الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معايير النضج النفسي (5) وجود معنى وأهداف غيرية للحياة والقدرة على إنجاز تلك الأهداف

مشير سمير

2009 / 9 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من الثابت علمياً أن الإنسان يحتاج إلى أن يشعر بالقيمة وبالإنجاز لكي تكون حياته سوية وناضجة. إلا أن الاحتياج للقيمة وللإنجاز في الحقيقة ليسا إلا احتياجان يعبران عن دافع ومحرك أعمق داخل الإنسان، وهو احتياجه إلى أن يدرك أن هناك معنى ومغزى من وجوده في الحياة وأن يجد ذلك المعنى لكي يشعر بقيمة حياته، وليس العكس. فمجرد إنجازات الإنسان في الحياة مهما إن كانت قيمة تلك الإنجازات لا تستطيع أن توجـِد أو تخلق أو تحقق المعنى أو المغزى من حياة هذا الإنسان، ولكن إدراك هذا المعنى يدفع الإنسان إلى الإنجاز والشعور بالقيمة بالتالي.
فالإنسان إذن دائم التساؤل، حتى وإن لم يعي ذلك، عن معنى الحياة ولماذا هو يعيش ولماذا وُجِدَ من الأساس. فالإحساس بمعنى الحياة الشخصية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإحساس الإنسان بالقيمة، أي أن "المعنى والغرض" هو الذي يحرك داخل الإنسان الإحساس بالقيمة. فإن لم يجد الإنسان المعنى من حياته والهدف (الغرض) الذي يعيش لأجله فبديهياً يشعر بالتفاهة والفراغ واللاقيمة، مهما إن أنتج أو أنجز في الحياة.

ويقول لنا الطبيب النفسي فيكتور فرانكل صاحب كتاب "الإنسان يبحث عن المعنى" الذي سجل فيه خبرته كسجين في أبشع المعتقلات النازية "أوشفيتز" كأكبر شهادة لهذه الفكرة الجوهرية إذ استطاع أن يجد غرض ومعنى يجعله يستمر يحيا ويجد قيمة لحياته وسط معسكر الاعتقال النازي، يقول لنا أنه من أهم خصائص هذا الهدف الذي لابد أن يجده الإنسان لحياته أن يكون غير ذاتياً وأعلى من الإنسان، أي أن يكون هدفاً خارجياً عن ذات الإنسان وأعظم منه. فالأهداف الذاتية لا تكفي لتحقيق الإحساس بالقيمة والإنجاز الذي يحتاج إليهما الإنسان لكي تكون حياته متزنة وسوية. فالإنسان، بحكم طبيعته البشرية، يجد نفسه أصغر من أن يكفي نفسه كما ذكرنا سابقاً. فلكي ما يشعر بالامتلاء والكفاية لابد وأن يبحث عن معنى وغرض وأهداف حياته خارج محدودية ذاته. فلا يكفي الإنسان أن يحيا لأجل عمل جيد وناجح ولأجل تكوين أسرة طيبة وعلاقات حسنة وناضجة أو حتى ممارسة أنشطة اجتماعية أو مجرد طقوس دينية إيجابية، كل هذه الأشياء لا تصلح في حد ذاتها أن تكون هي المعنى والمغزى من حياة هذا الإنسان ما لم تكن نابعة من غرض أكبر وأسمى خارجي عن دائرة محدودية الإنسان. فكل هذه الأهداف لم يكن الإنسان ليحتاج إليها لو لم يكن قد وُجـِدَ من الأصل. ولكنه قد وُجـِدَ، فلابد إذاً من أنه قد وُجـِدَ لغرض آخر أكبر من تلك الأهداف، أكبر من وجوده هو، وفي وجوده هذا تأتي تلك الأهداف الثانوية!

* وكلما كانت أهداف الإنسان أكبر وأسمى منه - ضمنياً خارجة عن ذاته، كما قال فرانكل، كلما ازداد بديهياً إحساسه بالمعنى وبالتالي بالقيمة. ويجدر بنا في هذا السياق الإشارة إلى أن سمو الهدف الذي يعيش لأجله الإنسان إنما يُكسِب حياة الإنسان قدرة على تحمل آلام الحياة، كما يقول فرانكل: "إني أجرؤ على القول بأنه لا يوجد في الدنيا شئ يمكن أن يساعد الإنسان بشدة على البقاء حتى في أسوأ الظروف، مثل معرفته بأن هناك معنى لحياته."(1)

إذن فالشخص الناضج لديه أهداف يحيا ويكافح لأجلها تكسب حياته المعنى، بما يشتمل عليه ذلك الكفاح من قدرة على ضبط النفس ودأب مستمر على الإنجاز. فالشخص الناضج الذي لديه أهدافاً سامية غير ذاتية يحيا لأجلها لابد وأن يضبط نفسه في كل شئ، وهنا القدرة على الإنجاز، لأجل السعي على تحقيق تلك الأهداف، كما يبدو واضحاً لنا في الاستعارات البلاغية في كتابات بولس الرسول، فيلسوف المسيحية، لمشهد البطل الرياضي الذي يضبط نفسه في كل شئ بلا كلل من أجل الوصول إلى تحقيق أهدافه (الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس 9: 24-27)، كما يتفق قول بولس الرسول هنا مع فيكتور فرانكل في أن قيمة الهدف وسموه يعطي الإنسان القدرة على الكفاح والمثابرة (أما أولئك فلكي يأخذوا إكليلاً (جائزة) يفنى، وأما نحن فإكليلاً لا يفنى)، بالإضافة إلى الإحساس باليقينية التي يحتاج إليه الإنسان (إذاً أنا أركض هكذا كأنه ليس عن غير يقين).
أيضاً من خلال الصور المجازية السابقة، وتلك التي سجلها بولس أيضاً في رسالته إلى أهل فيلبي (3: 10-15) نستطيع أن نستنتج ما تحدث عنه العلماء، من أن الإنسان الناضج لابد وأن يتمتع بالقدرة على الإنتاجية والإنجاز (أسعى نحو الغرض …) لكي يشعر بقيمة ومعنى وجوده كما قلنا سابقاً. فإن لم يستطع الإنسان أن يحرز أي إنتاج أو إنجاز له تجاه أهدافه الغيرية في الحياة لتعثرت وتعرقلت بشدة مسيرة نضجه الشخصي.




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- فرانكل، فيكتور. "الإنسان يبحث عن المعنى". ترجمة: طلعت منصور. دار القلم. الكويت 1982













التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سؤال للكاتب
علي ( 2009 / 9 / 26 - 21:49 )
ماهو المعنى والمغزى من وجودك والذي يحركك ويدفعك للإنجاز؟


2 - ردي على سؤال الأخ علي
مشير سمير ( 2009 / 9 / 28 - 16:18 )
إن عملي التطوعي كمعالج نفسي مسيحي، والذي فيه أحظى بالفرصة لمساعدة كثير من الأفراد المتألمين للتعلم وللتغير والنمو والاستشفاء، مما يربطني ويربطهم بالأبدية، إنما يعطي معنى قوي لوجودي في الحياة ومحرك هائل وضخم للاستمرار والانجاز.

وإن سمحت إدارة الحوار المتمدن، فهذا موقعي الخاص الذي يشرح ما أقوم به
www.arabic-christian-counseling.com

اخر الافلام

.. مسلسل-دكتور هو- يعود بعد ستين عاما في نسخة جديدة مع بطل روان


.. عالم مغربي يكشف الأسباب وراء حرمانه من تتويج مستحق بجائزة نو




.. مقابل وقف اجتياح رفح.. واشنطن تعرض تحديد -موقع قادة حماس-


.. الخروج من شمال غزة.. فلسطينيون يتحدثون عن -رحلة الرعب-




.. فرنسا.. سياسيون وناشطون بمسيرة ليلية تندد باستمرار الحرب على