الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أتقع المسؤولية على القرآن أم على قراءة وفهم القرآن؟

تنزيه العقيلي

2009 / 9 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إذا ثبت لنا أن محمدا نبي مرسل من الله، وأن القرآن هو الكتاب المنزل إليه، إيحاءً منه تعالى، لا بد من بذل جهد استثنائي لتأويل كل نصوص القرآن، بما يجعله منسجما مع العقلين الفلسفي والأخلاقي، ولا بد من بذل أقصى الجهد لفهم سيرة النبي المفترضة نبوته على ضوئهما. أما إذا ثبت لنا، أو افترضنا أن الإسلام دين مبتكر من اجتهاده، اقتبس فيه ما اقتبسه مما قبله، ونقح منه ما نقح، وأضاف إليه ما أضاف، وحذف منه ما حذف، وأن القرآن من تأليفه، اقتباسا، وتنقيحا، وتأملا ذاتيا، واجتهادا، عندها لا بد من أن نسجل مردودات الإسلام لرصيده، فنحسب له ما فيه من إيجابيات، وعليه ما فيه من سلبيات.



إذن لنتأمل فيما يتحمل محمد مسؤوليته. هنا نستطيع أن نقول ابتداءً أنه هو الذي أسس للإسلام السياسي، فقد ابتدأ مسلما داعيا للإسلام، وانتهى إسلامويا مؤسسا لإيديولوجية الإسلام السياسي، وفكرة الدولة الإسلامية (دولة الله)، ومنهج الجهاد، وشن الحروب (المقدسة)، المسماة حسب أدبيات قرآن محمد جهادا في سبيل الله، والغزوات والفتوحات، واستخدام العنف في سبيل الله، ونظرية إرهاب الكافرين، أي الرافضين الاستجابة والتسليم لدعوته، لأن الكافر حسب المصطلح القرآني، هو كل من لم يؤمن بدين محمد. هذا التحول من المسلم العرفاني الداعي للإسلام، إلى الإسلاموي السلطوي المسيس للدين، حصل إما لأنه قد حصلت لديه تحولات، بعدما ذاق طعم السلطة والهيمنة السياسية، وإما أن مشروع الإسلام السياسي كان مضمرا ومؤجلا لحين تهيؤ الظروف الملائمة له.



على ضوء هذا الفهم، كواحد من الممكنات العقلية، وما قد يرجحه الكثير من مفردات واقع السيرة، نجده بدأ بدعوة روحية إلى الإيمان بالله، وتوحيده، والإسلام (التسليم) له، ثم انتقل إلى مؤسس لمجتمع أهلي، كمرحلة وسطى، بين المجتمع البدوي والمجتمع المدني، كما يذهب إليه أحد المفكرين العراقيين، ثم انتهى إلى أصولية إسلاموية، تعدّ دينها سياسة، وسياستها دينا، كما كان يعبر عن ذلك الخميني مفجر الثورة الإسلامية الإيرانية.



ثم كان هو الذي جعل الإسلام يؤوّل إلى ما يتعارض مع بعضه البعض، إلى ما يقترب من التناقض، وذلك بقصد، أو من غير قصد، أو من غير قصد ابتداءً، وبقصد انتهاءً، وذلك بسبب نوازع ذاتية متنازعة في دواخله. ومن هنا فهو مع فرض أنه أحدث هذا التعارض في البدء من غير قصد، عندما اكتشف أن القرآن قد اشتمل على مثل هذا التعارض، فحاول أن يوجد مخرجا لهذا المأزق القرآني، وذلك عبر الناسخ والمنسوخ تارة، أو عبر المحكم والمتشابه تارة أخرى، وجعل فهم وتأويل المتشابه حكرا على الله، والراسخين في العلم، حسب القراءة المعتمدة عند الشيعة، ولعله المعتزلة، بينما قرأ السنة الآية بوضع وقف لازم بعد عبارة «ولا يعلم تأويله إلا الله»، فجعلوا علم تأويل متشابهات القرآن حكرا على الله، وهذا نفي ضمني لحكمة الله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، من حيث لا يعي ذلك النافون، بدعوى أنه أنزل، في بعض ما أنزل، لغوا، لأن مخاطبة البشر بما لم يفهموه، ولا يفهمونه، ولن يفهموه، إذا لا يعرف معناه إلا هو؛ هذه المخاطبة لا يمكن أن تكون إلا لغوا. فالآية بنصها الكامل: «هُوَ الَّذي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتابَ، مِنهُ آياتٌ مُّحكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأَمّا الَّذينَ في قُلوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابتِغاء الفِتنَةِ وابتِغاء تَأويلِهِ، وَما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلاَّ اللّهُ والرّاسِخونَ في العِلمِ؛ يَقولونَ آمَنّا بِهِ، كُلٌّ مِّن عِندِ رَبِّنا، وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أولوا الألبابِ». فقرأ الشيعة المقطع الأخير من الآية: «وَما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلاَّ اللّهُ والرّاسِخونَ في العِلمِ؛ يَقولونَ [أي الراسخون في العلم العالمون بتأويله] آمَنّا بِهِ، كُلٌّ مِّن عِندِ رَبِّنا ...» بينما قرأها السنة «وَما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلاَّ اللّهُ. [علامة وقف لازم تتبعه جملة جديدة، معطوفة على سابقتها، لكن منقطعة عنها، بقول:] والرّاسِخونَ في العِلمِ يَقولونَ آمَنّا بِهِ، كُلٌّ مِّن عِندِ رَبِّنا ...». فحتى هذه الآية التي تتحدث عن ظاهرة وجود المحكم، الذي لا يحتمل إلا معنىً واحدا، والمتشابه، الذي يحتمل أكثر من معنى، جعلت من المتشابهات، من حيث صحة القراءتين، من حيث اللغة، وبالتالي فهمها على نحوين، تارة بجعل العلم بالتأويل حكرا على الله وحده، وتارة عليه تعالى، وعلى الراسخين في العلم، المؤمنين به، وبكونه جميعا من عند الله. وهنا يطرح سؤال نفسه، ألا هو بما أن الله سبحانه وتعالى متصف، فيما هو متصف به من كل الكمالات المطلقة، بكمالين على نحو الإطلاق واللامحدودية، ألا هما الحكمة واللطف، أفلا يتعارض مع حكمته ومع لطفه بعباده أن يبعث لهم كتابا يحتمل الكثير من نصوصه أكثر من معنى، يصل التفاوت بينها أحيانا إلى حد التناقض، أو يفهم بعضها بما يتقاطع بشكل حاد مع العقل الفلسفي، ومع العدل الإلهي، أو الرحمة الإلهية، أو الحكمة الإلهية، أو اللطف الإلهي؟ هذا سؤال يحتاج إلى إجابة. أفتنزيه الله أهم، أم تنزيه ما يحتمل أنه كتاب الله؟ مع إن وجود الله وتنزُّهه يقيني، بينما صدور الكتاب غير المُنزِّه له تعالى - ولو ظاهرا، أو بحسب بعض تأويلاته الممكنة لغويا، الممتنعة فلسفيا - في كثير من نصوصه، هو صدور ممكن، لكن لا يقوى على إعطاء إجابات تليق بجلال الله وجماله وكماله.



ثم إن محمدا هو الذي أسس لانقسام المسلمين إلى سنة وشيعة، بسبب عدم حسم ميله، فتارة يميل إلى رموز التسنن، وأخرى إلى رموز التشيع، فمن جهة صديقه المقرب أبو بكر، وزوجته المفضلة المدللة عائشة، ابنة صديقه هذا، ومن جهة زوجته الأولى، التي كانت أول من نصره خديجة، وابنته منها الحبيبة المدللة هي الأخرى فاطمة، وابن عمه وربيبه وصهره علي، الذي طالما قال أنه أخوه، ووزيره، وخليفته من بعده، ووصف منزلته منه بمنزلة هارون من موسى، فجعل نصوصا توحي - ولو بقوة - إلى نصه بأمر الله على علي خليفة شرعيا له، ولكن دون حسم ووضوح لا يقبل تأويل مراده إلى غير ذلك؛ فلم يفصح، بل ترك الموقف ضبابيا، وقابلا للتأويلات المتعددة، مما جعل عليا لا يستشهد بها، لعلمه بعدم قدرتها على الحسم حسما قطعيا. صحيح إن في القرآن والحديث الكثير من التلميح للإمامة على وفق العقيدة الشيعية، ولكن عدم الحسم ترك الأمر قابلا للتأويل. ومن هنا فهو كان يعلم، لا تنبؤا بالغيب، بل لمعرفته بأن نصوص القرآن، وأحاديثه النبوية وسيرته ومواقفه، كل ذلك سيؤدي إلى ما تنبأ به، ألا هو انقسام أمته إلى نيف وسبعين فرقة، ثم توعدها كلها بالنار، إلا فرقة واحدة سماها بالفرقة الناجية، وترك الأمر مفتوحا؛ كل من فرق المسلمين تعتقد، أو تدعي، أنها وحدها هي الفرقة الناجية، حالها حال من أخبر عنهم القرآن أنهم «أولياء لله من دون الناس».



فمحمد كان حائرا بين حبه المفرط لعلي وفاطمة والحسن والحسين، وميله إلى تنصيب علي خليفة له كما أشار في كثير من أحاديثه التي بقيت دون الحسم، وإحساسه بأن ذلك لن يكون مقبولا عند معظم عرب الجزيرة، ممن أسلم إيمانا، ومن أسلم استسلاما واضطرارا وتقية، أو بحسب المصطلح القرآني نفاقا، علاوة على ميل قلبه إلى صديق شبابه أبي بكر، وزوجته وعشيقته ابنة صديقه هذا عائشة، فلم يجرؤ أن يجعل في القرآن آية تصرح بولاية علي وخلافته للنبي من بعده، بل جعل حتى الآيات التي أسست للتشيع، ملمحة لذلك، غير مصرحة به، ثم جعلت غالبا في غير محلها، فحشرت وسط سياقات أخرى تعالج مواضيع لا علاقة بها. ونقتصر على ذكر بعض الأمثلة على ذلك، فنبدأ بنصوص الولاية التي حشرت في غير محلها، ثم نتناول النصوص التي لمحت ولم تصرح، وترددت ولم تحسم.

«يا أَيُّهَا النَّبيُّ قُل لِّأَزواجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَياةَ الدُّنيا وَزينَتَها فَتَعالَينَ أُمَتِّعكُنَّ وَأُسَرِّحكُنَّ سَراحاً جَميلاً، وَإِن كُنتُنَّ تُرِدنَ اللهَ وَرَسولَهُ وَالدّارَ الآخِرَةَ، فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلمُحسِناتِ مِنكُنَّ أَجراً عَظيماً. يا نِساءَ النَّبيِّ مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضاعَف لَهَا العَذابُ ضِعفَينِ، وَكانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسيرًا، وَمَن يَقنُت مِنكُنَّ للهِ وَرَسولِهِ وَتَعمَل صالِحًا نُّؤتِها أَجرَها مَرَّتَينِ، وَأَعتَدنا لَها رِزقاً كَريماً، يا نِساءَ النَّبيِّ لَستُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيتُنَّ فَلا تَخضَعنَ بِالقَولِ، فَيَطمَعَ الَّذي في قَلبِهِ مَرَضٌ، وَقُلنَ قَولاً مَّعروفاً، وَقَرنَ في بُيوتِكُنَّ، وَلا تَبَرَّجنَ تَبَرُّجَ الجاهِليةِ الأولى، وَأَقِمنَ الصَّلاةَ، وَآتينَ الزَّكاةَ، وَأَطِعنَ اللهَ وَرَسولَهُ، إِنَّما يُريدُ اللهُ ليذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيراً، وَاذكُرنَ ما يُتلى في بُيوتِكُنَّ مِن آياتِ اللهِ والحِكمَةِ، إِنَّ اللهَ كانَ لَطيفاً خَبيراً». فنجد أن جملة «إِنَّما يُريدُ اللهُ ليذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيراً» دخيلة على سياقات بقية جمل هذه الآية، وإنما تستقيم تلك الجمل وتكون مترابطة بشكل واضح أكثر لو أخرجت هذه الجملة منها، التي من المؤكد أن مكانها الطبيعي ليس في هذه الآية، التي لو قرئت بدونها، لكانت على النحو المترابط والمنسجم الآتي: «يا أَيُّهَا النَّبيُّ قُل لِّأَزواجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَياةَ الدُّنيا وَزينَتَها، فَتَعالَينَ أُمَتِّعكُنَّ وَأُسَرِّحكُنَّ سَراحاً جَميلاً، وَإِن كُنتُنَّ تُرِدنَ اللهَ وَرَسولَهُ وَالدّارَ الآخِرَةَ، فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلمُحسِناتِ مِنكُنَّ أَجراً عَظيماً، يا نِساءَ النَّبيِّ مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضاعَف لَهَا العَذابُ ضِعفَينِ، وَكانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسيرًا، وَمَن يَقنُت مِنكُنَّ للهِ وَرَسولِهِ وَتَعمَل صالِحًا نُّؤتِها أَجرَها مَرَّتَينِ، وَأَعتَدنا لَها رِزقاً كَريماً، يا نِساءَ النَّبيِّ لَستُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيتُنَّ فَلا تَخضَعنَ بِالقَولِ، فَيَطمَعَ الَّذي في قَلبِهِ مَرَضٌ، وَقُلنَ قَولاً مَّعروفاً، وَقَرنَ في بُيوتِكُنَّ، وَلا تَبَرَّجنَ تَبَرُّجَ الجاهِليةِ الأولى، وَأَقِمنَ الصَّلاةَ، وَآتينَ الزَّكاةَ، وَأَطِعنَ اللهَ وَرَسولَهُ، وَاذكُرنَ ما يُتلى في بُيوتِكُنَّ مِن آياتِ اللهِ والحِكمَةِ، إِنَّ اللهَ كانَ لَطيفاً خَبيراً». فالجمل هنا مترابطة، ومتجانسة، ومتسقة، وواضحة العلاقة فيما بين بعضها البعض.

نفس الشيء نجده في آية إكمال الدين من سورة المائدة: «حُرِّمَت عَلَيكُمُ المَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحمُ الخِنزيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيرِ اللهِ بِهِ وَالمُنخَنِقَةُ وَالمَوقوذَةُ وَالمُتَرَدّيةُ وَالنَّطيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيتُم وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَستَقسِموا بِالأَزلاَمِ ذَلِكُم فِسقٌ، اليَومَ يَئِسَ الَّذينَ كَفَروا مِن دينِكُم فَلاَ تَخشَوهُم وَاخشَوني، اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الإِسلاَمَ ديناً، فَمَنِ اضطُرَّ في مَخمَصَةٍ غَيرَ مُتَجانِفٍ لِّإِثمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفورٌ رَّحيمٌ». هنا أيضا نجد جملة «اليَومَ يَئِسَ الَّذينَ كَفَروا مِن دينِكُم، فَلاَ تَخشَوهُم واخشَوني» وما قبلها «اليَومَ يَئِسَ الَّذينَ كَفَروا مِن دينِكُم، فَلاَ تَخشَوهُم وَاخشَوني» أو «وَاخشَونِ» دخيلة، أو دخيلتان تماما على السياقات الموضوعية للجمل الأخرى، بينما تستقيم السياقات، وتستقيم وحدة الموضوع، عندما نرفع هذه الجملة، أو هاتين الجملتين منها، فتكون الآية: «حُرِّمَت عَلَيكُمُ المَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحمُ الخِنزيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيرِ اللهِ بِهِ وَالمُنخَنِقَةُ وَالمَوقوذَةُ وَالمُتَرَدّيةُ وَالنَّطيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيتُم وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَستَقسِموا بِالأَزلاَمِ ذَلِكُم فِسقٌ، فَمَنِ اضطُرَّ في مَخمَصَةٍ غَيرَ مُتَجانِفٍ لِّإِثمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفورٌ رَّحيمٌ». وإذا كان في المثل الأول ثمة علاقة ولو بعيدة نوعا ما، فالعلاقة هنا معدومة تماما بين أحكام تحريم ما حرمت الشريعة الإسلامية من الطعام، وبين إكمال الدين وإتمام النعمة وارتضاء الإسلام دينا، ونفس الشيء يقال عن العلاقة بين تلك التحريمات في الطعام وبين يأس الكافرين من القضاء على دين المسلمين، ودعوة الله للمسلمين إلى عدم الخوف من الكافرين من اليوم فصاعدا، بل جعل الخوف حصرا من الله وحده.

أما الآيات التي جرى فيها تلميح، دون تصريح، بمكانة علي، فمنها آية الولاية «إِنَّما وَليكُمُ اللهُ وَرَسولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتونَ الزَّكاةَ وَهُم راكِعونَ». فصحيح إن كتب الحديث تؤكد فيما يتعلق بسبب التنزيل أن المعني بذلك هو علي، ولكن ترك الأمر ذلك للتأويل، ولم يحسم بشكل واضح لا يقبل اللبس والتشكيك. ولكن يمكن أن يقال نفس الشيء عن ذكر أبي بكر في آية الغار: «إِلاَّ تَنصُروهُ فَقَد نَصَرَهُ اللهُ إِذ أَخرَجَهُ الَّذينَ كَفَروا ثانِيَ اثنَينِ إِذ هُما فِي الغارِ، إِذ يَقولُ لِصاحِبِهِ لا تَحزَن؛ إِنَّ اللهَ مَعَنا، فَأَنزَلَ اللهُ سَكينَتَهُ عَلَيهِ، وَأَيَّدَهُ بِجُنودٍ لَّم تَرَوها، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذينَ كَفَرُوا السُّفلى، وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُليا، وَاللهُ عَزيزٌ حَكيمٌ». لا أحد - إلا ما شذ وندر - يشكك في أن المعني بالآية هو أبو بكر، ولكن أهي آية مدح لأبي بكر، أم آية ذم، أم لا هذا ولا ذاك، بل مجرد آية سرد لواقعة، دون إعطاء حكم قيمي. ثم من الذي أنزل الله سكينته عليه، أهو النبي نفسه، أم هو أبو بكر، بسبب ما انتابه من قلق واضطراب، كما لا نعرف أكان اضطرابه نابعا من قلق على رسول الله، أم كان نوعا من الجبن والخوف من الموت على نفسه هو، كما يحلو لمعظم الشيعة أن يفسروه. فتركت الآية الشيعة والسنة كلا يؤولها على مذاقه وهواه، أو على قناعته ومبناه. ومن الآيات التي قد يكون فيها تلميح لعلي آية لسان الصدق وآية المكان العلي، «وَوَهَبنا لَهُم مِّن رَّحمَتِنا وَجَعَلنا لَهُم لِسانَ صِدقٍ عَلِيّاً»، فهل معناها أن الله وهب لإبراهيم والأنبياء من سلالته من رحمته من جعله لسان صدق عالي الشأن لهم، أم أنه وهب لهم من رحمته علي بن أبي طالب، وجعله لسان صدق لهم. وهكذا في الآيتين: «وَاذكُر فِي الكِتابِ إِدريسَ، إِنَّهُ كانَ صِدّيقًا نَّبيا، وَرَفَعناهُ مَكاناً عَلِيّاً»، فهل جملة «وَرَفَعناهُ مَكاناً عَلِيّاً» معطوفة على ما قبلها، فيكون إدريس هو الذي رفعه الله مكانا عاليا ومكانة رفيعة، أم إنها جملة جديدة خاصة بعلي بن أبي طالب، بمعنى أن الله رفع عليا إلى ثمة مكانة لم يعط لها صفة تعظيما وإجلالا لها. على أي حال فإن ترك مثل هذه الأمور مبهمة، وغير محسومة، كان سببا من أسباب تفرق المسلمين إلى مذاهب، غالبا ما يكفر بعضهم بعضا.

والقرآن نفسه يقر بأن الأديان كانت سببا لتفرق الناس واختلافهم وتعاديهم. بهذا الصدد نقرأ «وَما تَفَرَّقوا إِلّا مِن بَعدِ ما جاءهُمُ العِلمُ بَغياً بَينَهُم»، والمقصود هنا بالعلم هو الوحي المرسل إليهم عبر أنبيائهم، وكذلك نقرأ «وَما تَفَرَّقَ الَّذينَ أوتُوا الكِتابَ إِلّا مِن بَعدِ ما جاءتهُمُ البَيِّنَةُ»، وهكذا كان الحال مع المسلمين، ثم نقرأ «كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، فَبَعَثَ اللهُ النَّبيينَ مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ، وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ، ليحكُمَ بَينَ النّاسِ فيما اختَلَفوا فيهِ، وَما اختَلَفَ فيهِ إِلاَّ الَّذينَ أوتوهُ مِن بَعدِ ما جاءتهُمُ البَيِّناتُ بَغيًا بَينَهُم»، إذن قبل بعث الأنبياء، ونشوء الأديان، لم يكن الناس مختلفين، كما اختلفوا من بعد ما بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، ومن بعد ما جاءتهم البينات، أي الرسالات السماوية. وهكذا أصبح كل يدعي أنه الأقرب إلى الله، والأرضا والأحب عنده، فيشطب على الآخر كليا، فنقرأ في القرآن عن موقف كل من اليهود والنصارى تجاه أحدهما الآخر: «وَقالَتِ اليَهودُ لَيسَتِ النَّصارى عَلى شَيءٍ، وَقالَتِ النَّصارى لَيسَتِ اليَهودُ عَلى شَيءٍ، وَهُم يَتلونَ الكِتابَ، كَذَلِكَ قالَ الَّذينَ لاَ يَعلَمونَ مِثلَ قَولِهِم». وهذا ما مارسه المسيحيون من كاثوليكيين وإنجيليين أو پروتستانتيين وأرثوذوكس فيما بينهم، وكذلك كان حال اليهود بين بعضهم البعض، ولم يكن المسلمون بأحسن حالا منهم، فبإمكاننا أن نقرأ الآية على هذا النحو «وَقالَ المُسلِمونَ لَيسَتِ اليَهودُ وَلاَ النَّصارى عَلى شَيءٍ، وَقالَتِ اليَهودُ ليسَتِ النَّصارى وَلا المُسلِمونَ عَلى شَيءٍ، وَقالَتِ النَّصارى لَيسَتِ اليَهودُ وَلا المُسلِمونَ عَلى شَيءٍ، وَهُم كُلُّهُم مِن مُسلِمينَ وَيَهودٍ وَنصارى يَتلونَ الكِتابَ من تَوراةٍ وَّإِنجيلٍ وَقُرآنٍ»، بل يمكن قراءتها على هذا النحو: «وَقالَتِ السُّنةُ لَيسَتِ الشّيعةُ عَلى شَيءٍ، وَقالَتِ الشّيعَةُ لَيسَتِ السُّنَّةُ عَلى شَيءٍ، وَهُم يَتلونَ القُرآنَ»، و«كَذَلِكَ قالَ الَّذينَ لاَ يَعلَمونَ مِثلَ قَولِهِم»، فكل الذين لا يعلمون، كل الدينيين الجهلة المتعصبين يكررون نفس المعنى، وكل منهم يدعي أنه الأقرب إلى الله، أنه وحده شعب الله المختار، ووحده الفئة الناجية، ووحده خير أمة أخرجت للناس، ووحده المخلَّص، فكما «قالَتِ اليَهودُ والنَّصارى نَحنُ أَبناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ» قال المسلمون مثل ذلك، وقالت الشيعة، وقالت السنة، وقالت كل فرقة منهم مثل ذلك.

أليس كل ما ذكر هو ما يتحمل مسؤوليته القرآن، والدين الإسلامي. فإذا كان القرآن من عند الله، فيعني بالضرورة أن الله تعالى من يتحمل مسؤولية كل ذلك، وهذا محال، لأنه يستوجب نفي الكمال عنه، ونسبة النقص إليه سبحانه. وإذا كان من عند محمد، فيتحمل هو مسؤولية كل ذلك، ونفس الشيء يقال عمن يسمى بالكتب المقدسة للأديان الأخرى، فالأنبياء، أو أدعياء النبوة، أو المتقولون عليهم، يتحملون وزر كل ما دفعت البشرية ثمنه، من جهل، وخرافة، وتعصب، وتطرف، وكراهة، وعنف، وإرهاب، وبحار من الدماء، وهدر للطاقات والأموال، في عبادات، وطقوس، وشعائر، وحجيج، و...، و...



كتبت في وقت سابق

روجعت في 27/09/2009












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ما هذا الفكر؟؟؟
عيساوي ( 2009 / 9 / 29 - 10:43 )
انت رائع...فكر عميق ومحلل

لاتعليق لي الا دراسة الموضوع بصورة اعمق لكي اصل الى بعض من تحليلك.
نقطة توقفت عندها... «يا أَيُّهَا النَّبيُّ قُل لِّأَزواجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ.... ُ، إِنَّما يُريدُ اللهُ ليذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيراً،. الكلام كله عن ازواج النبي ونجد فيها كلها نون النسوة ماعدا في كلمة عنكم وكلمة يطهركم. اعتقد بان المفروض ان يستمر في استعمال نون النسوة لان الكلام كله للنساء، إلاّ في حالة انه يقصد ان بالتزام النساء بنصائحه فانه سيّذهِب الرجس عن اهل البيت رجالا ونساءاً ويطهرهم تطهيرا، اي لامانع ان الرجال يعملون مايشاؤون لكن المهم النساء يلتزمن.
تقبل فائق الاحترام


2 - الله حسب الاهواء
ahmed ( 2009 / 9 / 29 - 10:57 )
استعير هذه الكلمات ////////نسبية الاديان ايا كانت ////فانما الله هو الهوية/////السارية فى جميع مراتب الوجود//////وهو عين كل معبود يعبد////ولكن الناس متفاوتون فى درجات الكمال بتفاوت كمال الصورة الالهية التى يصورون بها الله فى عقائدهم وعباداتهم
واذ كان فى كل دين شىء من الحقيقة /////فاكمل الاديان تلك التى ارسل بها الرسل /////واكمل هذه على الاطلاق الاسلام/////انتهى
استعارة تانية
تولد الديانات والنظريات عارية على فطرتها الاولى ثم ترتدى ثوب معتنقيها ومتبعيها فاذا كان الثوب قذرا دنست اعظم الافكار وشوهت ارقى القيم انتهى
السؤال

لماذا فعل الرسول محمد كل هذا؟ مالداعى لذلك؟
تانيا: الله ليس كما نريد ونتمنى ونشتهى
فاذا كنت تريد الله رحيما فانا اريده جبارا منتقما مثلامالعيب
عموما بين النص والعقل هى فوضى
شكرا على صدقك فى بحثك
والسلام


3 - سبب وجود السنة والشيعة
المعلم الثاني ( 2009 / 9 / 29 - 15:09 )
لم يكترث محمد بمصير أتباعه بعد موته فلم يكن له ابن يورثه خلافة النبوة والحكم ليظل متسلّطا على الناس..

بذلك خلف من ورائه فتنة لا زال المسلمون يعانون منها إلى اليوم...


4 - ضياع الحقيقة بين ثالوث الدين والسياسة والسلطة
وسام هاشم أحمد ( 2009 / 9 / 29 - 20:32 )
ما كان للقرآن ككتاب أو لله كفكرة أو لمحمد كنبي رسول، إلا إلاعلاء من شأن السلطة الدينية التي أنشأوها بالتواطؤ، ورويدا رويدا حتى اكتملت بقيام -دولة المدينة- حيث أصبحت السلطة بكامل آلياتها جاهزة للغزو وضرب أعناق كل الذين وقفوا في وجهها ، إلى أن خط التاريخانيون -تاريخ المقدس- على هواهم وهوى مراجعهم السلطوية، فكان -الدين الجديد- نتاجا تلفيقيا لديانات أو آثار ديانات قديمه وحديثة على حد سواء. وفي هذه العملية لا دخل لإله في كل ما جرى أو يجري حتى لحظتنا الراهنة، لقد نشأ الدين سياسيا وها هو يتردى في موبقات السياسة بلا طائل أو تأثير من إله أو رب جرى اختراعه كي يقوم على عاتقه تجنيد مدنسهم السلطوي على أنه -المقدس- الذي أرادوا ويريدون عبره عملية إخضاع وهيمنة دائمة ومستمرة لبني البشر.
وهكذا يستمر زحف الأسطرة والأساطير الدينية كنوع من حفظ -النوع الديني- على أنه -الأصل- أو -الأصول - التي ينبغي اتباعها، بعيدا عن اشتغال العقل والمنطق والفكر الحر الخلاق في التأسيس لأطروحة الوجود المادي المتجسد في إنسان تتأصل فيه الحرية، لا -الضرورات- و -المحظورات- الدينوية السياسوية، الخاضعة لنسق من التصورات الواهمة عن عالم ليس لنا، و-آخرة- ليست لنا كذلك، بل لتراب هذا الأديم الأرضي الكائن اليوم وإلى أبد الآبدين. آمين


5 - لماذا هذا الغموض؟؟؟. حقا انها اسئلة محيرة!!!
باحث عن الحقيقة ( 2009 / 9 / 30 - 06:25 )
1 ـ لماذا لم يلزم الرسول المسلمين بمبايعة ابو بكر او علي وهو على قيد الحياة بعد رجوعه من حجة الوداع ونحن نعلم بان الاقطار الاسلامية خاضعة لما يصدر من المدينه؟؟؟
2 ـ لماذا لم ينزل قرآنا بامر الخلافة والخلفاء ومن هم باسمآئهم بصريج العبارة بدون لف او دوران او ابهام كي لا يكون عرضة للتآويل والتفسير كما هو حاصل الآن و ايهما اهم امور الخلافة او ابطال زوجة الابن بالتبني والتي جاءت بصريح العبارة بدون تأويل او تفسير؟؟؟.

اما ما يقوله المسلمون بان الرسول نطق باحاديث تنص على ولاية اهل البيت او الاصحاب ولم تدون في الصدر الاول من الاسلام وجائت معنعنه بعد ثلاثة قرون وتاريخ اهل البيت والصحابة وما مارسوه في حياتهم لا يثبت هذا المدعى باعتراف الشيعة والسنه. الشيعة يعترفون بان الائمة من اهل البيت بايعوا خلفاء زمانهم واصبحوا علماء ربانيون فقط وهو كما يثبته اهل السنة ايضا ولمن يريد الاطلاع فعليه مراجعة كتب -احمد الكاتب - او - السيد علي الامين - وغيرهم.

3 ـ لماذا لم يزل الله كتابا من عنده جامع للا حاديث كما هو الحال مع القرآن يشمل كل ما يحتاج له الناس من الاحكام والقوانين الى يوم القيامة بدون ان يكون هناك خلاف او ارتباك لاختاف الرواية فخبر ينفي واخر يثبت وخبر يحرم وخبر يحلل حتى اصيح ال

اخر الافلام

.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية


.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟




.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي




.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ