الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقد مراجعات جماعات الجهاد

عبدالحكيم الفيتوري

2009 / 10 / 3
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


وردت إليّ رسالة شفوية من قيادات الجماعة الاسلامية المقاتلة الليبية من داخل سجن ابو سليم القابع في مدينة طرابلس عاصمة ليبيا، وكان مضمون هذه الرسالة طلب رأي الشخصي في عملية المراجعة التي قامت بها الجماعة مؤخرا وصدرت في كتاب تحت عنوان(دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة). وقبل تسجيل قراءتي حول هذه الدراسة ومراجعات الجماعات الجهادية السابقة أتمنى من الله سبحانه أن تصلهم هذه القراءة وهم خارج السجن مع ذويهم وأقاربهم يتمتعون بكامل حريتهم في الرأي والموقف بعيدا عن إكراهات السياسة وضغوطات الحرمان. وقراءتي لهذه المراجعات سوف تكون من خلال نقاط ثلاثة، النقطة الأولى: في زمان ومكان المراجعة. النقطة الثانية: المراجعة والمأزق الفكري. والنقطة الثالثة: المراجعة والمأزق السياسي.

النقطة الأولى: قراءة في الاطار الزماني والمكاني.
أولا: في الاطار الزماني: هكذا يبدو وجه الاتفاق في الاطار الزماني لجل مراجعات جماعات الجهاد حيث أنها تأتي بعد زمن المصادمة مع الأنظمة القائمة وفشلها في إجتثات خصومها وإحداث الانقلاب المنشود، وعادة ما يؤول توابع الأحداث ببعض قيادات واعضاء الجماعات إلى المعتقلات وما يستصحب هذه الاعتقالات من تعذيب بطريقة وحشية لا تطاق وحرمان من أبسط الحقوق الانسانية، وفي هذا الإطار الحرماني تأتي المراجعة.

فمثلا الجماعة الإسلامية المصرية كانت مراجعتها بعد صراع عسكري مع أجهزة الدولة المصرية دام أكثر من عشرين عاما راح ضحيته أعداد غفيرة من أعضاء الجماعة ورجال الأمن والاستخبارات والشرطة والجيش، بل ولم ينجو من هذه المصادمات حتى موظفي مؤسسات الدولة المدنية كالإعلام والسياحة والاقتصاد. علما بأن الجماعة طيلة هذه الفترة الممتدة من عام 1981م إلى 2000م لم تفكر بمراجعة جادة في أصولها الفكرية وأطرها الحركية، ولكن بمجرد اعتقال قياداتها وفشل مشروعها العسكري في إحداث الانقلاب كانت المراجعة الخجولة في إطار الانتقائية من دائرة إسلام التاريخ. كذلك مراجعة جماعة الجهاد المصرية بقيادة سيد إمام المعروف(بالدكتور فضل) المنظر الأول للجماعة وصاحب كتاب (العمدة في إعداد العدة)، وكتاب(الجامع في طلب العلم الشريف)، فقد كانت مراجعته المسماة بوثيقة (ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم) بعد اعتقاله في سجن العقرب وما صاحب ذلك من مقتضيات الاعتقال المعروف لدى الجميع.

وذات الكلام يقال عن الجماعة المقاتلة الليبية حيث كانت مراجعتها بعد مصادمة دموية بين اعضائها ورجال المؤسسة العسكرية الليبية من شرطة وجيش وأمن والتي راح ضحيتها الكم الكبير من كلا الطرفين، وبعد اعتقال قياداتها وجمهرة من اعضائها اصدرت الجماعة مراجعتها في كتاب ضحم تحت عنوان (دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة) والذي لم يخرج عن المنهج الانتقائي من إسلام التاريخ؛ أي الانتقال من خيار فقهي إلى خيار أخر ولكن دون نقد لمرجعية السلف وسطوة الماضي على الحاضر.

وفي الاطار الزمني ذاته وقبل مراجعة الجماعة المصرية كانت مراجعة الدكتور سلمان العودة الداعم النشط فكريا وماليا لهذه الجماعات والذي كان يؤمن بمشروع اسقاط شرعية الانظمة السائدة ودعوته للتمرد عليها ولكن بطرق ناعمة، حيث كانت مراجعته بعد سجنه لعدة سنوات من قبل النظام السعودي، في إطار مناقشات جادة وحادة معه بذات اللغة السلفية من قبل شيوخ بلاده، وقد اسفرت على تبني العودة رأيا استراتيجيا مغايرا لرأيه الذي قاتل من أجله بوسائله الناعمة قبل إعتقاله؛ حيث تبنى عدم اسقاط شرعية النظام السعودي والقبول ببيعته والخضوع لسلطته كولي أمر للمسلمين، ومن ثم عدم الخروج عليه وتجريم وتأثيم الخارج على سلطته، ومعلوم أن هذا الموقف يعد هدما استراتيجيا لأهم عقيدة تتبناها الجماعات المناوئة للأنظمة العلمانية والسلطوية في المنطقة.



ثانيا: قراء في الاطار المكاني.
فإذا كان الاطار الزماني لمراجعة الجماعات الجهادية -كما مر- يبدأ بعد فشل صراعها العسكري مع المؤسسة العسكرية للأنظمة الحاكمة، مرورا بسجن قياداتها واعضائها، وانتهاءا بإعلان التوبة الفكرية من قبل الجماعة واطلاق العهود باخلاء سبيلها من قبل السلطة الحاكمة. فإن الاطار المكاني لهذه المراجعات –كما لا يخفى- كان هو السجن وما أدراك ما السجن خاصة سجون الانظمة العربية المستبدة، حيث التعذيب الجسدي والحرمان العاطفي والقهر النفسي والجفاف الثقافي، باختصار في ظل غياب كل القوانين الانسانية خلا قانون القوة.

وفي هذه الاجواء اللاانسانية واللاقانونية يطرح على السجين فكرة مراجعة أفكاره، علما بأن القاسم المشترك لهؤلاء المساجين هو الحديث عن الماضي وليس عن الحاضر والمستقبل لأن السجين من اعضاء هذه الجماعات في سجون هذه الأنظمة المستبدة بمجرد اعتقاله لا ينفك خياله عن تصور نهايته إما أن تزهق روحه تحت سياط التعذيب حال الاستجواب، أو تعلق على حبل مشنقة بمحكمة صورية، وفي هذه الحالة يكون حاضره ومستقبله كأنهما قد زالا تماما من خاطره ومخياله ولم يبق له هول السجون في ذاكرته إلا ما مضى من معلومات وأفكار وذكريات حميمة في مسيرة الطلب والمدارسة والمصاولة، وهنا يجتمع عليه ضيق المكان وضيق الأفق الذي يسد عليه الآفاق واستشراف المستقبل ويلجئه إلى الاحتماء بالماضي بتمجيدية مفرطة حيث يجد نفسه أمام كم ضخم من مراجع ومدونات إسلام التاريخ، حيث الفتاوى المتعددة والاتفاقات المضطربة والاجماعات المختلفة وكلها مدونة بمعزل عن سياقها التاريخي ومساقها الثقافي والاجتماعي والسياسي، فأنى له أن ينفك عن النمطية والانتقائية إلى النقد والتجديد ويقدم مراجعة جادة لفكره السلفي التقليدي تتجاوز الزمان والمكان بأستشراف حاضر متطور ومستقبل زاهي تتفاخر به الأجيال القادمة.

وأحسب أن نظرة سريعة على نموذجين من مراجعات جماعة الإخوان المسلمين في الستينيات داخل سجون النظام المصري إبان عهد جمال عبدالناصر تضعنا أمام حقيقة علمية مفادها أن المراجعات داخل السجون عادة ما يتجاذبها طرفان، طرف يميل إلى الأفراط وطرف ينحى منحى التفريط، وكلا الطرفين يمارس عملية المراجعة بعقل إحالي محتميا بإسلام التاريخ من أقوال الأسلاف وفتاويهم فيربك الحاضر والمستقبل أكثر من تقديم رؤية حضارية تنهض بالواقع وتستشرف المستقبل.

فمثلا مراجعة الاستاذ سيد قطب لفكره الإخواني داخل سجن ليمان طرة مالت إلى طرف الغلو حيث تبنت قضية تكفير الحاكم والخروج عليه بأنها شرط الإيمان وأسه، وتمادت إلى تكفير من لم يعتقد بتحكيم الشريعة والتحاكم إليها من عموم الناس وإن تلفظ بالشهادتين وجاء بأركان الاسلام، ولعل مطالعة سريعة لكتابي سيد قطب (معالم في الطريق)،و(في ظلال القرآن) كفيلة بالتعرف على هذه الحقيقة؛ حقيقة وصفه للنظام والمجتمع معا بالجاهلية، حتى وصل ببعض القيادات الإخوانية فيما بعد بنعت مراجعة قطب بأنها تكفيرية وأنها نتاج فقه المحنة، كما جاء ذلك على لسان الشيخ القرضاوي والشيخ جعفر شيخ أدريس.

بينما ذهبت المراجعة الثانية التي قام بها الاستاذ حسن الهضيبي مرشد الاخوان من داخل سجنه في ليمان طرة إلى الطرف النقيض لمراجعة سيد قطب، حيث رفعت شعار إسلام الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله وعدم الخروج عليه،كذلك إلى إسلام من تلفظ بالشهادتين وإن تلبس بنواقضها، وذلك في كتابه المشهور بـ(دعاة لا قضاة). وقد وصفت هذه المراجعة من قبل الكثير من القيادات الاسلامية بأنها دراسة تؤصل لفكر الارجاء من حيث تفريغ الشهادتين وأحكام الاسلام من مضامينه.

ومن المفارقة العجيبة أن فكر الجماعات الجهادية والجماعات المسالمة قد تأسستا على تلك المراجعتين القطبية والهضيبة، فالجهادية قامت على فكر وآدبيات كتابات سيد قطب وخيارته السلفية من خلال معالم في الطريق،بينما قامت الجماعات المسالمة على مراجعات الهضيبي وخيارته السلفية من خلال دعاة لا قضاة، واللافت للنظر أن كلا المراجعتين القطبية والهضيبة أرتكزت على مدونات إسلام التاريخ وأقوال السلف بعقل تمجيدي.

النقطة الثانية: المراجعة والمأزق الفكري:
وبعد الاطلاع على مراجعة الجماعة الاسلامية المصرية فيما سبق وأخيرا الاطلاع على كتاب دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة الذي اعدته قيادات الجماعة المقاتلة الليبية من داخل سجن ابوسليم، رأيت أن جل هذه المراجعات أو الدراسات قد وقعت في مأزقين خطيرين، المأزق الأول وهو المأزق الفكري، والثاني المأزق السياسي. فالمأزق الفكري نتناوله عبر جانبين هامين،الجانب المنهجي والجانب الواقعي. والمأزق السياسي كذلك نتناوله من خلال جانبين،فلسفة العمل السياسي، ووسائله المتطورة.

- فالجانب المنهجي: يتجلى للوهلة الأولى أن هذه المراجعات انطلقت في اساسها من أصول الفكر السلفي، وبمنهج تمجيدي انتقائي، وبعقل قياسي، يقايس الحاضر على الماضي بدون فرز بين دائرة (الاسلام المنزل) و(الاسلام المؤول) حيث طفقت تنتقي من دائرة (الاسلام المؤول) أقوالا وخيارات وتعرض عن أخرى في ذات المستوى الدلالي إن لم تكن أقوى منها بالمنطق السلفي. وأحسب أن مرد هذا الاشكال المنهجي يكمن في عدم تصور قضيتين استراتيجيتين في الفكر الإسلامي، القضية الأولى: فهم فلسفة تطور العقل البشري في أطواره المتعددة؛ من عقل فطري إحيائي، مرورا بالعقل التقابلي، ومنه إلى العقل البرهاني، وصولا إلى العقل المقاصدي؛ الذي يعد بمثابة العقل الختامي في سلم تطور العقل الديني. أما القضية الثانية: فهي فهم مقاصد تدرج الوحي، وعلّية أنزال الشرائع باعتبار مراحل تطور العقل الانساني ضمن إطاره الزماني والمكاني. ولعل محاولة فهم تصور هاتين القضيتين؛ تطور العقل وتدرج الشرع يضعنا أمام إجابة منطقية لقضية انقطاع السماء عن الأرض بإرسال الرسل، وأنزال الكتب منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، أي منذ وفاة الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته المهيمنة،حيث تكفل الله سبحانه بحفظ الشريعة الخاتمة(القرآن) وجعل العقل المقاصدي الرسالي مناطا للتكليف فهما وتنزيلا، بمعنى أن تشكل العقل وأكتمال أطواره حل محل أرسال الرسل. وهذا يقودنا إلى أن تصور هذه المعادلة في الأذهان وتجليها في الأعيان أمر ضروري وأس أساسي لعملية المراجعة الجادة والتجديد الحقيقي، وبدون هذا التصور وذلك الفهم تصبح حركة التجديد حركة إنتقائية وعمل المفكرين عملا تلفيقيا من مدونات الأسلاف في التاريخ. بل يصدق على هذه المراجعات بأنها ضرب من ضروب الرجوع بالعقل إلى أطواره الابتدائية من كونه آلة نقل تجيد فن الحفظ والترجيع، وقد تمارس عملية قياس المثل أو شبه الأولى على ما استقر من إنتاج ومنتجات عقل السلف وحقبة الاسلام المؤول.

وللأسف أن جل هذه المراجعات كانت سلفية انتقائية قياسية بامتياز، أي أنها لم تفرق بين نصوص الوحي بعقل قصدي يميز بين آياته المعيارية التي لا تتأثر ببعدي الزمان والمكان، وبين نصوصه غير المعيارية التي تتأثر ببعدي الزمان والمكان، كذلك لم تستنطق هذه المراجعات تاريخية أقوال الفقهاء في إطار اعتبار سياقها التاريخي ومساقها الاجتماعي والثقافي والسياسي، وأحسب أنه لو تم استنطاق أقوال واجتهادات السلف في إطار السياق والمساق لوجدنا أنها أقوال قد فارقها الزمان والمكان والانسان، ويصبح تنزيلها في غير زمانها ومكانها وإنسانها يعد ضربا من ضروب إلغاء الحاضر وتحكيم الماضي في الحاضر والمستقبل.

ولعل في منهجية عمر بن الخطاب ذو العقل المقاصدي الرسالي في سواد العراق واجتهاده في أخذ الصدقة مضعفة من نصارى بني تغلب عوضا عن اسم الجزية (تغير اسم الجزية المنصوص عليها في القرآن إلى اسم الصدقة) نموذجا لتلك العقلية الرسالية القصدية التي تدرك ضوابط العلاقات الجدلية بين فهم دلالات النصوص ومقاصد الوحي، وبين متغيرات الواقع ومستجدات التدافع البشري، وتحسن التعامل مع العلاقة الجدلية بين الثابت(=مقاصد النصوص) والمتغير(=الواقع المتجدد) بعقل مقاصدي يلتزم دلالات الأحكام ومقاصدها لا حرفيتها، ويتعاطى مع كلياتها ويراعي جزئياتها، ويعتبر حركية الواقع لا سكونيته، وتجدد حاجات الانسان لا تحنطها عند حاجات الأسلاف. وكل ذلك بمعيارية تدور في فلك تركيبية وترتيبية؛(=ترتيبية معرفة مراتب المصالح والمفاسد، وخير الخيرين وشر الشرين)، وتركيبية(=القدرة على استقراء الجزئي وتشكيل الكلي، ورد الجزئي إلى الكلي، وأحسان التعامل مع الكليات). ولكن للأسف لم تستمر هذه العقلية العمرية إلا إلى فترة وجيزة وهي فترة ما قبل الفتنة وتدوين العلوم الدينية، وما لبث العقل أن تقههر إلى الأطوار البدائية.

وهكذا تبدو هذه المراجعات بأنها مواعظ فكرية سلفية انتقائية تراوح بين خط التيسير وخط التعسير بما يناسب حال الواعظين والموعظين، وبلغة الكمبيوتر التحديث في السوفت وير وليس في الهاردوير، لأن المراجعة والتجديد ينبغي أن تكون في عمق النص المؤسس قرآنا وسنة؛ فآيات القرآن ليست سواء في القوة الاستدلالية؛ فمنها الأخباري والانشائي، ومنها ما كان إنشائيا صار إخباريا، ومنها الواجب والمستحب، ومنها ما هو وسيلة وليست غاية كفهوم القتال، ومنها ما هو مطلوب الشكل والمضمون كالعبادات، ومنها ما هو مطلوب المضمون دون الشكل كالقيم العامة من حريات وعدل وشورى، ومنها آيات قد فارقها الواقع أصلا باعتبار السياق والمساق كآيات الرق، والغنائم، وملك اليمن وما شاكل ذلك. كذلك بالنسبة للسنة النبوية فمنها التشريعي ومنها القيادي والجبلي،فالرسول صلى الله عليه وسلم قد اجتمع فيه البعدان، البعد الرسالي والبعد الانساني(قل إنما أنا بشر مثلكم،يوحى إليّ..)، لذا فالسنة تساوي الجانب الرسالي(=التشريعي) والأحاديث تعادل الجانب الانساني(= القيادي والجبلي)، ومن هنا كانت أهمية فرز السنة من الاحاديث لأن دائرة السنة تفيد الوجوب، ودئراة الأحاديث تفيد المباح وهي ليست سواء في القوة الاستدلالية، فإذا كان ذلك كذلك فكيف تنتج دائرة المباح (=الاحاديث) مسائل واجبة تحت مسمى سلطة الاجماع؟!

ولتقريب المعنى أكثر نضرب مثالا بمن له كمبيوتر منزلي به (هارد وير) من الطراز القديم، فأراد أن يحدثه بما هو مطروح في عالم الكمبيوتر المتطور، فأشار عليه البعض بأمكانية ذلك من خلال استخدام الاشرطة من (فلوبي دسك) و(سيدي) كوسيلة لنقل وتخزين البرامج الحديثة والمتطورة دون حاجة لتجديد الهارد وير الصغير والقديم. تبدو للوهلة الأولى أنها اشارة نافعة وسريعة وغير شاقة ولا مكلفة، ولكن الحقيقة أنها ليست كذلك، لأن قبول الهارد وير القديم لتلك البرامج الحديثة والمتطورة يصبح قبولا جزئيا مصاحبا بكثير من الأعطاب وعدم القدرة على مجاراة سعة البرامج الحديثة كبيرة الحجم والسرعة الفائقة مما يسبب إرباك وعدم استجابة وبطء شديد في الهارد وير تظهر علامته منذ بداية تشغيل ذلك الكمبيوتر القديم. وعلى الرغم من وضوح هذا الخلل لمهندسي الكمبيوتر والبرامج إلا أن لسان حال صاحب ذلك الجهاز القديم يقول أنه صالح لكل البرامج والظروف المحتملة، ومنزه عن كل عيب، وإذا حدث وطرأت عليه بعض الشوائب، فالخطأ خطأ العاملين عليه إما في فهم كلام صانعيه، وإما في سوء تعاملهم معه بطريقة الاسلاف. وكأنه بذلك يقول نستطيع أن نتدخل في سوفت وير بإعادة النظر بتقديم وتأخير وتعديل لكن الهارد وير ثابتة ثبوت الجبال الراسيات. وهذا هو مكمن الداء وموطن الخلل في هذه المراجعات وفي الفكر الاسلامي التقليدي جملة.

ثانيا:في الجانب الواقعي: ونقصد بالمأزق الواقعي لهذه الدراسة تأصيلها للانتقائية في الاختيارات الفقهية التي ذهبت إليها ورجحتها عن غيرها، وهذا يفتح الباب؛ ويبدو أن الباب مفتوح أمام جماعات أخرى بذات المنهج الانتقائي إلى انتقاء خيارات فقهية أكثر تشددا وقد تكون هذه الخيارات الفقهية منعقد عليها الاجماع في مدونات إسلام التاريخ،كتكفير من اقصى الشريعة، ووجوب الخروج عليه، وسقوط ولايته، وقتل الترس المسلم وما شاكل ذلك مما هو موجود ومعلوم بالضرورة في مدونات الفكر السلفي. وهذا كما لا يخفى يجعل الجماعات الجهادية والمسالمة في حال ترحل وإخلاء من كرسي المعارضة بالمنطق الديني للانظمة الحاكمة إلى كرسي المؤسسة الدينية الرسمية ومنطقها التقليدي المقرب للانظمة السائدة، وفي المقابل تنتقل جماعة جهادية أخرى ذات توجه سلفي متشدد إلى التربع على كرسي تلك الجماعات الجهادية المرتحلة، وبالضرورة الواقعية والمنهجية الانتقائية تدور رحى الاشتباكات والمنازلات الفكرية بين تلك الأطراف بذات الوسائل السلفية المعدة والمنتجة من دائرة إسلام التاريخ... وهكذا دواليك والنتيجة مزيد من تمزق النسيج الاجتماعي وتناحر أبناء الشعب الواحد باسم الدين.

النقطة الثالثة: المراجعة والمأزق السياسي:
-من ناحية فلسفة العمل السياسي. أحسب أن الجماعات الجهادية نظرا لتكوينها السري، وعملها تحت السطح، ومنهجها القائم على منطق الولاء والبراء، ووسائلها العسكرية المختارة لتغير الانظمة والمجتمع، وقبل ذلك تفكيرها السلفي التمجيد في العمل السياسي المتمثل في إعادة الخلافة والخليفة ومنطق إعلامية الشورى دون إلزاميتها وما إلى ذلك مما هو مدون في أدبيات الأحكام السلطانية، كل ذلك لا يسمح لهذه الجماعات الولوج إلى ساحات العمل السياسي المفتوحة بفلسفة الديمقراطية والتعددية السياسية والتبادل السلمي على السلطة ومشاركة المرأة وولايتها الكبرى.

ويبدو أن هذه الجماعات لم تنفك بعد من منطق الجماعة وفلسفتها إلى فلسفة الحزب وأدبياته، حيث أن منطق الجماعة يدور في فلك الصفوية ومعاقد الولاء والبراء والتمايز بالخيارات الفقهية والمظاهر الشكلية. بينما فلسفة الحزب السياسي يرتكز على جدية مشاريعه وبرامجه النهوضية التي عادة ما تدور في فلك المصالح والمفاسد جلبا ودرءا بعيدا عن منطق الولاء والبراء والخيارات الفقهية والمظاهر الشكلية والتصنيفات المذهبية. ولا يخفى أن هذا مأزق سياسي حقيقي لم تتجاوزه حتى بعض جماعات الاسلام السياسي المسالمة فضلا عن جماعات جهادية حديثة عهد بمراجعات فكرية انتقائية سلفية.

-أما من ناحية وسائل العمل السياسي: لعل مطالعة سريعة على حجم اصدارات الجماعات الاسلامية التي تناولت فيها مناقشة وسائل العمل السياسي المعاصر في إطار الحل والحرمة والكفر والإيمان، ابتداء من فكرة الديمقراطية، ومرورا بالتعددية السياسية، ودخول البرلمانات، والتحالفات السياسية، والمشاركة في السلطة، وولاية المرأة ومشاركتها السياسية وما إلى ذلك من وسائل سياسية معاصرة. تتيح للمطلع على هذه الاصدارات بتشكيل فكرة كاملة على حجم المأزق السياسي والإملاق الفكري الذي تعانيه هذه الجماعات سواء من ناحية فلسفة الفكر السياسي المعاصر أو وسائله الحديثة، وبالتالي عجزها عن تقديم مشروع سياسي وبرنامج عملي واقعي يسهم في عملية الخروج من أزمات الحاضر وتحقيق الاقلاع مع الأمم المتحضرة.

واللافت للنظر أن هذه الجماعات بهكذا مراجعات تسجل فشلا لا سيما على الصعيد الفكري الذي يفقدها ثقة جمهورها، وعلى الصعيد السياسي الذي يفقدها ثقة المجتمع والقوى السياسية الأخرى، مما يمهد السبيل إلى السلطة المستبدة من توظيفها ضد خصومها، وجعلها جسرا تفلت من خلاله السلطة الحاكمة من استحقاقات عملية التحول السياسي من دولة الفرد إلى دولة القانون، ومن منطق العشيرة إلى مؤسسات المجتمع المدني. ويصدق حينئذ على هذه الجماعات مقولة خصمها من العلمانيين بأن رجال الدين مطية لرجال الانظمة الحاكمة المستبدة، وللاسف أن نظرة سريعة إلى واقع المؤسسات الدينية التقليدية وبعض الجماعات الدينية المتحولة في المنطقة كفيلة بترجيح هذه الرأي.

وأخيرا، علينا أن نعلم أن النقد الذاتي هو مصدر قوتنا الحقيقية، وأن الحوار هو عنوان تحضرنا، وأن المراجعة مطلب إنساني وحضاري، وأن المراجعة مطلوبة من الجماعات الإسلامية كما هي مطلوبة من الأنظمة العربية، والدعوة إلى الخروج من سلطة الماضي وسطوة الأسلاف مطلب ينبغي أن تتخفف منه الانظمة العربية والجماعات الاسلامية على حد سواء لتأسيس مجتمع ونظام حضاري يأمن فيه الانسان على حياته وفكره.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاصلاح الديني واجب للديمقراطيات
خالد الشمري ( 2009 / 10 / 3 - 16:26 )
صحيح ان مراجعات الجماعات الجهاديه انقسمت الى قسمين قسم ازداد تطرفا وقسم اصبح حليف حكومي بحت

والتوجه العام لتيارات الاسلام السياسي اليوم لصالح مراجعات الجماعات الحكوميه

لكن خطر هذه التراجعات ايا كانت هو لصالح الجماعات الارهابيه

لانها هي الأصل وهي المؤسس لجميع الجماعات الدينيه السياسيه فهي المستقبط الاول للحشود البشريه التائبه من معاصيها

اسرع حل لهذا التخلف هو الحل السياسي ان توفرت النيه والعزيمه الصادقه لنهضة الشعوب وهذا امر مستبعد لحكومات وراثيه ودكتاتوريه فهي تريد من الاصلاح بقدر مايجملها ولايزيلها

لكن النهضه العلميه هي اضمن حل لعدم تكرار هذه التجربه المؤسفه نهائيا وهي ايضا مستبعده لاستمرار تحلف السيف والقلم الديني

تحياتي للدكتور عبدالحكيم الفيتوري




2 - اتفق معك
عبدالحكيم ( 2009 / 10 / 4 - 09:34 )

اتفق معك استاذ خالد أن نشر المعرفة والنقد المستمر ، والسعي لفك الارتباط بين السيف والقلم، هو الضامن الحقيقي لتحقيق الحريات وبسط الشورى

اخر الافلام

.. 102-Al-Baqarah


.. 103-Al-Baqarah




.. 104-Al-Baqarah


.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في




.. رفع علم حركة -حباد- اليهودية أثناء الهجوم على المعتصمين في ج