الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطرق إلى الحداثة

فتحى سيد فرج

2009 / 10 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


صدر العدد الجديد (367 سبتمبر 2009) من سلسلة "عالم المعرفة" يتضمن واحدا من الموضوعات التي أثارت العديد من الحوارت والمناقشات والخلافات الفكرية والمذهبية، وما تزال تثير الكثير من الجدل والحوار، فلا غرابة أن قضية التنوير من أهم قضايا الحوار والجدل قديما وحديثا، في هذا العدد تطرح المؤلفة الأمريكية " غيرترود هيملفاربGertrud Himmelfarb " وجهة نظر تتـــــسم بالغرابة، فهي ترجع التنوير Enlightenment إلى "سوسيولوجيا الفضيلة" التي وضع أسسها علماء الاخلاق البريطانيون .
في محاولة لتوضيح ذلك تقول المؤلفة "هذا الكتاب محاولة طموح لتخليص التنوير من النقاد الذين انتقدوه بقسوة، ومن المدافعين الذين هللوا له من غير نظرة نقدية، ومن مفكري ما بعد الحداثة الذين أنكروا وجوده، ومن المؤرخين الذين قللوا من شأنه، والأهم من كل ذلك في وجهة نظرها تخليصه من الفرنسيين الذين تحكموا فيه، واستولوا عليه عنوة، وتؤكد في النهاية لتخليص التنوير من كل ذلك يجب إعادته إلى البريطانيين الذين أعانوا على إيجاد تنوير يختلف عن التنوير الفرنسي أتم الاختلاف .
فإذا كانت دراسات التنوير قد ركزت على الأفكار الفرنسية، والحركة العقلية التي غزت العالم، وتضافرت لتدمير النظم القديمة، وتغلغت في عقول الناس وفي سلوكهم، فإن هذا الكتاب في المقابل هومعالجة عن العقل والدين والحرية والفضيلة التي شكلت صنوف التنوير المميزة في فرنسا وبريطانيا وأمريكا .
بهذا المعنى فإنني أتصور ظاهرة "التنوير" وأقترح ردها إلى سلفها البريطانيين، والفرنسيون أنفسهم يدينون للثالوث الإنجليزي المبجل : بيكون، لوك، ونيوتن بالأفكار التي أثرت في تنويرهم الخاص، وأعترض بذلك على الفرنسيين في منطقهم وأعني الزمان والمكان اللذين ظلوا أنهما ملك لهم، وبالتالي فإنه مؤكد أن التنوير البريطاني نشأ، مبكرا في القرن الثامن عشر،وأخذ شكلا يختلف تماما عن نظيره في القارة (أو عن نسله عبر البحار) إن الهدف ليس البرهنة فقط على الأسبقية الزمنية للتنوير البريطاني، وإنما البرهنة أيضا على طابعه الفريد، وأهميته التاريخية .
ولوضع التنوير البريطاني على مسرح التاريخ علينا أن نذكر السمات التي ترتبط بالتنوير – وهي العقل والحقوق الطبيعية والحرية والمساواة والتسامح والعلم والتقدم – فإننا نجد أن العقل يترأس القائمة باستمرار، ونجد أن ما هو غائب بصورة جلية هو الفضيلة، مع أن الفضيلة وليس العقل، هي التي كانت لها الأسبقية بالنسبة إلى البريطانيين، لم تكن الفضيلة الشخصية، بل هي "الفضائل الاجتماعية" التي اعتقد الفلاسفة البريطانيون أنها تربط الناس بعضهم ببعض بصورة طبيعية، ولم ينكر البريطانيون العقل، لكنهم أعطوا له دورا أداتيا ثانويا، ولم يعطوه الدور الأولي الحاسم الذي أعطاه له الفلاسفة الفرنسيين .
وهناك من يعتقد في أنه يوجد تنوير واحد، قد يتضمن موضوعات متعددة، يكتب عنه أفراد مختلفين في بلدان مختلفة، ذات أراء مختلفة، غير أنهم يتحدون جميعا في هدف عام مشترك، وأسلوب واحد من التفكير، وهو عادة يتميز بالطابع الفرنسي في الأصل والروح، فإن التنوير لايزال في الأغلب يرتبط باستمرار بالفرنسيين، وإن سبب الحداثة الأكثر تأثيرا هو الثورة الفرنسية، التي نظر إليها على أنها بداية العالم الحديث، فلقد قيل كثيرا أن الثورة الفرنسية نتجت عن إعمال "العقل" ومن خلال "الفلسفة" .
ولكن هناك براهين أكثر حداثة يقدمها مؤرخون على أن التنوير متنوع جدا بين البلدان، وكذلك الأفراد، فالجمهورية الأمريكية كانت أيضا نتاج "الفكر" مع أنه نوع مختلف من الفكر، لقد نجح الأمريكيون بنشر "علم جديد للسياسة" وربما كانت أمريكا هي أرض المستقبل، بيد أن الثورة الأمريكية لم تكن هي التي شجعت على ثورات المستقبل، فخلال القرنين الماضيين ، كان نموذجا الثورة والتنوير فرنسيين، وتقول حنه أرندت H. Arendt " إن حقيقة الأمر المدهشة، هي أن الثورة الفرنسية التي انتهت بكارثة، قد شكلت تاريخ العالم، بينما بقيت الثورة الأمريكية، التي نجحت بانتصار كبير، حدثا محليا أقل أهمية" .
وقد تكون الميزة الحاسمة التي تميزت بها فرنسا على بريطانيا وأمريكا هي لفظ "التنوير" نفسه، لقد استخدم "رسو" لفظ التنوير في فرنسا منذ عام 1750 واستخدمه قبله الأب ديبوس في العام 1733، وفي ألمانيا أبتكر "كانت" التنوير في عام 1784، إما بريطانيا التي امتلكت حقيقة التنوير فإنها لم تستخدم الاسم حتي زمن متأخر جدا، فقد استغرق الأمر أكثر من قرن ونصف، فقد كان أول ظهور لكلمة التنوير في "دائرة المعارف البريطانية" عام 1929 لكي ينطبق على الفلسفة الألمانية، ولم ينطبق على لوك ونيوتن، أو الفرنسيين إلا عرضا .
ولم يكن هناك اعتراف بتنوير بريطاني حتى وقت متأخر، فقد أعلن هنري . كوماجر Henry Commager عام 1977 أن إنجلترا "بعيدة بعض الشيء عن التنوير، وقد كان استبعاد البريطانيين من التنوير أمرا غريبا للغاية، لأنه كان هناك تفاعل كبير بين المفكرين الفرنسيين والمفكرين البريطانيين، فقد قرأ بعضهم بعضا، وترجم كل منهم عن الآخر، وانتقد كل منهم الآخر، وزار كل منهم الآخر، فلقد ادعى فولتير أنه يشعر بالهوس المولع بالإنجليز، ونشر كتابه " رسائل عن الأمة الإنجليزية" في لندن 1733، وأشار في كتاب آخر إلى مقابلة مع باركلي، واقتبس من لوك وشافتسبري وبتبجيل وإجلال خاص من إسحق نيوتن، وعاش مونتسكيو الذي كان أكثر حبا للإنجليز، ولجأ رسو إلى إنجلترا في العام 1766 .
وإذا عبرنا في الاتجاه الآخر فإننا سنجد، أهتمام كل من آدم سميث، وديفد هيوم بالمسائل العقلية الفرنسية، وعلى الرغم من ألفة البريطانيين والفرنسيين ومعرفتهم الوثيقة بعضهم ببعض، فإنهم اختلفوا اتم الاختلاف في روح تنويرهم، فالبريطانيون قد تعاطفوا مع عداوة الفلاسفة الفرنسيين للكنيسة، والملكية، والاستبدادية، والفرنسيون أعجبوا بالحرية الدينية والسياسية في إنجلترا، بيد أن كلا منهم سعوا من أجل تحقيق التنوير بطرق مختلفة .
فجوهر التنوير في فرنسا هو العقل، فالعقل كما تصرح "الموسوعة" هو النعمة بالنسبة إلى المسيحي، وباسم العقل أصدر فولتير إعلانه الشهير الحرب ضد الكنيسة ( اسحقوا الخسيس) وقدم ديدور اقتراحا " بخنق الملك السابق بأحشاء القسيس السابق" أما التنوير في بريطانيا وأمريكا فقد كان متسامح ومنسجم مع الإيمان وكذلك مع الكفر، لم يكن هناك نزاع بين الحكومة المدنية والسلطات الدينية، كما كان تنوع الطوائف الدينية تأكيدا للحرية، وكان في الأغلب أداة للإصلاح الاجتماعي .
لم تكن القوة الحافزة للتنوير البريطاني العقل، بل "الفضائل الاجتماعية، وفي أمريكا كانت كانت القوة الحافزة هي الحرية السياسية، فإذا كان التنوير الفرنسي يمثل" ايديولوجيا العقل، فإن التنوير البريطاني يمثل "سوسيولوجيا الفضيلة" والتنوير الأمريكي يمثل "سياسة الحرية" إن لصنوف التنوير الثلاثة مضامين ونتائج مختلفة، وهذا لايعني أن أن الأفكار كانت هي العوامل المحددة في كل من هذه البلاد، فالمواقف التاريخية كانت مختلفة، فكما أن بريطانيا خبرت مبكرا إصلاحا دينيا، فإنها مرت كذلك "بالثورة المجيدة" التي تعهدت بأن تكون استقرارا سياسيا مستمرا، وكانت فرنسا، التي لم يكن لديها إصلاح ديني، ولا ثورة سياسية على أتم الاستعداد لكل منهما، وأمريكا، التي كان لديها الإصلاح الديني والثورة السياسية كميراث من بريطانيا، فقد كان بحثها الأول والأخير عن الاستقلال السياسي بشكل رئيسي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا جاء في تصريحات ماكرون وجينبينغ بعد لقاءهما في باريس؟


.. كيف سيغير الذكاء الاصطناعي طرق خوض الحروب وكيف تستفيد الجيوش




.. مفاجأة.. الحرب العالمية الثالثة بدأت من دون أن ندري | #خط_وا


.. بعد موافقة حماس على اتفاق وقف إطلاق النار.. كيف سيكون الرد ا




.. مؤتمر صحفي للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري| #عاج