الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العصمة بين الحقيقة والوهم

تنزيه العقيلي

2009 / 9 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قبل البحث عن العصمة؛ وجوبها، أو امتناعها، أو إمكانها، عقليا، أو دينيا، لا بد من توضيح معناها. العصمة هي ثمة وقاية من الوقوع في الذنب، أو في الخطأ، أو في كليهما. فهي ترفُّع عن أن يكون الإنسان واقعا في الضعف الذهني، فيكون جهولا، وضالا، ومخطئا، أو أن يكون واقعا في الضعف النفسي، أو الأخلاقي، فيكون ظلوما، ومنحرفا، ومذنبا. ومن هنا فالعصمة بمعنى الكمال الإنساني ممكن عقلي، مع لحاظ أنها إذا ثبتت، فهي نسبية، وليست مطلقة، لأن المطلق – لا أقل عند الإلهيين - هو واجب الوجود وحده سبحانه وتعالى. هذا الكمال الإنساني وليس الفوق-إنساني، وبالتالي النسبي المنعوت بالعصمة، إذا تدخل فيه عنصر الرعاية الإلهية، لا حصرا، بل تدعيما، هذا الكمال، إذا كان من وجهة نظر العقل المحض من ممكناته، وليس من ممتنعاته، كما هو ليس من واجباته، يكون، مع ثبوت النبوة أو الإمامة المنصوبة من الله، واجبا عقليا، وبغير ثبوتهما، يبقى في دائرة الممكنات، كما هو من الممكن أن يكون الإنسان فيلسوفا، أو فنانا، أو نابغة، أو عبقريا، أو مكتشفا، أو مخترعا، أو مبدعا. لكن، وكما بينا، فإن العصمة الممكنة هي تلك المقترنة بالبشرية، والعبودية، والنسبية، وليس بالإلهية، أو الفوق-بشرية، كالملائكية أو البنوة لله، والإطلاق. والعصمة، بحكم العقل، وبحكم جوهر الدين، بكل تأكيد لا تلتقي بالغلو، أي جعل المعصوم فوق الحقيقة البشرية، أو رفعه إلى مقام الألوهية، ولو ببعض صفات الإله المطلقة الخاصة به حصرا، كنسبة العلم المطلق، أو القدرة المطلقة، أو الحكمة المطلقة، إليه، أو عبادته دون الله، أو جعله شريكا لله في دعوى الربوبية، والألوهية، وإجابة الدعاء، وقضاء الحوائج، وشفاء المرضى، وغير ذلك من حالات الغلو، برفع المعصوم إلى مقام من مقامات الله سبحانه.



وعندما نتحدث فيما يتعلق بالعصمة، أي الكمال الإنساني النسبي، عن الإمكان الابتدائي، والوجوب التلازمي، أي عند ثبوت تكليف الله لإنسان ما بمهمة إلهية تكليفا شخصيا بالتعيين، وليس تكليفا نوعيا بالتعين، أي باصطفاء الله شخصا، أو أشخاصا، على وجه التحديد، فنقصد بما أن العصمة ممكنة ابتداءً، فيمتنع على الله بعلمه وقدرته وحكمته ولطفه أن يختار غير المؤهل، أو ذا الأهلية غير الكافية، أو غير المُجزية، بمعنى عدم تناسبها مع خطورة المهمة الموكلة إليه من الله.



والعصمة بهذا المعنى، لا بد أن تكون ذات بعدين؛ بعد ذاتي من لدن نفس المعصوم، وبعد إلهي من لدن الله سبحانه. أي إن الإنسان الذي يختاره الله للمهمة الإلهية، لا بد أن يكون ذا مؤهلات عقلية، وروحية، ونفسية، من ذكاء، وحكمة، وتوقد ذهني، وفطنة، وذاكرة قوية، وصدق، وأمانة، وحسن خلق، وشجاعة، وصفاء نفسي، وتوازن في الشخصية، كل ذلك بالقدر الذي يتناسب مع تكلفه بالرسالة، والنبوة، والإمامة، والهداية والقيادة الإلهيتين، والقدوة البشرية. فالملكات الذاتية، مضافا إليها الإرادة، المقترنة بالسعي من قبل المعصوم في تحقيق العصمة لنفسه، كل هذا يتعضد بالإرادة الإلهية، في إعانة الله للمستعصم، أي طالب العصمة، ليتممها له، فيما يكون قاصرا فيه، أو غافلا عنه، ليجعل منه قدوة، وأسوة، ومثلا أعلى للكمال الإنساني، وليثبت عمليا للناس، أن ما يدعوهم الله إليه عبر رسوله، أو نبيه، أو إمامه، قابل للتطبيق، فيقدم لهم مثلا عمليا للنظرية الإلهية، لتترجم قدر الإمكان إلى سلوك، لأن الإنسان القدوة يجب أن يرتفع، ويُرفَع إلى أعلى درجة ممكنة، حتى يبلغ الإنسان المقتدي به، أي درجة دونها في خط السير نحو الدرجة العليا، لأن المثل المقتدى به كلما كان ناقصا ومعيبا، كلما كان الاقتداء به أنقص وأعيب، وكلما كان أكمل، كلما اقترب من كماله المقتدي به، ولو بدرجة دونه.



أما القول بإمكان العصمة ابتداءً من حيث الإمكان العقلي، الذي هو أوسع من الإمكان العملي، فدليله كالآتي. نحن نستطيع أن نتصور إنسانا معصوما من الخطأ في ميدان من ميادين المعرفة، كأن يكون معصوما من الخطأ في الرياضيات، ولو عصمة نسبية، قد تبلغ التسعين بالمئة، إلم تبلغ المئة بالمئة. أو أن يكون إنسان ما معصوما من الوقوع في سلوك فيه مفارقة أخلاقية، كأن يكون ذا نفرة شديدة من خصلة الكذب، تجعله ينأى عن الكذب، فيكون صادقا على طول الخط، إلا ما اضطر له اضطرارا حقيقيا، كأن تتوقف حياته أو حياة إنسان آخر على مجانبة الصدق. ومثلما يمكن أن نتصور العصمة لإنسان ما في ميدان من ميادين المعرفة، أو من ميادين السلوك، يمكن أن نتصور التحلي بالعصمة في مقطع زمني معين، بحيث يعصم إنسان ما نفسه من الكذب ليوم واحد، ويعصم نفسه من الإساءة إلى أي إنسان لشهر واحد، أو يعصم نفسه من أي فعل لساعة، أو يوم، أو شهر، أو سنة، كالمدخن الذي يجبر نفسه على الإقلاع عن التدخين لفترة، كما يفعل المسلم الصائم في نهار رمضان، إذا كان ملتزما بمفطرية التدخين مثلا. وهنا وعلى قاعدة ما جاز قليله جاز كثيره، أو ما جاز جزؤه جاز كله، تكون العصمة في ميدان معرفي أو سلوكي دليلا على إمكانها في أكثر من ميدان، وبالتالي في أكثر أو كل الميادين، وكما تكون العصمة في مقطع زمني من ساعة، أو يوم، أو شهر، أو سنة، دليلا على إمكانها العمر كله، أو جله. فالإمكان الفلسفي للعصمة متحقق، ومن هنا كان الواجب أن يختار الله لمهمته من دائرة المتحقق فيهم هذا الإمكان.



وقد شوه مفهوم العصمة من قبل بعض الكتب المقدسة، أو من قبل فهم أتباع الديانات والمذاهب المختلفة. فالعهدان القديم والجديد نسبا إلى الأنبياء، ما لا يليق بمعدل الإنسان في الحكمة من جهة، وفي الإنسانية وسمو الخلق من جهة أخرى. وفي نفس الوقت غالى بعضهم برفع إنسان إلى موقع الربوبية، والألوهية. أما المسلمون، فانقسموا إلى بعض من السنة، ممن ينفون العصمة، أو يضيقون دائرتها إلى أبعد حدود التضييق، أو إلى بعض من شيعة، ممن يوسعون مفهوم العصمة، ويرفعون سقفها إلى ما فوق الحقيقة البشرية للمعصومين. وبعض السنة نسبوا لبعض الخلفاء والصحابة مستوى من العصمة أعلى من عصمة النبي، وفي المقابل نرى بعض الشيعة قد نسبوا لأهل البيت مستوى من العصمة أعلى من عصمة النبي. والظاهر إن تضييق السنة للعصمة بالنسبة للنبي، وإن كان يمثل خطأ فلسفيا، إلا أنه أقرب للواقع، فيما هي حياة محمد، كإنسان ابتكر الإسلام، وحده، أو مستعينا بغيره، بحسن نية، أو بما دون ذلك من النية، أو بنية اختلط فيها الحسن وغير الحسن، الرسالي والذاتي. بينما الشيعة، وأقصد المعتدلين العقليين منهم، وليس المغالين، قد أحسنوا التنظير فلسفيا للعصمة الواجبة للمكلف الإلهي من جهة، إلا إنهم من جهة أخرى اضطروا إلى ليّ الواقع، وتحريف السيرة، ليكونا مطابقين للرؤية الفلسفية.

كتبت في وقت سابق

روجعت في 25/09/2009










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية


.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟




.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي




.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ