الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانسداد النظري لما بعد العلمانية نقد تفكيكية علي حرب 1

ابراهيم ازروال

2009 / 10 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الانسداد النظري لما بعد العلمانية
نقد تفكيكية علي حرب

لا يمكن فهم موقف علي حرب من العلمانية،إلا باستحضار المنحى التفكيكي لخطابه إجمالا .فموقفه من العلمانية ، يصدرعن رؤية فكرية تفكيكية ، وعن منهجية تأويلية غب-حداثية .وأساس تفكيكية حرب ، يتمثل في استشكال العقلانية الأنوارية ، و إخراج الحقيقة من مدار المطابقة إلى مدار التأويل .فالخطاب كون دلالي مخاتل ، تتصارع في قيعانه قوى وسلطات ، وتتلألأ على سطوحه بداهات خلبية وتصورات خادعة وأراء تسويفية .
تتميز تفكيكية حرب بامتياحها من معين التصوف ومن تصوراته النظرية و أزواجه المفاهيمية ؛ فالمنهج التأويلي ، ينوس بين الظاهر والباطن ، بين الشاهد والغائب ، بين الملازمة والمفارقة ، بين الحق والحقيقة ، ويتوق دوما إلى صياغة المعاني والى سد الفجوات الكيانية والى وصل الكائن بأعماقه الرمزية .
( و إذن أن يكون الإنسان إنما يعني أن يتأول وجوده قدرا من التأول . إذ بالتأول يبحث عن المعنى وبه يخرج بالدلالة وعليها ليدخل في جسده ويستعيد أهواءه ورغباته .فالإنسان يحيا ويرغب ، ولكنه يرمز ويدل . فهو يحيا بالرمز وفي الرمز وللرمز . والوقوع في الرمز مدعاة للتأويل ، حيث التأويل بحث لا يتوقف عن المعنى الضائع أبدا ومحاولة لا تنقطع لردم الفجوة بين الرغبة والعلامة ، أي لردم تلك الهوة السحيقة التي تمثلها كينونة الإنسان .الهوة بين الظاهر والباطن والأول والآخر والشاهد والغائب والحقيقة والحق. )
(- علي حرب – التأويل والحقيقة – قراءات تأويلية في الثقافة العربية – التنوير – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 1985-ص.19)
واستنادا إلى هذه المقاربة التأويلية التفكيكية ، لا يمكن لموقف حرب من إشكالية العلمانية إلا أن يكون تأويليا ، يتحرك فيه بندول التأويل بين النقائض ، ويتراقص بين السطوح والأعماق ، بين الظواهر والبواطن ، بين القيعان اللاشعورية والسطوح الشعورية .فالتفكيك المدعم بمقولات عرفانية ، يحفز المقاربة هنا على النأي عن المفاهيم والمتصورات النظرية للعقلانية الكلاسيكية والأنوارية وعن حركية المفاهيم وديناميتها المعروفة في المنجز الفلسفي التاريخاني ؛فالتفكيك إذ يضع التأويل والرمز واللغة في بؤرة الكينونة ، يزحزح العلاقة بالمفاهيم وبحقولها المفهومية وأنماط معقوليتها . فلا جدال إذن ، في ارتكان الفكر ، هنا ، إلى زحزحة جغرافية المفاهيم ، والى خلخلة التركيب والتراكب العقلاني الموضوعي بينها ، والى إعادة توزيعها على خريطة فكرية جديدة بما يراعي منطق التحويل واللامطابقة وألعاب المعنى .وهكذا تفقد المفاهيم كل تماسكها الموضوعي وكل تناسقها النظري وكل حدودها الدلالية ؛ إنها تتمرد على كيانها المخصوص ، وتكثر التنقل بين الدلالات المتضادة والمتناقضة، والسياحة بين الأزمنة والأمكنة وبين الفضاءات الذهنية والثقافية ، وتبرع في خرق الحواجز الفاصلة بين الاستدلال والمجاز ، بين البيان والبرهان ، بين الدليل والرمز، بين امتلاء الدلالة وخوائها .
( فالمفاهيم المتعارضة لا ينفي بعضها بعضا بل هي تتعايش وتتساكن داخل الفكر ، بما هو علاقة مركبة ومتوترة وملتبسة تشتبك فيها الرغبة والمعرفة والذائقة والسلطة . )
( - علي حرب – الماهية والعلاقة – نحو منطق تحويلي – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب – الطبعة الأولى ، 1998-ص. 70)
تتحرك مفاهيم علي حرب في كاووس مفهومي ، وفي سديم دلالي ، وتتبادل المواقع في تدفق صيروري لا تنقطع تحولاته واشتباكاته وتداخلاته .فهو يتقصد استشكال منطق الهوية وفلسفة القصد والتعالي ، والاشتغال فكريا على الإشكاليات استنادا إلى منطق العلاقات والتحولات .ورغم المظهر التجاوزي التحويلي لهذا المنطق ، فهو دوراني ، ترتد فيه السطوح إلى الأعماق ، وتصعد الأعماق إلى السطوح في إيقاع متواتر محكوم بدورانية لا سبيل للانزياح عنها .
وهكذا ترتد السياسة المدنية ، إلى نتاج غيبي متغلغل في اللاوعي الجمعي ، كما تعود السياسة الشرعية المستندة أصلا إلى المقولات اللاعقلانية الدينية إلى مقصديات دنيائية وغائيات دهرانية واستهدافات أرضية .وهكذا نقرأ السياسة المدنية بآليات الأنثروبولوجيا والاثنولوجيا ، ونقرأ السياسة الشرعية بآليات العقلانية الأنوارية .فارتحال دلالات المفاهيم ، يقتضي الارتحال التناهجي ، والإقامة الخاطفة بين المناهج والتخصصات العلمية .
( إذن فلا سياسة تخلو من بعد ماورائي غيبي . والسياسات المدنية هي في ظاهرها علمانية عقلانية وفي عمقها ماورائية غيبية . كما أن السياسة الشرعية هي في ظاهرها غيبية لا عقلانية ، و في حقيقتها ومآلها دنيوية مدنية .ولرب خطاب علماني في الظاهر يغرق في الطوبى واللاهوت وينم بجمود الفكر وانغلاق العقل . ولرب خطاب أصولي في الظاهر ينفتح على الحقائق وينم باستخدام للعقل بأقصى قدر من المرونة والعمق والشمول . )
( - علي حرب – لعبة المعنى – فصول في نقد الإنسان – المركز الثقافي العربي – الدارالبيضاء- المغرب - الطبعة الأولى – 1991- ص. 104)
إن منطق العلائق والتحولات ، لا يتسع في هذا الشاهد لأي سيرورة تحويلية أو لأية فعالية تجاوزية ، طالما أنه يكتفي بإحالة الظواهر إلى البواطن ، والبواطن إلى الظواهر.فرغم الغوص التفكيكي في تذرير المفاهيم وإفقادها التناسق والتماسك ، وإنكار منطق المطابقة والتواطؤ الدلالي ، فإن المقصدية التفكيكية للشاهد مازالت متشبثة بثنائية ( الظاهر / العمق-الحقيقة ) ، وبإمكان تعيين مستوياتها ، دلاليا وتداوليا ، ،واعتمادها مؤشرا للقياس والاستنتاج ؛ كما أن الحقيقة المتدفقة دوما كشلال تأويلي في أدبيات التفكيك ، تقدم هنا ، باعتبارها معطى ماهويا ستاتيكيا ، وعتبة دلالية يمكن تحصيلها بقليل من السبر التأويلي أو من القلب الدلالي أو من الزحزحة الموقعية .ومهما رام الخطاب تجاوز الثنائيات المفهومية ، فهو لا يستمد قوامه إلا من مادتها ، ولا جريان معانيه إلا من مفعولها .فالشاهد لا يستحضر السياسة المدنية إلا بالمقارنة مع السياسة الشرعية ، والخطاب العلماني ، إلا بالمقايسة مع الخطاب الأصولي .إلا أنه يعمد إلى قلب البداهات ، حتى يظهر المعقول في إهاب اللامعقول ، واللامعقول في أسدال المعقول .وبناء على هذا ، فلا اعتبار للتاريخية أو التاريخانية أو للعقلانية النقدية ، طالما أن الفكر مكوثرة تخييلية ، تكثر من استعمال الأقنعة والظلال والإيماءات .
والأغرب في هذا الشاهد ، هو التقريظ الخفي للماورائية والغيبية ، والميل إلى السكونية والجوهرانية .فإذا كانت السياسة سواء أكانت عقلية أم مدنية ، غيبية المأتى ماورائية المنبت ، فعن أي فعالية تحويلية نتحدث ؟ ألا يرتد منطق التحويل المفتوح إلى منطق الهوية المغلق ؟ ألا تعني كل منهجية تأوليلية أو تفكيكية ، العودة إلى الأنماط والنماذج المعيارية العالقة باللاشعورالجمعي ؟
فوسم السياسة بميسم الغيبية واللامعقول ، يفارق مفارقة كلية ، مكتسبات العقلانية النقدية والتاريخية .فالسياسة المدنية ، محددة التخوم النظرية والاستهدافات الاستراتيجية ، والإجراءات العملية القمينة بتفعيل مقررات الفلسفة السياسية وتحقيق مقاصدها ، هنا والآن .فقد استطاع الفكر تقنين محايثة السياسة منذ الإغريق ،وتمكن لا حقا ، من إعادة تأسيس تلك المحايثة على أسس عقلانية أشد تماسكا من الأسانيد الإغريقية .
( فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية ؛ و إذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة . وذاك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط ، فإنها كلها عبث وباطل إذ غايتها الموت والفناء ؛ والله يقول : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ) ؛ فالمقصود بهم إنما هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم . ( صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ) . فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة ؛ حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني ، فأجرته على منهاج الدين ليكون الكل محوطا بنظر الشارع . )
(- ابن خلدون – مقدمة ابن خلدون – تحقيق : درويش الجويدي – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت -2002-ص.-177- 178)
ولئن امتلكت المقاربة الخلدونية لأنماط الحكم جدارة التحديد ورسم حدود الأحياز النظرية ، فإن المقاربة التفكيكية ، طمست كل رغبة في التحديد والتقنين والتسويغ العقلاني .فالخطاب العلماني الموغل في اللاهوت ، هو علماني تجاوزا أو ادعاءا ؛ ولا يعول على الخطابات الفكرانية المهلهلة سدى ولحمة ، ونظرا ورؤية في تحديد علمانية الخطاب. كما أن وسم بعض الخطابات الأصولية بالعقلانية ، هو من باب الشطح المفهومي أو التهويم الاستعاري .
ولما كانت المفاهيم مترحلة ، تفكيكيا ، ومنزاحة ، قليلا أو كثيرا ، عن منطق الماهية ،فهي تتسع و تفيض بين الحقول النظرية وتربط بين المتباعدات وتألف استعارة الوجوه والأقنعة .
فمنطق العلائق والتحولات ،مشغول كل الانشغال ، لا بالتأشير على خطوط التجاوز والنفي والتخطي ، بل بتعيين البؤرة الأنطولوجية لكل الخطابات مهما بدت متخالفة من حيث المرتكزات والينبغيات الفكرانية . إن منطق العلائق والتحولات ، ماهوي قطعا ، جوهراني حتما ، طالما أنه لا يرى للفعالية البشرية مضمارا خارج مضمار اللامعقول .فاللامعقول لا يعني ، في هذا المساق ، ما لا يتسق مع المبادئ أو المسوغات النظرية أو ما يستعصي على المعقولية كما هي مصاغة ، راهنا ، بل هو أساس ميتافزيقي ، عابر للتواريخ الفكرية والاجتماعية ، وقابض على أعنة التفكير ، على نحو كلي .
وهكذا تفقد المفاهيم كل معيناتها النظرية وكل قدرتها على تمثيل المعطيات الامبريقية أو الأفكار التجريدية ، لتغدو كتلة هيولية تتشكل باللغة وتسيح بين الاستعارات وتننقل بين التواريخ بخفة مجازية عصية على التحصيل .
ليس غريبا والحال هذه ، أن يتحول اللامعقول والغائب إلى الإطار التفسيري ،الأوحد والأمثل ، لكل الإشكاليات والوقائع ؛ فالغائب هو الحضور الانطولوجي ، المتغلغل كالنفس الكوني ، في كل المسميات .فالمفاهيم لا تحدد إلا في موقعها على مؤشر الغائب ولا تنتمي ، كيانيا ، إلا إلى الأرومة اللاعقلانية .
( وكل أيديولوجية ، أكانت دينية أم دنيوية ، تضرب بجذورها في اللامعقول ، وتستلهم القدسي والغائب ، أيا كانت الأسماء التي يمكن أن يتسمى بها ذلك الغائب . فقد يكون الغائب إلها أو أمة أو طبقة . وقد يكون مدينة فاضلة أو جمهورية مثلى أو انتظارا ليوم يحل فيه السلام بين البشر ، أو لشخص يملأ الأرض قسطا وعدلا ... لذا ، فالغائب يمثل نقطة التقاء الدين والدنيا . إذ عنده يلتقي الفقيه والسياسي . وبه يتوحد الشرعي والمدني ويتقاطع الديني والعلماني . وليست المسألة مسألة خيار بين الدين والدولة . )
( - علي حرب – لعبة المعنى – فصول في نقد الإنسان – المركز الثقافي العربي – الدارالبيضاء- المغرب - الطبعة الأولى – 1991- ص. 105)
ليس الغائب مجرد مقولة تفسيرية هنا ، بل هو البوتقة الميتافيزيقية ، العاملة على المزج بين النقائض وتعيين التمفصلات الممكنة بين الفكريات والخطابات . فالغائب لا يعرف لا زمانية ولا تاريخية ولا ارتقاء في معارج التاريخية أو التاريخانية ، كما لا ينشغل بالمعايرة ولا بالنمذجة ولا بالصورنة . فكل الفوارق والاختلافات ، ترجع إلى الأصل الغائب ، وكل المسميات ليست إلا تجليات لزخمه وعنفوانه .ففي البدء كان الغائب ؛ هو الأصل والجبلة ، هو البوتقة ومأتى التشكيل ؛ وليس كل تعيين للحدود ، أو تأسيس للفواصل ، إلا رغبة خلبية ، سرعان ما تذروها ريح لاهوت الغائب .
يبدو منطق العلائق والتحولات هنا ، بعيدا عن المحايثة ، غارقا في سديم القدسي ، ومناقضا لكل تعقل تاريخي لتمفصل الديني والدنيوي أو لتأسيس محايث للعلمانية والدنيوة .فلاهوت الغائب، عائق انطولوجي مضاد لكل تشغيل فعال للتعقيل ، مادام يكتفي باعتبار المفاهيم والمؤسسات والمقولات ، مجرد تفريعات أو فيوضات نابعة من البؤرة المتقدة دوما للغائب .ومن هنا ، فلا يمكن تصور فعالية الفكر ، خارج التأكيد على الإعادة والاستعادة والتذكير بالأصل القدسي المؤسس .
( فليس العقل مجرد وظيفة معرفية نتصور بها الواقع على حقيقته ، وإنما هو أقرب إلى المغامرة الوجودية والإستراتيجية الفكرية ، بما يعنيه الفكر من اجتراح الإمكان ، بواسطة عمليات التوسيع والتطوير ، أو التشعيب والتقليب ، أو الترميم والتعديل، أو الصرف والتحويل . )
(- علي حرب – الأختام الأصولية والشعائر التقدمية – مصائر المشروع الثقافي العربي – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب - الطبعة الأولى – 2001- ص.29)
فالمنهجية تنفي النظرية والتفكيك يناقض الرؤية النظرية؛ وإلا كيف يتآلف تسيد الغائب مع القول باجتراح الإمكان وفتح سيرورة التعقل ؟
والواقع أن تفكيكية علي حرب ،بعيدة مهوى التقلب؛ فهي تثبت الشيء وتنفيه ، تميل إلى جانب لتحط رحالها في نقيضه، وفقا لمقتضى المساق الكتابي أو التحليلي .
فلئن كان اللاهوت قاعدة الناسوت ونقطة انطلاق فيضه المفهومي والتصوري في ( لعبة المعنى ) ، فإن الناسوت سيتبوأ المكانة الأعلى ويصير قاعدة اللاهوت في ( النص والحقيقة ) .والتفكيك هنا تعليل ، وبحث عن علاقة الشيء بعلته ، وتنصيص على أولوية الأنثروبولوجيا قياسا إلى الثيولوجيا .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة الاعتداء علي فتاة مسلمة من مدرس جامعي أمريكي ماذا فعل


.. دار الإفتاء تعلن الخميس أول أيام شهر ذى القعدة




.. كل يوم - الكاتبة هند الضاوي: ‏لولا ما حدث في 7 أكتوبر..كنا س


.. تفاعلكم | القصة الكاملة لمقتل يهودي في الإسكندرية في مصر




.. عمليات موجعة للمقاومة الإسلامية في لبنان القطاع الشرقي على ا