الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القوي سينمائيا القوي سيميائيا

مونير كوبي

2009 / 10 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مظاهر إرادة القوة لدى الولايات المتحدة الأمريكية متعددة ولا تنحصر عند مستوى العدة والعتاد العسكري والسياسي، ولا تقتصر على الهيمنة الإقتصادية على بلدان العالم الثالث وحتى المتقدم منه. إنها تتجاوز العالم، وتنصب نفسها، من خلال الصناعة السينمائية الهوليودية، سيدة على العالم، وقيمة على أرواح بني آدم، وحريصة على مستقبل العالم وبيئته وجماله.
لكن هل استشارت أمريكا أحدا وهي تنصب نفسها الوصي الأول والأخير على شعوب العالم؟ من منحها الحق في أن تتحدث عنها في أفلامها الهوليودية؟ ومن سمح لها بممارسة الحجر على العالم وتقضي بشلله المسبق في مواجهة مشكلاته؟ لماذا تربي فينا السينما الهوليودية هذا الإرتباط النكوصي بثدي الأم، "أمنا أمريكا" إرتباط مدين بدائن ؟ لماذا يصر "السيد" الأمريكي حتى في خطابه السينمائي على إعلان الحرب وشنها بإسم السلام العالمي؟ هل العالم بالفعل في حاجة إلى صدر حنون وآمن يدفع عن العالم دوافعه التدميرية وقلقه الإضطهادي مثل الولايات المتحدة الأمريكية؟ أليست أمريكا هي الداء عينه في الوقت الذي تصور فيه نفسها أنها العقار الشافي العافي من كل الشرور الآتية من العالم أو الخارجة عنه؟
عندما حصد الشريط السينمائي Titanic أغلب جوائز الأوسكار لم يكن العالم في حاجة إلى حجة أكثر دمغا لقوة العم سام، ولا إلى خطاب أفصح بيانا من ذلك الذي قاله خطابه السينمائي الفني والتقني، وحتى ما رصد لإنتاجه من مال يفوق التصور. فما الذي يعنيه ذلك سيميائيا؟ معنى ذلك أن موازين القوى، بعد سقوط جدار برلين وإندحار الإتحاد السوفياتي ومعه المعسكر الشرقي، لم تعد تميل وبشكل سافر إلا لسيد واحد وربان واحد هو الولايات المتحدة، ويبدو أن السفينة أو الطائرة التي كان المعسكران الشرقي والرأسمالي يتنازعان الحق في قيادتها، صارت الآن تحتمل سيدا واحدا فرض بقوته معنى الخير والشر، وكافة المعاني التي تتدلى من "الكون الأمريكي" في صورة ملهاة أو مأساة مكبرة سينمائيا لتتخذ الأهداف الإيديولوجية التي تسند موقعها في العالم كواهبة خلاقة ووحيدة لقيم الجمال والحق والخير.
لقد كانت الحرب الباردة، في زمن ما قبل إنحباس المد الشيوعي و"إفلاس" أطروحته، حربا ساخنة وساخنة جدا داخل الدهاليز السينمائية بين المعسكرين. و كانت العلوم هي الأخرى تعكس سخونة الحرب لما تمكنت أيد إيديولوجية من مدخلاتها ومخرجاتها أبعدت هذه العلوم ولزمن طويل عن محك الموضوعية، تماما كما فعل رائد النازية هتلر حين أحاط أطروحته بأبواق علمية كان المطلوب منها شيء واحد هو علمنة القول بنقاء الجنس الآري أو الإنسان الأعلى بتعبير نيتشه، وضرورة الحفاظ على طهارته بعيدا عن الأجناس المدنسة. كذلك فعلت الأطروحتان الإشتراكية والرأسمالية من خلال إعلان إنساب العلوم سواء العلوم الطبيعية أو الحقة أو العلوم التي تدرس الإنسان إليها، فمنحت لنفسها الحق في أن تقول بأن هذه العلوم إشتراكية أو بورجوازية، وعلى هذا النحو جاءت تسمية السوسيولوجيا والسيكولوجيا والتاريخ والإقتصاد وغيرها، بالعلوم الإجتماعية لمن كان ينتصر لمقولة المجتمع من الماركسيين، أو بالعلوم الإنسانية لمن يعلي من شأن الفرد المستقل بذاته، وهذا كان إختيار الرأسمالية.
لم تكن السينما إذن نشازا عن المسار الذي اختطته لها القوتين العظيمتين في العالم، أطرت كل منهما نظرة العالم لذاته من زاوية النظر التي ينظر منها الإشتراكي أو الرأسمالي ومن داخل المنظور الإيديولوجي المدعوم من طرف السلطة. وفي هذا السياق جاءت أفلام رومبو Rambo لسيلفستر ستالون Sylvester Stallone وهي تحاول مداواة الجسد المتخم بالجروح ببلسم الإيديولوجيا، وتخط للعالم تخوم المشروع بقلب صورة المستنقع الفيتنامي الذي زلت قدم أمريكا في أوحاله والتي خرجت منه في الواقع مهيضة الجناح إلى "إنتصار بطولي" على الشاشة الكبرى، من خلال إظهار حرصها المحموم على شرعنة عدالة مزعومة كان لابد لها أن تقوم بإسمها، وتنتسب إليها كقيمة على قيم السلام وحقوق الإنسان أن تدافع عنها ولو بقوة السلاح، كما فعلت أو تفعل الآن في العراق وأفغانستان.
لكن القوة الرمزية حسب ما يشهد به بيير بورديو هي أشد فتكا بالبشر من القوة العسكرية أو المادية، وهو بالضبط ما تفعله أمريكا سيميائيا عبر الفن السابع. وتبعا لذلك، ومن منطلق الإستعلاء الحضاري الذي ظل يمارسه الغرب منذ قرون على العالم غير الغربي، تتبدى صورة الآخر في السينما الأمريكية إما كعدو يجب محاربته أو إستئصاله من الوجود إن اقتضى الأمر ذلك، وإما أن ضحية إستغلال يجب تحريره منها وإعادة الإعتبار لإستقلاله الذاتي، والحافز في كلا الأمرين حافز إنساني بحث فيه غيرة على صحة الإنسانية وبقائها من جهة، ومن جهة أخرى، فيه حرص على قيم العدالة والتكافل الإنسانيين. ومعنى ذلك أن ما لم تنجح فيه الأمم المتحدة ومنظمات العمل الإنساني والأنظمة السياسية في العالم هو ما يجعل أمريكا تبادر وعن حسن نية إلى القيام به والنجاح فيه. غير أن الخلفية التي توجه هذه "المبادرة الإنسانية" كما أسلفنا الذكر أبعد ما تكون عن مثل هذه الأهداف السامية والغايات النبيلة. فالصناعة السينمائية الأمريكية تقيم خيمتها الجماهيرية على أوتاد ثلاثة هي العنف والثأر والجنس، وهي كلها قيم تحمل دلالات مدمرة للحضارة الإنسانية، لأنها لا تخاطب إلا ذلك الصوت البهيمي في الإنسان. وهذه هي التوابل المعطرة التي تتفنن هوليود في إستثمارها في أي فيلم يراد له أن يستقطب أفئدة أكبر كثلة جماهيرية وجيوبها في الداخل والخارج، والرواج منقطع النظير الذي تلقاه أفلام هوليود في العالم المتخلف والمتقدم على حد سواء، يدل دليلا واضحا على أن القوة الأمريكية قوة جبارة قادرة على تسليع القيم التي تريد أن تسود العالم وتستدمجها الشعوب في معيشها اليومي، وفي بناها الذهنية والقيمية، لتكون مع أمريكا لا ضدها.
وبناء على ما تقدم، يندر أن تراك أمريكا كصديق حقيقي وليس كانسان همجي أو عدو خطير على قيمها الحضارية. إنها لا تنظر إلى الآخر إلا من موقع الإنسان الأعلى أو "السوبرمان" كما تَجَسَّدَ في احد الأفلام التي تصور شخصيته بقدرات خارقة تتأهب دوما لإنقاذ الناس والعالم من الخطر والشر المحدق بهما في أية لحظة، الأمر الذي يجعل أمريكا لا تكتفي بإظهار الآخر كإنسان لم يبلغ بعد سن الرشد فحسب، بل تمتد هيمنتها الإبداعية والسيميائية إلى تطويق مخياله الشعبي بصور لموجودات غير عاقلة كالدينصورات ( مثل فيلم Jurassic park للمخرج steven spielberg)، والعناكب (مثل فيلم Ice spiders للمخرج Tibor Takacs)، صارت هي الأخرى مسيرة بنوازع التدمير والإستعمار والكراهية اتجاه كل ما هو إنساني.
وحتى الفضاء الخارجي لم تتركه أمريكا يهنأ بسلامه السعيد بعيدا عن نظرية العدو دوما هو خارج أمريكا. وهكذا جاءت أفلام الخيال العلمي بقصص وروايات، تحكي عن كائنات غريبة، وصحون طائرة، ومركبات فضائية تقودها هذه الكائنات، فتهاجم سكان الأرض بنية إبادتهم، أو تخريب كوكبهم، أو إستعماره وإستنزاف ثرواته.
أمريكا إذن تنصب نفسها المنقذ من الضلال الذي يحل بالعالم أو بكوامن الإنسان الآخر، مع أنها السبب الرئيس فيما يحل بالعالم من شرور، وفيما تقاسيه الشعوب المستضعفة من آلام. ويمكن أن تصل بها الوقاحة إلى حد أن تعتبر أن الدمار الذي يعتمل في العالم لا يد لها فيه، إنما هي الشعوب التي تؤذي نفسها بنفسها قبل أن يأتي أحد آخر خارجها ليفقدها توازنها ويهدد وجودها وقيمها، هذا ما يقوله مثلا فيلم Apocalyptoلميل ﮔيبسون Mel Gibson وهو يقرئنا منذ البداية قولة دورانت W.Durant:"لا يمكن إحتلال حضارة عظيمة من قبل قوة خارجية إذا لم تدمر نفسها من الداخل".
إن أمريكا لا تقنع بأن تظهر جبروتها بإستعراض عضلاتها المادية والعسكرية والتكنولوجية على الشاشة السينمائية، بل يمتد هذا الإستعراض "الصوري" إلى إظهار غيرتها بشكل محسوس على صرح الإنسانية من الإندثار بمبادرات الإحسان والنجدة اتجاه بني البشر جميعا. أضف إلى ذلك، أن أمريكا تريد أن تنسينا أن الشعوب الموسومة بالبدائية أو التي تبدو لها أقل تحضرا منها، هي كذلك تملك خيالا أسطوريا فسيحا وأصيلا كانت كتابات أنثروبولوجية غربية ومن منطلق إستعلائي تحتقره وتحط من قدره أمثال بيير كلاستر وليفي برول. وباستثناء بعض الأصوات السينمائية الجريئة، والأفلام التي تبني نقدها أو تصورها الكوسمولوجي والأكسيولوجي على مبادئ الدفاع عن الإنسان، لم يعد الآخر في نظر سينما أمريكا إلا رديفا لما هو ناقص ومنبوذ. فإن لم تعد الإشتراكية هي العدو، فقد صار الإسلام هو العدو الحاضر الآن أمامها، وصارت الحيوانات والكائنات الآدمية الآلية هي كذلك عدو لأمريكا، ويبدو أن هذه الأخيرة، وحسب ما ذهب إليه روجي جارودي والمهدي المنجرة، لا تستطيع أن تعيش بدون عدو، يلهمها في صناعة الأسلحة، وفي إبداع سبل جديدة "للقتل الرحيم" لكل من تشم فيه رائحة المعارضة أو الإختلاف.
ما يجب أن نخلص إليه هنا، هو أن أمريكا تصنع تاريخ العالم من خلال منظورها للأشياء، وتبدع في إنتاج أساطير تروج لصورة إستيهامية تبدو فيها أمريكا، من جهة أولى، كقوة جبارة تخيف وترعب، وتضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه أن يشكك في مدى قوتها، ومن جهة ثانية، ككائن يفيض إنسانية ولا يقدر أن يقف مكتوف الأيدي وهو يرى العالم يتهدده الخراب. كل ذلك تبرزه "أمنا أمريكا" عبر الصناعة السينمائية كأحد الأدوات الإيديولوجية الفعالة في توطين جملة من القيم والتصورات المبضعة في أذهان الأمريكيين أنفسهم، وفي أذهان الشعوب الأخرى. ومعنى كل ذلك أن القوي سينمائيا هو القوي سيميائيا.















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتيجة خسارة التحدي.. قمر الطائي تعاقب بطريقة قاسية ??????


.. بعد رحيل -رئيسي- .. إيران أمام أخطر 50 يوما في تاريخها




.. فتح تحقيق بأسباب تحطم طائرة رئيسي.. ووفد رفيع يصل مكان الحاد


.. شبكات | انتقادات لمخرج مصري بعد مباراة الزمالك ونهضة بركان




.. شبكات | احتفاء بأمانة طفل يمني