الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحريات الشخصية في الشرائع الدينية

تنزيه العقيلي

2009 / 10 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


دعونا كمقدمة نتناول الحرية، معناها، فلسفتها، أهميتها، حدودها. لست محيطا بكل ما مطروح من معاني للحرية على ضوء الفلسفات المختلفة قديما وحديثا، وليس لدي الوقت حاليا للرجوع إلى المراجع والمصادر والمعاجم، لكني أتناول الموضوع، حسب الفهم العام، وحسب ما أفهمه شخصيا، وحسب فهم الدين، لاسيما الدين الإسلامي للحرية، وذلك حسب ما تختزنه الذاكرة، وعلى ضوء القراءة المحدودة، كما ونريد أن نتناول أين نتفق، وأين نختلف، مع هذه، أو تلك الرؤية للحرية.

الإنسان بالفطرة ميال إلى الحرية والتمتع بها، بأقصى ما يتاح له. وأي تقييد للحرية يجري بدرجة أو أخرى بمجاهدة الرغبة المعتملة في داخل الإنسان لكسر القيود والانطلاق في فضاءات الحرية. والحرية عندما تقيد، فإما بقيد من الخارج، وإما بقيد من الداخل. من الخارج نعرف قيود القانون، والعرف الاجتماعي، والأسرة، وغيرها. ومن الداخل الضمير، والإيمان الديني أو ما يسمى بالتقوى، والالتزام الأخلاقي، أو المبدئي، أو سمه الإيديولوجي. ودينيا تقيد الحرية تقييدا خارجيا من الأحكام الشرعية، ومن آلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن حاكمية الحاكم الشرعي، أو ولاية الفقيه، وكذلك من فلسفة التوحيد، أو فلسفة العبودية لله. بينما تقيد الحرية تقييدا داخليا طوعيا عبر التقوى، التي تعني الرقابة الذاتية عبر استشعار الرقابة الإلهية الحاضرة في وعي المؤمن المتحلي بالتقوى.

وقد تتقاطع آليتا تقييد الحرية الخارجية والداخلية، وقد تلتقيان وتنسجمان وربما تتماهيان، وذلك بحسب عمق إيمان المزاول لها ولتقييدها بشرعية المُقيِّد وإلهيته، وبحسب الانسجام المتحقق في شخصيته بين الإيمان والالتزام، ومدى التخلص من الازدواجية المؤدية إلى توسعة المسافة بين النظرية والتطبيق، بين الإيمان والعمل، وهذا ليس مقتصرا على الشخصية الدينية أو الإيمانية، بل يشمل الشخصية المبدئية عموما، ومدى انسجامها في الحياة والتطبيق مع المبادئ التي تعتمدها، فهناك الماركسي الملتزم، والماركسي غير الملتزم، والليبرالي الملتزم والليبرالي غير الملتزم، وهكذا، بالنسبة للمسلم، شيعيا أو سنيا، وبالنسبة للمسيحي، واليهودي، والصابئي، والإيزيدي، والبهائي، والبوذي، والزرداشتي، والهندوسي، وهكذا هو الحال مع الديمقراطي، والثوري، و...، فهناك الإنسان الملتزم، أي المنسجم سلوكه مع متبنياته الفكرية، ورؤاه السياسية، وعقيدته في الحياة، ورؤيته في الوجود، وإلى غير ذلك، وهناك من لا يلتقي سلوكه بالضرورة مع ما يتبناه من عقيدة، على أي صعيد من الصعد الدينية والإيديولوجية والفلسفية والسياسية والاجتماعية.

حرية كل شخص تبدأ من حيث يريد، وتنتهي حيث تبدأ حرية الآخر. ويلتقي مفهوم الحرية المدني العلماني مع المفهوم الإيماني اللاديني.

والالتزام بقطع النظر عما إذا كان مفروضا من الخارج، أو من داخل الإنسان المُلتزِم، يمثل آلية من آليات التقييد للحرية، بقطع النظر عما إذا كان التقييد إيجابيا أو سلبيا، أي مفيدا للمُقيَّد/المُتقيِّد أو المُقيَّد من أجله، أو مضرا لأحدهما، أو لكلاهما على حد سواء.

وكما بينا هناك عدة مقيدات ومنها، وهو موضوع هذه المقالة، الدين. إذا فرضنا أن التقييد صادر من الله خالق الإنسان، فلا بد من أن يكون التقييد لصالح الإنسان الملتزم نفسه، أو لصالح الإنسان الآخر، سواء كان المجتمع أو الأسرة، أو المُتعامَل معهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، من أشخاص وجماعات. ولكن حيث علمنا أن الدين بشري وليس إلهيا، أي بشري المصدر، أي بشري الابتكار والصناعة والصياغة، أو حتى لو افترضنا إلهية المصدر، فهو بشري الفهم والتأويل والاستنباط والاجتهاد والتطبيق.

من هنا وجدنا أن الدين، مع الإقرار بما يتألق فيه ببعض جوانبه الأخلاقية والإنسانية، فيما هي العلاقة بين الإنسان والإنسان، أو جوانبه الروحية، فيما هي العلاقة بين الإنسان والله، إلا أنه أي الدين قد أربك حياة الإنسان، فردا، ومجتمعات وشعوبا، فخرّف عقله، وعكّر صفو روحه، وأخّل بالسلام والمحبة، وقضى على أهم عطاءات الله للإنسان، ألا هي الحرية. والحرية التي نتكلم عنها بالتأكيد ليست الحرية المطلقة والمنفلتة وغير المسؤولة والأنانية، بل هي الحرية التي تتحرك في أجواء إنسانية الإنسان، وضميره وإحساسه بالمسؤولية تجاه الآخر القريب، والآخر الأقل قربا.

الحرية في ضوء فلسفة التوحيد
بعض الأديان، ومنها الإسلام أعطت في بعض مدارسها، مفهوما جميلا لفلسفة التوحيد، وما يترتب عليها من سلوك وأحاسيس لدى الإنسان الموحد. التوحيد ابتداءً لا يعني فقط الإقرار بوحدانية وفردانية الله، بل توحيد العبودية له. صحيح إن مصطلح العبودية غير محبب عند الكثير من المؤمنين اللادينيين، ناهيك عن الملحدين، بل وحتى عند أتباع بعض الديانات، التي تستأنس بمصطلح بُنوّة الإنسان لله بدلا من عبوديته له، لكننا إذا ما أمعنا النظر في الفهم الصحيح للعبودية، وبالذات لتوحيد العبودية، وجدناه يعطي للإنسان منتهى الحرية والكرامة، لأن التوحيد العاطفي والتطبيقي، أي حصر عبودية الإنسان في الله وحده، يعني نفيها نفيا تاما وبالمطلق لأي لون من ألوان الربوبيات الأخرى غير ربوبية الله، فلا يتخذ الموحد لنفسه أربابا من دون الله، سواء كان الرب البديل والند لربوبية الله، حاكما، أو زعيما، أو نبيا، أو قديسا، أو قديسة، أو إماما، أو خليفة، أو مرجعا، أو امرأة فاتنة، أو زوجا، أو زوجة، أو مالا، أو جاها، أو دينا، أو شريعة، أو حزبا، أو عشيرة، أو ...، فالإنسان يرفض أن يستعبده أي من هؤلاء وغيرهم، ولا يعبّد نفسه لأي منهم، بحكم حصر العبودية لله سبحانه، والله كرب مالك لعبده، ليس ككل الأرباب، لأنه لا يذل عبده ولا يهينه ولا يحتقره، بل يحبه ويكرمه ويرعاه، ومن هنا كان التوصيف المسيحي جميلا ومعبرا للعلاقة بين الله والإنسان، بجعلها كالعلاقة بين الأب وأبنائه، ويا ليتها وصفت بالعلاقة بين الأم وأبنائها، من حيث الحنو والرعاية والحب والمسؤولية التعليمية والتربوية.

الأديان والتضييق على الحريات الموسعة من الله
لكن ما تعنيه المقالة هنا هو الدور السلبي للأديان في تضييقها على الحريات، مما لا مبرر له، لا من حيث درء ضرر على الإنسان الملتزم نفسه، أو على الأشخاص الآخرين وعلى المجتمع من حوله، أي مع عدم وجود ضرر، لا صحي، ولا أخلاقي، ولا من أي نوع آخر. مبرر أتباع الأديان في تحريم ما لا يفهم تحريمه، أو إيجاب ما لا يدرك مغزى وجوبه، أن المؤمن يتعبد بأوامر ونواهي الله، تجسيدا لطاعته وحبه لله، حتى لو لم يدرك الحكمة من ذلك الحكم الشرعي. وهنا أقر بصحة هذه المقولة وهذا التفسير، فالمحب يلبي رغبات محبوبه، حتى لو كانت رغبات غير مفهومة، أو غير معقولة، أو غير مبررة، بل لمجرد أن رغبات المحبوب محبوبة لذاتها، لا لأمر آخر. ولكن مع علمنا بأن التشريعات لم تكن إلهية، بل هي بشرية، أوجدها ما أسموا أنفسهم أو سُمّوا من غيرهم أنبياء ورسلا، نذهب إلى أن هؤلاء عندما شرعوا التشريعات التي أسموها إلهية ونسبوها إلى الله سبحانه، وأعطوها صفة الديمومة والثبات، إنما شرعوا ما شرعوا، فحرموا أشياء، وأباحوا أشياء، وأوجبوا أشياء، ورجحوا فعل أشياء وترك أخرى؛ كل ذلك إما اجتهادا من عند أنفسهم، أو اقتباسا ممن قبلهم مع تعديل وإضافة، وإما أخذوا ذلك من عادات وتقاليد، فأقروا بعضها، وألغوا بعضا، وهذبوا بعضا آخر. ولكن الكثير من التشريعات، لا تخلو من كونها خاضعة لثمة أمزجة وقناعات شخصية لأولئك المسمَّين أنبياء، بل حتى لأهوائهم. فلا أستبعد أن محمدا على سبيل المثال كانت لسبب ما ثمة عقدة نفسية مزاجية تجاه بعض الحيوانات، كما هو الحال مع الخنزير والكلب، فحرم أكل لحم الأول، رغم أن لحمه لا يختلف عن لحم البقر، علاوة على أن له ميزة اقتصادية من ناحية التكاثر، ولم يكتف بتحريم أكل لحم الخنزير، بل اعتبره والكلب مصداقين لعين النجاسة. وهكذا موقفه من الجنس، ورأيه في الحجاب، وما شرع من أحكام للمرأة مثلا، وإبقائه على ظاهرة الرق وملك اليمين، وغيرها. فالكثير من أحكامه كانت خاضعة لاجتهاداته، أو لمزاجاته، أو لحساسياته، أو لغرائزه. مع إن هناك الكثير من أحكامه كانت تعتبر قفزة نوعية في أنسنة التشريعات، لكنه لم يفلح في توسعة الجنبة الإنسانية لتشمل كل الأحكام ذات البعد الاجتماعي. ثم ترك الباب مفتوحا على مصراعيه للاجتهادات والتأويلات تشريقا وتغريبا، وتشميلا وتجنيبا. وفي كل الأحوال وضع قيودا لحرية الإنسان في سلوكيات ذات بعد شخصي محض، لا مصلحة للمجتمع في تقييدها، ولا مصلحة لله سبحانه وتعالى، ولا مصلحة للإنسان الملتزم بالتقييدات الشرعية لحريته.

اضطرار الكتاب الأحرار إلى درء تهمة التكفير عن أنفسهم
ولكن أسوأ قيد هو قيد حرية التفكير، وحرية الاعتقاد، وحرية التعبير، فسيف التكفير مسلط منذ اختلق أول مختلق ما يسمى بالأديان. فتهمة التكفير كانت دائما تلاحق الكتاب والمفكرين، ولنا في زماننا الكثير من الشواهد. فكتاب ومؤلفون ومفكرون كسيد القمني، ونصر حامد أبو زيد، وغيرهما مضطرون للدفاع عن أنفسهم، بنفي تهمة الكفر بالدين والمروق عنه، وأنا شخصيا كاتب هذه السطور، ومثلي آخرون كثيرون، نجد أنفسنا مضطرين للتخفي وراء اسم مستعار، كما تخفيت وراء ستار اسم «تنزيه العقيلي»، لأني بقيت حائرا بين أن أحفظ ما أكتبه دون أن أنشره، على أن ينشر في وقت ملائم، قد لا أشهده، أو أتركه لينشر بعدي، كما نشر كتاب «الشخصية المحمدية» لمعروف الرصافي بعده بنصف قرن، أو أن أنشر باسم مستعار، حتى أسفر يوما ما عن شخصي. أقول لعل بعض الذين يدافعون عن أنفسهم بدرأ تهمة الكفر عن أنفسهم، هم بمعيار الإسلام فعلا كافرون ومرتدون، ولكنهم مضطرون لنفي ذلك، بينما ينبغي أن يكون أمرا طبيعيا أن يعلن الإنسان بكامل حريته عن حقيقة ما يؤمن به وما يكفر به، كما يحق للمسلمين أن يكفروا بالمسيحية واليهودية وغيرها، ويحق للمسيحيين أن يكفروا بالإسلام واليهودية، ويحق لليهود أن يكفروا بالديانتين، ينبغي أن يحق لليهودي بالولادة أن يكفر باليهودية، والمسيحي بالولادة أن يكفر بالمسيحية، والمسلم بالولادة أن يكفر بالإسلام، أن يكفر كل منهم بالدين الذي ولد عليه من غير اختياره. فبدلا من أن يفصح الكافرون بالإسلام عن كفرهم، فكما هم كافرون، فالمسلمون أيضا كافرون من زاوية أخرى، نجد أنفسنا، نحن الذين وجددا أن تنزيهنا لله سبحانه يوجب علينا أن ننزهه من مقولات الإسلام كما المسيحية واليهودية وغيرها، نرانا مضطرين أن ننفي الكفر بالإسلام عن أنفسنا، مفسرين مقولاتنا وكتاباتنا التي يجد آخرون محقين أن فيها ثمة كفر، مفسرين إياها بطريقة تأويلية التفافية انهزامية خائفة، بأنها ليست كفرا بالإسلام، بل هي طريقة فهم أخرى للإسلام. فهل سنشهد زمانا يتمتع بحريته في العقيدة والإفصاح عنها كل من المؤمن، والكافر، والمؤمن اللاديني، والملحد، والمرتد، والمتحول من دين إلى دين، أن تكون الحرية فضاء واسعا يسبح فيه الجميع، في أجواء الحوار، والتفاهم، والتفهم المتبادل، والحب، والسلام.



17/10/2009










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هل الانسان اكثر انسانية من اله ؟
سركون البابلي ( 2009 / 10 / 17 - 20:20 )
المحب لايطلب من حبيبه مطاليب غريبة ولايطلب منه العبودية فالاله الذي يريد من مخلوقاته العبودية هو اله مريض , اما مسألة توحيد الاله ام تجميعه فهذا لايغير للانسان شيئا اذ كان هذا الاله واحد لاغيره فماذا هذا الالحاح المريض منه بانه هو هو و لااحد غيره ماذا يهمني انا من هذا الاله المعقد نفسيا الذي يطلب مني اشياء غريبة ويغريني بالنساء والغلمان والخمر كي اصدق بانه هو هو ولااحد غيره


2 - السلام عليكم
طلعت خيري ( 2009 / 10 / 18 - 06:24 )

الزميله ... تنزيه
الظاهر الزميله لم تستطيع ان تفرق بين العقائد والتشريعات

المفروض اسم المقال الله بس بالاسم .. المقال غير واقعي من الناحيه القوليه.... الدين هو التشريع فما الفائده من الاله بدون قوانين تحافظ على الالوهيه ... الله بس بالاسم تحريف سياسي جديد ... اذاكان الاله يحاسب الناس يوم القيامة على مفاسد الاعمال ... ويدخل المسيحي واليهودي النار بسبب مفاسده ... ويدخل المسلم الجنة فقط لانه يعرف الله..وهو يحمل نفس المفاسد ..الم ترين هذه ازدواجيه ... ثم ما فائدة من الاله صلا اذا كانت التشريعات بشريه



هذا قولك
الأديان والتضييق على الحريات الموسعة من الله
لكن ما تعنيه المقالة هنا هو الدور السلبي للأديان في تضييقها على الحريات، مما لا مبرر له، لا من حيث درء ضرر على الإنسان الملتزم نفسه، أو على الأشخاص الآخرين وعلى المجتمع من حوله، أي مع عدم وجود ضرر، لا صحي، ولا أخلاقي، ولا من أي نوع آخر. مبرر أتباع الأديان في تحريم ما لا يفهم تحريمه، أو إيجاب ما لا يدرك مغزى وجوبه، أن المؤمن يتعبد بأوامر ونواهي الله، تجسيدا لطاعته وحبه لله، حتى لو لم يدرك الحكمة من ذلك الحكم الشرعي. وهنا أقر بصحة هذه المقولة وهذا التفسير، فالمحب يلبي رغبات محبوبه، حتى لو كانت رغبات

اخر الافلام

.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية


.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟




.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي




.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ