الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن محاكم التفتيش العربية

مرزوق الحلبي

2009 / 10 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يؤكّد هومي بابا أن العرب ليسوا وحيدين في الوقوف الدائم على طرفي نقيض بين حدين قيميين او أيديولوجيين وأنه صفة ملازمة لكثير من الثقافات الهجينة اللاهثة وراء المركزية الأوروبية. ومع هذا يظلّ العرب أفذاذا في القدرة على إحياء العيش في الماضي بوصفه الحاضر والمستقبل كجزء من الوقوف النكائي ضد الغرب الذي بلور الحاضر وصمم المستقبل إلى حد بعيد. فالرائي على الاشتغال العربي المكثّف بالدين من كل زاوية وباب يكتشف أن عامل واسعا من المجتمعات والبشر دخل منذ زمن بعيد عصابا فريدا يستحضرون في إطاره الماضي ويعيشونه كأنه الآن بأحداثه وشخوصه وتفاصيله الصغيرة. بل صارت فحولة هذا العصر في الإلمام بالتفاصيل الدقيقة لتلك الأحداث والرموز وتقمّصها بحذافيرها. فإذا قرأنا عن شخصية من ألف عام وجدنا الكاتب يتعامل معها كأنها هناك تمكث الآن في ديوان على المنعطف بين المريدين وأنه بإمكاننا أن نقطع المسافة إليها سيرا فنلقاها في عزها وهنائها! وكأن بغداد هارون الرشيد لا تزال هناك في موضعها يلقي أبو بكر الرازي فيها دروسا في الطب. وهكذا إذا ذُكرت شخصية دينية محبوبة أو شخصية أسطورية متوهمة. كل شيء يحدث بالبث الحي والمباشر. ربما لأن الفضائيات صارت أكثر من الجامعات ودور العلم، صار بالإمكان بث الماضي بثا مباشرا وبالألوان.

معروفة هذه النزعة الوجودية للجماعة أي جماعة لبناء ذاكرة جماعية وإنتاج أساطيرها وأمجادها لغرض بناء الهوية الجماعية القومية أو الدينية أو غيرها. لكن لم يحدث أن حصل من قبل ما يحصل للعرب المسلمين الآن. إذ بدل أن تكون الحركة إلى الماضي من أجل اقتحام منغلقات الحاضر ومجاهيل المستقبل، فإن الحركة نحو الماضي، فيما هو حاصل عندنا، تشكل حركة نكوص وتراجع جماعي نحو الماضي والتعاطي معه على أنه الحاضر والمستقبل معا، والوجود من أوله لآخره. فحديثنا عن أحداث قبل ألف وخمسمائة عام يتمّ بلغة واندهاش حصولها الآن هنا وهناك مع تقمّص مكثّف لشخصيات تلك الأحداث وأبطالها كأنها برامج الواقع مثل ستار أكاديمي أو سواها. فلا عجب أن تحتل دولة عربية كاملة ببندقية وعشر رجال إذا ما ضُبطت هذه الدولة بناسها وعساكرها دائخة مكهربة أمام مشاهد باب الحرة ـ الفصل الرابع!

إن الغوص في هذه الحالة يغري البعض بالتنازل عن الإقرار أنه ليس كل ما في ماضينا العربي والإسلامي مشرقا أو مضيئا، وليس كل أسطورة أو رواية أو شخصية هي الحقيقة بعينها. على الأقلّ، علينا ألا نضيع الفارق الجغرافي أو الزمني أو الفكري أو القِيَمي بيننا وبينها كيما يبقى للعقل مطرح. وهنا المعضلة في بناء الهويات، كل الهويات وفي كل مكان! ينزلق البناءون بوعي تام نحو الأسطرة التامة للوجود من خلال استثمار المادة المعلومة كالتاريخ المكتوب والمنقول أو الدين كموروث منقول ومنصوص لبناء عالم متوهّم. وكون البنائين العرب غير قادرين على تصور مستقبل ما، لهم وللجماعة، نراهم محاصرون بما بنوه من عالم مفترض من مادة الماضي "المجيد" الذي لا يرقى إليه شك! بمعنى انعدام المشروع السياسي القابل للحياة، والعجز عن التصوّر والتخيّل خروجا عن نص الماضي وقيوده. وقد رأينا كل البناء الديني للهوية أسير نصوص متقادمة وروايات نصفها سراب ونصفها الآخر تأليف غير محكم ولا ذكي، أو مراوحة في حقبة زمنية تعتبر الجنة على الأرض! ويزيد من هذا الغرق في الماضي تلك الرغبة الجامحة لتشكيل حركة مضادة للمركزية الغربية. فإذا شرّقت غرّبنا وإذا تحركت استنقعنا!



صحيح أن عملية التحرر من هيمنة هوية أو ثقافة أخرى يستدعي التوكيد على هوية الذات أو ترميمها أو بنائها من جديد. لكن كل نظريات علم الاجتماع والتربية أفادت أن التحرر يستدعي نظرية نقدية أو تحررية. وهو ما ينتفي في الحالة العربية والإسلامية. فبناء الهوية صنمي وقمعي بامتياز. لأنها هوية فجة تتطير من المركزية الغربية وما أنتجته، وتتطير بالقدر نفسه من القومية العربية وما أخفقت فيه. حالة سبقتنا إليها الثورة الإسلامية في إيران. فداريوش شايغان الفيلسوف الإيراني الذي تعاطف مع الثورة في بدايةً رأيناه ينقدها ويشكك في مجرّد نعتها بالثورة في كتابه "ما الثورة الدينية"! وقد حذا حذوه الآلاف من أبناء تلك الثورة وبناتها. وما حصل ويحصل منذ أشهر في المدن الإيرانية يؤكّد من جديد استحالة تحقيق التحرر بالقمع أو بمعاداة الفكر والمفكرين. فجيّد أن تتحرر الدول من تبعة أو من كونها طرفا لمحور أو موضوعا لهيمنة لكنها ينبغي أن تظلّ مقدمة فقط لتحرر المواطنين من قمع استُبدل صانعوه "السافاك" بصانعيه الجدد "الباسيج"! هذا في بلد عجّت مدنه بالجامعات والعقول والتنظيمات النشطة. وهو أمر تفتقده المدن العربية لأنها تريّفت ولأن خيرة أبنائها في المنافي!

الحالة الإيرانية تنعكس إشارات على الحالة العربية الراكدة أو الغائرة في الماضي. لأنها ضدية ماضوية أولا، وذات طابع عسكري قمعي ثانيا، ولأنها دينية تستلهم الموروث الديني، ثالثا! وكل مشاريع الهوية الإسلامية في العالم العربي تتحرك على محور مشابه من البثّ والالتقاط والحراك بين ثلاث مواقع قابضة على الروح مًقصية للعقل. ويتفوق العرب على الإيرانيين في قدرتهم على العودة للعيش في الماضي خارج التاريخ أسرى غيبية تقارب محاكم التفتيش. فبينما حاكم أسرى المسيحية الكسيحة يومها ديكا على بيضة يُحاكم نظام كامل صحفية ارتدت بنطالونا! أما النتيجة فهي انفتاح فجوة رقمية كاملة بين العرب وبين سواهم. والعصر على تحولاته يسمح بالحد الأقصى من التناقضات. بمعنى أن الزمن وحده غير كفيل بإشفاء العرب من ماضيهم ولا من محاكم التفتيش خاصتهم!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - salam gazakom alah khayra
abdessadeke ( 2011 / 11 / 1 - 12:16 )
salam gazakom alah khayra

اخر الافلام

.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع


.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية




.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-


.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها




.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24