الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معايير النضج النفسي (4) الواقعية والقدرة على التعايش مع الحياة بغموضها و ألمها

مشير سمير

2009 / 9 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


واحدة من سمات النضج هي قبول حقيقة أن الحياة غامضة ومؤلمة وأنه ليس كل ما في الحياة قابل للتفسير. فهناك مثلاً أطفال يولدون بعيوب خَلقية وتوائم تولد ملتصقة يعيشون هكذا طوال العمر دون تفسير، وأطفال آخرون يموتون في فراشهم في ساعاتهم الأولى دون أي تفسير. وهناك أطفال وشباب يافعين يصابون بالسرطان ويقضون السنوات القليلة المتبقية من عمرهم تحت تأثير العلاج الكيميائي المؤلم الذي يحولهم إلى هياكل عظمية قبل أن يموتوا دون أي تفسير. وهناك الكثيرون ممن يشبوا بإعاقات نفسية وجسدية وحتى عقلية تلازمهم طوال حياتهم، ربما بدون أي أسباب معروفة، وربما لأسباب لا شأن لهم بها على الإطلاق وكأنهم يدفعون ثمن أخطاء أرتكبها الآخرون، مما يبدو على أنه ضرب من الظلم البحت وعدم العدل، وهذا أيضاً يبقى بدون تفسير. هناك من لا ينجبون على الإطلاق، وهناك من ينجبون ويذهب أبنائهم في حادثة لا يتحمل مسئوليتها أحد. وهناك المئات الذين يفقدون حياتهم أو يفقدون أحبائهم أو يفقدون أعضاء من جسدهم في أعمال عسكرية أو إرهابية ليس لهم دخل بها على الإطلاق سوى أنهم كانوا فقط في زيارة لهذا المكان، وتبقى علامات الاستفهام معهم دون تفسير ربما طوال الحياة. وشعوب يتدفق من باطن أرضها البترول الذي يجعلهم أثرياء دون حساب أو مجهود بينما في صورة عبثية تبدو مُسيرة بالعشوائية التامة واللامنطقية يجاورهم من يتصيد الجراد ليتغذى عليه بسبب القحط والفقر الشديد، دون أي تفسير. وهناك من قد يخسر أحبائه أو أمواله وممتلكاته جميعها بسبب زلزال أو أحد السيول أو كارثة طبيعية أخرى دون أي تفسير. وتتحول كلمة "لماذا؟" في حياة الكثيرين إلى حجر عثرة عنيف يقضي على حياتهم.

ولذلك فإنه من النضج ليس فقط أن يقبل الإنسان مثل هذا الغموض من الحياة، بل أيضاً أن يتعايش ويتكيف مع كل ما تأتي به الحياة من صعاب وآلام بدرجة لا تعيق حياته عن الاستمرار والإنجاز بنفس مقدار الرضى والاطمئنان الداخليين. فمن النضج أن نؤمن بأن الحياة لا تأتي بما لا يستطيع الإنسان تناوله، حتى وإن لم يفهمه. فمن الواقعية والنضج أن يقبل الإنسان أن الله غير مُطالَب بأن يشرح ويفسر كل ما يفعله أو يسمح بحدوثه في هذه الحياة. فهو، أي الله، قد يفعل ذلك بعد سنوات وسنوات كما قد لا يفعل ذلك على الإطلاق، أن يشرح أو يفسر للإنسان لماذا يحدث كل ما يحدث. وفي هذا تقول الكاتبة الأمريكية جويس بالدوين، في تعليقها على أول أسفار الكتاب المقدس (سفر التكوين): "لا يعدنا الكتاب المقدس بأن المشاكل الفكرية ستـُقابل بحجج منطقية، فالله لا يدافع عن نفسه أمامك أو أمامي."(1)
إلا أن غموض الحياة وعدم الفهم هذا في نفس الوقت لا ينفي سعي الإنسان الدؤوب للفهم وطلب المعرفة ومحاولة تغيير واقعه كلما أمكن، دون أن يكون ذلك مشوباً بالتمرد على الله وعدم الثقة به، فلا يوجد تعارض بين الطموح العاقل والسعي الدؤوب للفهم والمعرفة والتغيير، وبين قبول واقع محدودية قدرة الإنسان وفهمه وإدراكه والاحتفاظ بالطمأنينة النابعة من الثقة في الله. وهذا هو تحدي النضج هنا.

وبالطبع هذا الوجه من النضج يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرة الإنسان على تحمل الألم، الذي هو واحد من أشد واقعيات هذه الحياة وحقائقها التي لا مهرب منها، تماماً كالموت. إن مجرد فكرة وجود الألم في الحياة قد تبدو في أحيان كثيرة عبثية وغير مبررة وعلى تعارض شديد مع فكرة وجود خالق قدير ونبيل يحب خليقته التي أوجدها لكي تتمتع بالشركة معه. وربما نجد من يختبرون ألماً شديداً في حياتهم يواجهون بهذا السؤال "لماذا يسمح الله بالألم؟" وهنا يلعب الفهم اللاهوتي دوراً كبيراً في حياة الإنسان، دوراً ربما لا تستطيع الأيديولوجيات (المذاهب) الأخرى في الحياة تقديمه. فالغموض والألم - بالرغم من أننا نتحدث في موضع آخر عن معنى الألم وفوائده، إلا أنهما يبقيا في أحيان كثيرة سراً غير قابل للتفسير بطريقة قد تحطم الإنسان ما لم يرتكن بقوة على إيمان ويقين في أمور وقناعات تبقى راسخة خلف هذه الحياة حتى وإن لم يراها الإنسان (كوجود إله كلي الصلاح والحب والقدرة والمعرفة والحكمة خلف هذا العالم الذي قد لا تظهر فيه دائماً الدلائل الملموسة على ذلك)، ومن ثم يتشبث بتلك الأمور والقناعات "كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة" لا تتزحزح يتعلق بها قارب حياته الضعيف الذي تعصف به خضم الأمواج الهادرة لكي ما يحصل على النجاة.
فعلى الشخص الناضج إذن أن يكون لديه الاستعداد لتحمل الألم وعدم الهروب منه، أو حسب تعبير الرسول بطرس (مؤسس كنيسة روما) "أن يتسلح بهذه النية – تحمل الألم" (في رسالته الأولى 4: 1)، فإن الشخص الذي لا يطيق قدرة على تحمل غموض الحياة وآلامها هو شخص لا يريد أن يحيا في الواقع، وهذا من أدق سمات عدم النضج.

* ومن الواقعية أيضاً والنضج أن يقبل الإنسان أن هذه الحياة مؤقتة ولا تحمل في كيانها الديمومة والثبات واليقينية التي يحتاجها الإنسان لكي يشعر بالمعنى من حياته، فالإنسان يلتمس دائماً أن يجد أموراً ثابتة ودائمة ويقينية في هذه الحياة لكي يبني عليها حياته حتى يشعر بأن هناك مغزى لحياته و معنى من وجوده في التاريخ، وهذا طبيعي حيث أن الإنسان خـُلق وهو يحمل في داخله الأبدية والخلود، ولكن المشكلة للأسف أنه يسعى لأن يجد ذلك في هذه الحياة وهذا ما لا يمكن أن يجده بالطبع في هذه الحياة وحدها. فإن كان رجائنا في وجود معنى لحياتنا مرهون فقط بوجودنا في حياتنا على الأرض وما نأتيه بها، لكنا فعلاً أتعس الكائنات على الإطلاق على ظهر هذا الكوكب! فالديمومة والثبات واليقينية من وجود معنى للحياة هي أشياء من خواص الأبدية وليست هذه الحياة. فما يعطي المعنى والتبرير الحقيقي للحياة – كما سنتحدث في المعيار التالي – هو كل ما يتعلق بالبعد الأبدي للحياة، فأعظم ما يوجد في حياتنا على الأرض، في ذاته من دون أن يرتبط بالبعد الأبدي، لا يكفي لتبرير الوجود في مثل معاناة وألم هذه الحياة لسنوات مهما كان عددها تنتهي وينساها التاريخ وكأنها أحيلت للعدم وكأنها من الأصل لم تكون.

* كما ومن الواقعية والنضج أن يقبل الإنسان أن هذه الحياة ناقصة وغير كاملة ولا تمنحه دائماً ما يرغبه أو ينشده أو حتى تنتهي به النهايات السعيدة كما هو الحال دائماً في القصص الرومانسية الخيالية، وهو الأمر الذي يرغبه دائماً الإنسان – بسب عدم منطقيته - والذي تغذيه فيه دائماً وسائل الإعلام. فالحفاظ على هذا الأمل الرومانسي الوردي الدائم لدى الإنسان (أن يجد السعادة) هو العماد والركيزة الأولى التي تقف عليها أنظمة العالم الإعلامية والتسويقية لكي يظل الفرد ممولاً لها من خلال الاستهلاك اللاهث للحصول على ذلك الأمل الرومانسي الوردي (إذا فقط حصلت على هذا أو ذاك فسوف أصبح سعيداً)، تماماً كما يعلق سائق العربة التي يجرها الحمار "جزرة التحفيز" أمام عيني الحمار وبهذا يحتفظ به يجر العربة دائماً للأمام حتى نهاية حياته لمصلحة سائق العربة، وبالطبع دون أن يحصل الحمار على هذه الجزرة الوهمية. فالإنسان الناضج لابد أن يعرف أنه لا وجود لما يسمى "بالسعادة" في هذه الحياة الساقطة الناقصة وغير الكاملة. فأن يشعر الإنسان بالفرح والبهجة أحياناً، هذا أمر آخر غير مفهوم "السعادة". فعلى الإنسان الناضج إذن أن يميز ما بين واقع هذه الحياة وما تقدمه، وبين الخيال وأحلام اليقظة الوردية اللذيذة ويختار أن يحيا الواقع المؤلم غير الوردي لأنه هو الواقع. فالبديل هو أن يحيا الإنسان في الوهم.
وفي الختام أود أن أترك الاقتباسات التالية معك عزيزي القارئ لتتأمل بها:
"لا أستطيع أن أصدق أن الغرض/الهدف في الحياة هو السعادة. بل إنه العطاء والحب. هو الحياة لأجل قضية ما. وفوق كل شئ هو أن حياتك ذاتها تكون جديرة بأنها قد وُجِدَت من الأساس، من خلال ما كانت عليه." (الأم تريزا)
"إن الغرض من الحياة لا يكمن في غياب الألم والمعاناة، بل في أن يأتي الألم بالثمر." (د. بول تورنييه)(2)


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1- بالدوين، جويس. "سفر التكوين – الجزء الثاني"، سلسلة تفسير الكتاب المقدس يتحدث اليوم. ترجمة: "نكلس نسيم". دار النشر الأسقفية. القاهرة 1998
2- Tournier, Paul. “A Listening Ear, Augsburg Publishing House , 1984”,








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عن عملي التطوعي
مشير سمير ( 2009 / 9 / 28 - 16:22 )
إن سمحت إدارة الحوار المتمدن، فهذا موقعي الخاص:
www.arabic-christian-counseling.com

اخر الافلام

.. قمر الطائي من انطوائية وخجولة إلى واثقة بنفسها ??????


.. قصص مؤلمة في كل ركن.. شاهد ما رصدته CNN داخل مستشفى في قطر ي




.. بين طلبات -حماس- ورفض نتنياهو.. كيف يبدو مشهد مفاوضات وقف إط


.. ماذا يحدث على حدود مصر فى رفح..




.. اشتباكات في الفاشر تنذر بانطلاق المعركة الفاصلة بدارفور