضاربة ولا تفرد مستمر إلا وخلق نقيضه لديمومة الحركة ، إذ لا حركة بدون تناقض السلب والإيجاب ، ولا مادة بدون الحركة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
سيمون خوري ( 2009 / 9 / 10 - 20:08 )
الاخ الكاتب المحترم ، مادة جميلة وغنية .سبق وقرأت لك عدة مواد تستحق عليها كل التقدير كموقف شخصي . لكن ما اود أن أضيفه إذا سمحت أنه غالباً هذه الثنائية تتحول الى فردانية . أي الى تغليب عنصر على بقية العناصر . المؤمن والكافر ، الجنة والنار ، الاسود والابيض . أنا وهو ، هم ونحن . هذه الثنائية لا تتعاطي مع الحياة بكل ما فيها من تضدات أو الوان مختلفة . ويمكن ملاحظة غلبة الفردية في النصوص الدينية . وهو الأساس في منشأ التعصب الفردي ، ثم إنتقالة الى تعصب جمعي . على كل حال لاأود تقديم مداخلة بقدر ما هو مجرد وجهة نظر لمقالك الممتع . مع الشكر لك .

اخر الافلام

.. السودان الآن مع عماد حسن.. دعم صريح للجيش ومساندة خفية للدعم


.. رياض منصور: تغمرنا السعادة بمظاهرات الجامعات الأمريكية.. ماذ




.. استمرار موجة الاحتجاجات الطلابية المؤيدة لفلسطين في الجامعات


.. هدنة غزة.. ما هو مقترح إسرائيل الذي أشاد به بلينكن؟




.. مراسل الجزيرة: استشهاد طفلين بقصف إسرائيلي على مخيم الشابورة