الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العيد ... والمستبد

عبدالحكيم الفيتوري

2009 / 9 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لكل قوم هاد، ولكل شعب عيد. فالأعياد تشكل لهذه الشعوب بُعدا تجديديا حيث الخروج عن مألوف الأيام ورتابة العادات والتقاليد اليومية. كذلك فإن العيد له بُعد احتفالي حيث يشكل المرح واللعب والسرور من أهم جوانب التخفف من أعباء الحياة وعنائها ومسؤولياتها. كما أن للعيد واحتفالاته وظائف اجتماعية هامة جدا إضافة إلى الترويح، إنها تخلق الشعور بالانتماء والهوية والاعتزاز بهما، من حيث إعطاء الهوية قيمة إيجابية ضرورية جدا لتماسك الجماعة والمجتمع. كما قال الرافعي: ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأنَّ فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأنَّ الأيام تتغير، وليس العيد للأمة إلاَّ يوما تعرض فيه جمال نظامها الاجتماعي، فيكون يوم الشعور الواحد في نفوس الجميع، والكلمة الواحدة في ألسنة الجميع، يوم الشعور بالقدرة على تغيير الأيام، لا القدرة على تغيير الثياب!!

إذن، فالاعياد بأبعادها التجديدية والاحتفالية والاجتماعية تقدم للناس حلولا نفسية وشعورية تعوضهم عن سلبيات وتقهقر الحالة العامة للأمة، وتنسيهم العداوات والاحتقانات بينهم، وتذهب عنهم قهر المستبد وغبن الظالم. وبتلك الأبعاد العيدية مجتمعة تتحول دلالة الانتماء من السلب إلى الإيجاب، وتتغذى مشاعر الاعتزاز الذاتي والراحة النفسية والشعور بالقيمة والأهمية!!

ولكن المستبد كعادته لا يفوت هذه الفرصة الذهبية بدون توظيفها وتحبيرها لصالح استبداده وممارساته النكراء في هدر وعي المجتمع وطاقاته، وذلك من خلال إعادة صياغة تلك الأبعاد العيدية لتحقيق مآربه المتخلفة، وفق عملية مبرمجة على أسس الحرب النفسية والسيطرة الاجتماعية عبر خبراء علم النفس الإدراكي والاجتماعي السلوكي حيث يدمج في هذه العملية بين شخص المستبد والأبعاد العيدية بطريقة متقنة، فيصبح المستبد هو لحمة الانتماء والتعلق والاعتزاز في نظر المجتمعات المغلوبة على أمرها، وذلك من خلال اقترانه وحضوره الكثيف بصورته وشاراته في الأعياد الدينية والوطنية بالإكثار على الناس بشعاراته، ومقالاته، وأعلامه، وخزعبلاته، كل ذلك بألوان جذابة، وزخارف براقة؛ خالقة بهجة رائعة واندماج متقن بين العيد والمستبد، فيصير المستبد هو الوطن، والوطن هو المستبد. حينئذ يحق القول على أبناء المجتمع برفع المستبد وتمجيده وإجلاله.

أوليس هو حامي حمى الإسلام؛ وراعي مسابقات القرآن، وناشر المصحف الكريم، وطابع الكتب الدينية، ومكرم العلماء والأدباء، وموزع الجوائز الثمينة على الدعاة والمصلحين، وكل ذلك من ماله الخاص!!

أوليس هو المدافع الوحيد على بيضة البلاد ووحدة العباد من التمزق والتناحر والتشرذم، ألم يدحر كل المعارضات، ويسكت كل الأصوات، ويقصى كل العقلاء، ويهمش ذوي النهى والأحلام في المجتمع بحنكته السياسية وعقليته الفذة!!

أوليس هو الذي طور البلاد وعلم العباد، فمن ذا الذي بنى الطرق والعمائر، وأصلح الأراضى والوديان، ومد الماء والكهرباء. ومن ذا الذي شيد المدارس والمعاهد، وبعث الطلاب إلى الجامعات. كذلك شيد السجون ونشر المعتقلات وعلق مخالفيه في الرأى على أعواد المشانق!!

أوليس هو الذي نهض بسياسة البلاد، وأخرج ثرواته للعباد، ورفع رأس البلاد. وباع خيرات العباد من أجل إملاق البلاد وإذلال العباد!!

لا ريب إننا بإزاء عملية سطو رهيبة على الهوية الوطنية والدينية، والعقل الجمعي وأغتيال الوعي جملة. وذلك من خلال المماهاة بين الهوية والانتماء والذاكرة والمستبد فيصبح هو الوجه المشرق للوطن. وتتفنن وسائل إعلام المستبد والمنتفعين منه بإحكام الحلقات في المماهاة بين الهوية والوطن وشخص المستبد، حيث تبالغ تلك الوسائل والنفعيون في تنويع وتكثيف ما يسهم في إحكام هذه المماهاة لدرجة أن تصبح الأعياد وأبعادها الاجتماعية والاحتفالية مجرد وسيلة تجميلية لعملية الدمج والإحكام هذه !!

إنها مصادرة لوعي وعقل وثقافة المجتمع وإحلال كيان المستبد محلها، فهناك دوما وطوال العام برامج تعزيزية لهذا الإحلال، من خلال الإكثار من الاحتفاليات واصطناع مناسباتها، ومعها تطمس المعاناة، ويتم إسكات المطالبات، أوليس العيد من حيث التعريف نقيض المعاناة والاحباطات؟!!

ولا يقتصر الأمر على مصادرة الذاكرة والهوية والتماهي بها، بل هناك السيطرة على المجال الإدراكي للناس، حيث يحتل المستبد بصوره ورموزه والشعارات التي ترفع في تمجيده والكتابات والتهاني؛ كحال نشرات الأخبار المسموعة والمرئية، وكذلك احتلال صدارة الحيز الإعلامي المنشور لإبراز أخباره ولقاءاته وغدواته وروحاته، إنه يصبح كلي الحضور في مدركات الناس الواعية وغير الواعية، والهدف من هذا الحضور الكثيف هو تشكيل القناعات لدى الناس، والتلاعب بعقولها، وصولا إلى دفعها إلى مواقف معينة وسلوكيات محددة تخدم سياسة المستبد. وتندرج هذه العملية ضمن ما أصبح يسمى إدارة الإدراك ويقصد به التحكم بافكار ومواقف وميول الآخرين كي يتصرفوا كما نريد، أو بالأحرى تشكيل ميولهم وقناعاتهم بما يخدم أهدافنا، وتكون الخطوة التالية الحتمية هي التحكم بالسلوكيات والمواقف!!

ولا يخفى أن إدارة الإدراك تعد من الأساليب الخطيرة في التلاعب بالعقول وتشكيلها، وتتبع في ذلك عدة أساليب منها مبدأ التنويع والإشهار، فعلى مستوى إشهار المستبد وحضوره الكلي يملء المجال الإدراكي للناس بأظهاره حينا في أبهة الامبراطور، وأخرى في بزة الماريشال، وثالثة في بزة قائد الطيران، وأخرى في لباس تقليدي على صهوة حصان. كما يظهر في اللافتات والملصقات الكبيرة التي تملأ الطرقات والساحات، وقد اكتسى ملامح الابهة مما يضفى عليه صورة الكائن الخارق!!

ويضاف إلى ذلك كله اللعب على العلاقة المكانية تدليلا على رفعة المكانة، الصور والملصقات والنحوتات واللافتات لا توضع فقط في الأماكن التي تشكل بؤرة الانتباه، بل هي أيضا توضع في مكان أعلى من المشاهد، بذلك تصبح العلاقة علاقة فوقية دونية، وبذلك تتكرس العلاقة الفوقية من خلال التكرار، وتصبح الفوقية المكانية فوقية في المكانة والقيمة التي تعلو ما عداها.(1)

وبعد... قل لي بربك ماذا تنتظر من مجتمع يمارس عليه هذا المكر والسطو المنظم بالليل والنهار وفي أخص أوقاته، وأجمل مناسباته، وأروع أعياده ؟! أحسب أن لسان حاله يقول:
عيد بأي حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد.

وأختم بكلمات ظريفة لأحمد مطر يحاور فيها مستبد:
قلت للحاكم: هل أنت الذي أنجبتنا؟
قال: لا. لست أنا !!
قلت: هل صيرك الله إلها فوقنا؟
قال: حاشا ربنا !!
قلت: هل نحن طلبنا منك أن تحكمنا؟
قال: كلا !!
قلت: هل كانت لنا عشرة أوطان وفيها وطن مستعمل زاد على حاجتنا فوهبنا لك هذا الوطن؟
قال: لم يحدث.. ولا أحسب هذا ممكنا !!
قلت: هل أقرضتنا شيئا على أن تخسف الأرض بنا إن لم نسدد ديننا؟
قال: كلا !!
قلت: ما دمت، إذن، لست إلها، أو أبا، أو حاكما منتخبا، أو مالكا، أو دائنا. فلماذا لم تزل، تحكمنا؟!!

وكل عام وأنتم بخير
ــــــــــــــ
1-استفدت كثيرا في مقالي هذا من كتاب د.مصطفى حجازي( التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور ).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هناك الكثير من الواقعية
مايسترو ( 2009 / 9 / 18 - 09:21 )
تحية للأستاذ عبد الحكيم على هذا المقال الذي يحتوي على الكثير من الواقعية، أجل هذا هو واقعنا اليوم ولا يمكن لأحد أن يكذب هذا الواقع، ومما يزيد الطين بلة أن المستبد يستقوي بالدين الذي هو أساس كل تخلف، والأدهى من هذا أن الناس فرحين بهذا الواقع طالما أن الاسلام وتعاليمه هي المسيطرة عليهم، وبذلك يستحقون ما هم عليه، ولن يتخلصوا من ذلك حتى يتخلصوا من خرافات الدين وأوهامه وكل ما يتصل به من ممارسات ومناسبات وغيرها، وكما يقال كما تكونون يولى عليكم، وهكذا رعية تحتاج إلى مثل هكذا راعي.

اخر الافلام

.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في


.. رفع علم حركة -حباد- اليهودية أثناء الهجوم على المعتصمين في ج




.. 101-Al-Baqarah


.. 93- Al-Baqarah




.. 94- Al-Baqarah