الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثغرة في أدلة كل من الإلهيين والماديين

تنزيه العقيلي

2009 / 9 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


بالرغم من أن أدلة واجب الوجود من المتانة، ما يصعب - بتقديري - دحرها بأدلة ناقضة لها، تكون بنفس الدرجة من المتانة، مع وجود ما يستحق الاحترام من تفسيرات علمية مادية للوجود، إلا إنها - كما بينت - تبقى غير قادرة على نقض الأدلة الفلسفية، دينية كانت أم لادينية؛ بالرغم مما أزعمه، تبقى ربما هناك ثغرة في دليل واجب الوجود في إثبات الخالق العاقل المريد القدير الحكيم؛ ثغرة إما في نفس النظرية، أو في الملكات الإدراكية للإنسان.



فدليل واجب الوجود، بعدما يورد دليل العلية، ودليل استحالة التسلسل، لينتهي بجواب ألاّ بد من علة أولى مستغنية عن العلة، كونها واجبة الوجود، لأن الحاجة إلى العلة مقتصر على الوجودات الممكنة وحسب. مع هذا يستعصي على الإدراك الإنساني تصور اللاّبداية (الأزلية)، بعكس إمكان تصور اللاّنهاية (الأبدية)، الذي يسهل على الإنسان تصورها نسبيا. لأننا يمكن أن نتصور شيئا ينبعث في لحظة تقع على خط الزمن، فيكون حادثا، ولكن يحمل معه شروط البقاء الأبدي، أو بتعبير آخر، لا يحمل أسباب الفناء. ولكن أن يكون وجود، أو كيان ما، مُنوجِدا، أو كائنا منذ الأزل، ومن غير علة، فهو ما لا يتمكن الإنسان تصوره، ومن هنا نسمع دائما سؤال الأطفال البريء والبسيط، لكن المنطقي والفلسفي العميق، ألا هو «والله؟ من الذي خلقه؟»، ولطالما وقفنا كآباء أو مربين مؤمنين حائرين أمام هذا السؤال، لا نعرف كيف نجيب عليه، ليس فقط لأنه من الصعوبة إيصال الجواب إلى الأطفال بشكل مفهوم لعقولهم، بل لأننا فعلا لا نعرف كيف نجيب. ولعلي أقول إن سبب كون تصور الإنسان للاّنهاية مع صعوبته أسهل عليه من تصوره للاّبداية، هو أنه وكل ما حوله من وجودات، إنما هي وجودات حادثة في نقطة على خط الزمن، مما يجعله عاجرا عن تصور وجود غير حادث في لحظة انبعاث من العدم إلى الوجود، بل أزلي ليس ذا بداية. أما كونه أقدر على تصور اللاّنهاية، فأولا لأن أي شيء عندما يَنوجِد، ويمتدّ وجوده في خط الزمن، فيمتدّ وجود بعض الوجودات طويلا نسبيا، من هنا يمكن تصور الامتداد الزمني المابعدي، أي إلى الأمام امتدادا لامحدودا، رغم عدم إمكان تصور الامتداد الزمني الماقبلي، أي إلى الوراء امتدادا لامحدودا. وهناك عامل آخر يجعل الإنسان أقدر على تصور اللانهاية (الأبدية)، أكثر من تصور اللابداية (الأزلية)، هو غريزة حب البقاء، التي تجعله يتطلع إلى لانهائية الوجود، وجوده الذاتي هو، وتمنيه ألا تكون هناك ثمة نقطة على خط زمنه، تمثل النهاية لذلك الخط، هذه الغريزة التي لا تغير من حقيقتها الحالات الاستثنائية، لتمني الموت انتحارا، أو تخلصا من مرض أو شيخوخة مرهقة، أو تضحية من أجل بقاء ما هو أثمن عنده من وجوده، أو تطلعا إلى وجود أكمل وأجمل وأسعد وأبقى، ألا هو الوجود الأخروي في نعيم وخلود، كما يفعل الانتحاريين، أو حسب مصطلحهم، الاستشهاديين.



نرجع إلى إشكالية الدليل على وجود واجب الوجود وأزليته، فيما يُشكّل ثغرة بسبب محدودية الإدراك الإنساني، فأقول إن هذه الثغرة الاستدلالية، لا تقلل مع هذا من اليقين، أو مقاربة اليقين، لصحة دليل واجب الوجود، لأن الثغرة أو الثغرات التي تنطوي عليها النظرية المادية أشد لا معقولية بكثير، فأصحابها ينتهون أيضا إلى نقطة لا يعرفون ما كان قبلها، بحيث لا يجيبوننا على من الذي أوجد المادة الأولى، أو الطاقة الأولى، مع فرض القول بأصالة الطاقة، بدلا من أصالة المادة، وأن الطاقة استحالت مادة. ولا يبقى من خالق إذن لدى المادية، إلا أصالة ثمة منفعل، وثمة فاعل؛ المنفعل هو المادة، أو الطاقة، أو الطبيعة، والفاعل هو الصدفة، فسبحانها من صدفة قديرة عليمة مريدة حكيمة.



وقديما قلت لنسلّم بكون دعوى الوجود الأزلي للعلة الأولى واجبة الوجود تمثل خرافة، فإن القول بخالقية الصدفة خرافة هي الأخرى، فلنسأل أنفسنا، أي الخرافتين أشد خرافة، وأيهما أقرب إلى قبول العقل بها، وإن كان ثمة سؤال يبقى بلا جواب.



ومع هذا حاولت أن أفكر بكيفية الإجابة على سؤال الأطفال التقليدي «ومن الذي خلق الله إذن؟»، والذي هو في الواقع سؤالنا نحن الكبار، ولكننا نكابر، وننسبه للأطفال، فأقول لنساير العقل الطفولي فينا مع سؤاله هذا، فنقول، حسنا إن هذا الخالق المبدع القدير الحكيم العليم يحتاج إلى من يخلقه. فيُرَدّ على ذلك بردّين، هو إن افتراض وجود خالق للخالق سيجرنا إلى وجود خالق لخالق الخالق، وهذا يتسلسل إلى ما نهاية في سلسلة العلل التي لا بداية بها، وهذا يعني الإقرار بالتسلسل اللانهائي، أو اللابدائي، للعلل؛ هذا التسلسل العِلّي الممتنع عقلا، لأنه إذا صح، لم يكن سيكون هناك أي وجود، بينما علمنا بالوجود لا شك فيه، لأننا نعيشه، وبالتالي هو من العلم الحضوري، وبالتالي البديهي. أما الرد الثاني، هو أن خالق الخالق إذا كان بإمكانه أن يخلق خالقا يخلق كل هذه الأكوان، فمن قبيل الأولى أن يكون قادرا على المباشرة بنفسه في خلقها. وبالتالي ينحصر تفسير علة الوجود في واجب الوجود سبحانه.



طبعا وجود الخالق المبدع واجب الوجود اللامعلول، لا علاقة لها بالتفسير الديني لبداية الخلق، لأننا نتكلم هنا عن الدليل الفلسفي، وليس الدليل الديني لله، ومن هنا، فوجود هذا الخالق الفلسفي، لا يتعارض لا مع الانفجار الأول، ولا مع أصالة الطاقة، ولا مع فرضية التطور الدارونية، فإذا ما صحت كل تلك الفرضيات، أو النظريات، لا تكون ناقضة لفكرة وجود الخالق، الذي يمثل علة الوجود الأولى غير المعلولة، بل سيكون كل ذلك مُعضِّدا وداعما لنظرية واجب الوجود.



ومهما كانت الحقيقة، نجد أنفسنا كإلهيين لادينيين عقليين، على مساحة مشتركة مع الملحدين العقلانيين الإنسانيين، ومع الدينيين العقلانيين الإنسانيين، فلا دعوة، ولا تبشير، بل عرض للأفكار، ندّعي عقليتها، ونُقِرّ بنسبيتها.



كتبت في تسعينات القرن السابق

وروجعت في 02/09/2009

وأكملت في 18/09/2009











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - علم لا ينفع
بسيونى بسيونى ( 2009 / 9 / 18 - 22:05 )
فى الحقيقه هناك اشياء الجهل بها لا يضر ابدا فهى علم لا ينفع وجهل لا يضر


2 - العلوم لا علاقة لها بالدين
محمود ( 2009 / 9 / 19 - 00:21 )
اما الفلسفه فقد قالت كلمتها -وتطور العلم في كل المجالات كان اعتمادا كليا ولا يخرج عن الواقع المادي نظريا وعمليا وباعتراف العلماء - اما لو اعتمد العلماء الروحانيات والمثاليات وسيطرة الدين لبقى الرائ القائل -- بان الشمس تدور حول الارض -- وسيحرق كل من يخالف الدين لقد امسى الدين عبئا ثقيلا مزعجا للبشريه وان الله مجرد كلمة لا ناقه لنا بها ولا جمل


3 - عبارة - واجب ألوجود - مجرد ثغاء
ماجد جمال الدين ( 2009 / 9 / 19 - 05:53 )
عبارة - واجب ألوجود - مجرد ثغاء سفسطي إبتدعه وعاظ ألسلاطين .
وقد دحضها ألحلاج قبل 12 قرنا بمقولته ألقصيرة وألعميقة : - وجوب ألوجود يستلزم وجود ألوجوب - ( أي في ألعدم ) .

اخر الافلام

.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية


.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟




.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي




.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ