الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما رحل الخميني ... دوّي العودة، دوّي الرحيل !

جمعة الحلفي

2004 / 6 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مرتان رأى فيهما العالم مشهداً لا مثيل له، في العاصمة الإيرانية طهران. المرة الأولى حين عاد الإمام الخميني، عودته المظفرة من منفاه، في الأول من شباط العام 1979، ليقود الثورة الإيرانية في أيام انتصارها الأخيرة، ويومذاك كانت في استقباله الملايين من شعوب إيران الثائرة. وفي المرة الثانية حين "غادر" الإمام الخميني طهران الى الأبد، في السادس من حزيران 1989، وكانت في وداعه الملايين أيضا. وبين التاريخين عقد صاخب من الزمن الإيراني، كان الخميني بطله بلا منازع. وإن كان ذلك العقد مليئاً بالأحداث والانكسارات والهزائم، لكنه لم يكن، مع ذلك، قد غير الكثير في الصورة القدسية للإمام الخميني، في أذهان تلك الملايين، التي استقبلته بالأمس وودعته في ذلك اليوم. ذلك أن فعل الخميني، الروحي، في هذه الملايين، لم يكن يتأتى، في الواقع، من النتائج التي يبلغها، بل من الأحلام التي كان يجسدها، وهذا هو سر قدسية كل الرجال الكبار في التاريخ، فهؤلاء وحدهم الذين لا تلغي الانكسارات والهزائم اسطوريتهم، مهما كانت نتائجها وآثارها.
لقد كان لرحيل الإمام الخميني دوياً مكتوماً في إيران، لأنه لم يترك، في الحقيقة، غير تلك الأحلام، التي أسكرت شعوب إيران وفقراءها ردحاً من الزمن، ولم تستطع ثورته على "عرش الطغيان" تحقيق أي شيء منها، في السنوات العشر العاصفة، التي مرت بها. وقد عبرت تلك الملايين، التي جاءت من كل أنحاء إيران لتودع زعيمها الراحل في شوارع طهران الفسيحة، عن تلك الخسارة الكبرى، التي حلت بها، خسارة الأحلام والخميني معاً، وذلك في بكاء ونحيب لم ينقطعا طوال أيام كانت أشبه بأيام عاشوراء الفجائعية الأثيرة في حياة الإيرانيين.

بعض السيرة
في العام 1899 ولد روح الله الموسوي الخميني في بلدة خمين وسط طهران. وكان في الرابعة حين قُتل والده بسبب معارضته لنظام حكم العائلة القاجارية، التي حكمت إيران قبل حكم عائلة بهلوي. وما ان أنهى دراسته الأولية، وهو في التاسعة عشرة من عمره، حتى التحق بالدراسة الدينية في مدينة أراك. وفي أوائل العشرينات انتقل للدراسة في مدرسة علوم الدين في مدينة قم. وبالرغم من أن الخميني كان قد ركز اهتمامه، في أوائل حياته، على العلم والبحث ودراسة الفلسفة والفقه الإسلامي، إلا أن ذلك لم يمنعه من الاهتمام بالأوضاع السياسية في بلاده. وقد تنبه في وقت مبكر لتجاوزات نظام الشاه، ولتزايد نفوذ الغرب والصهيونية في إيران. ومنذ ذلك الوقت وقف في وجه نظام الشاه، وبجرأة متناهية، تحمّل من وراء ذلك السجن والنفي مراراً.
لقد كانت نقطة التحول الرئيسة في حياة الخميني، في العام 1961، عندما رفع رسالة شهيرة الى الشاه يحذره فيها من مغبة مخالفة الإسلام والدستور. وكان الشاه آنذاك قد ألغى القسم على القرآن عند الترشيح لعضوية المجالس المحلية. ثم تبع الخميني رسالته تلك بمذكرات علنية يتحدث فيها عن خطر السيطرة الاجنبية على إيران، متهماً النظام بتحدي الإسلام وعواطف الأمة. وقد طُبعت ووزعت رسائل الخميني في مختلف أنحاء إيران، مما أثار موجة سخط شعبية عارمة ضد الشاه. وطوال السنوات التالية واصل الخميني حملاته للتعبئة ضد الحكم والسيطرة الغربية والنفوذ الصهيوني. داعياً رجال الدين الى الثورة بدلاً من "الانشغال بالتسبيح" حيث قال ذات يوم لطلابه في المدرسة الفيضية " لست من المعممين الذين يرغبون دوماً في الجلوس والانشغال في التسبيح(...) علينا جميعاً ان ننهص ونجاهد". وسرعان ما بدأ الصدام الرئيسي الأول بين الخميني والشاه، الذي كان قد أعلن ما سُمي "الثورة البيضاء" إذ ظهر الخميني كزعيم لحركة معارضة "الثورة البيضاء" ووصل الصراع الى حد اقتحام جنود الشاه بالقوة للمدرسة الفيضية في آذار 1963، فأعلن علماء الدين في مختلف أنحاء إيران تأييدهم للخميني، الذي أصدر فتواه الشهيرة بتحريم "التقية" ودعا العلماء الى "عدم تلويث منابرهم بالمهادنة" كما فجر علناً علاقة الشاه بإسرائيل. وفي اليوم التالي، لخطبة نارية ألقاها الخميني بهذا الشأن، تفجرت تظاهرات واسعة النطاق ضد نظام الشاه وجرت مصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الجيش، قتل فيها الآلاف، حسب التقديرات الرسمية. وقد اعتقل الخميني في هذه الأيام ونفي الى انقره ومنها غادر الى العراق، حيث مكث في مدينة النجف حتى بدأ نظام الشاه يترنح في العام 1978 تحت وطأة الحركات الجماهيرية الضخمة، التي كان للخميني يد طولى في تحريكها.
ومن جديد برز الخميني في صورة الرمز الموحد لحركة الجماهير، طوال الأشهر، التي سبقت انتصار الثورة النهائي، عندما كان طُرد من العراق الى منفاه الفرنسي في ضواحي العاصمة باريس.


كأس السم

يوم عاد آية الله الخميني من منفاه الى طهران، في الأول من شباط 1979 كانت الثورة الشعبية في إيران تهز العالم هزاً، وحين وطأت قدماه ارض المطار، كان آخر حجر من إمبراطورية "ملك الملوك" يسقط تحت أقدامه. فقد أدى قتال مرير في شوارع طهران، ولثلاثة أيام متتالية، الى تخلي آخر حكومة للشاه، برئاسة شهبور بختيار، عن السلطة، بعد أن كان الشاه نفسه يجوب المنافي مطروداً من شعوب إيران، مع حفنة من أعوانه. وفي الحال أمر الخميني بتعيين مهدي بازركان رئيساً للحكومة الإسلامية المؤقتة. وفي نهاية آذار 1979، وبعد أن جرت عمليات تصفية مشهودة لرموز نظام الشاه من كبار الضباط والمسؤولين، قامت في إيران أول جمهورية إسلامية وصوت الإيرانيون، في ذلك الوقت، لصالح دستور يعطي الخميني صلاحيات وسلطات شاملة ومطلقة، بصفته مرشد الثورة. ولكن سرعان ما كانت إيران تشهد، بعد شهور معدودة، صراعاً دموياً على السلطة، بين قواها المحركة، حسم في النهاية لصالح التيار المؤيد للخميني، بعد أن جرى ضرب القوى والأحزاب العلمانية والديمقراطية واليسارية بقسوة.
وفي حين كانت إيران مشغولة بالصراع الداخلي، وبالأزمة التي اندلعت في أعقاب احتلال الطلبة الإيرانيين مبنى سفارة الولايات المتحدة الاميركية في طهران، كانت القوات العراقية تجتاح، صبيحة الثاني والعشرين من أيلول 1979، أقليم خوزستان، مؤذنة باندلاع الحرب العراقية ـ الايرانية، التي شنها صدام حسين وأسفرت، الى حد بعيد، عن وأد المشروع الطموح لتصدير الثورة، وهو لم يزل بعد غامضاً وعائم المعالم.
لقد استطاعت جيوش إيران وحراس الثورة، المدفوعون بمشاعر وطنية وثورية جياشة، من دحر وإخراج القوات العراقية، من معظم الأراضي الإيرانية، بعد نحو سنتين فقط من اندلاع الحرب، وانتقل القتال الى داخل الأراضي العراقية منذ تموز 1983، إلا أن الحرب لم تتوقف، ذلك أن قدر الحرب، كما يبدو، كان أقوى من قدر الثورة. فقد ظل النظام في بغداد، بعد انقلاب موازين القوى، يدعو لوقف الحرب، طوال سنوات، بيد أن الإمام الخميني كان يصرّ على مواصلتها، "حتى الإطاحة بصدام حسين" وهي الحقيقة، التي لم يكتشف الخميني، أنها كانت مستحيلة، في ظل الاوضاع والموازين الاقليمية والدولية، إلا في منتصف العام 1988، حين أعلن عن موافقته على قرار مجلس الامن الدولي بوقف الحرب، قائلاً إن هذا القرار "كان أكثر مرارة من السم". وإنه لمن مساخر القدر أن يموت الإمام الخميني، بعد اشهر، من تجرعه لذلك الكأس المر، متأثراً بجراحة في جهازه الهضمي!

الصرخة الأخيرة

لقد توفي آية الله الخميني في وقت بدت فيه إيران وكأنها لم تعد بحاجة لقائد من طرازه، فبعد توقف الحرب مع العراق وعودة جيوش إيران الجرارة الى داخل حدودها، عادت الثورة الإيرانية، هي الأخرى، الى حجمها الإيراني، بعد أن كانت أحلام "تصديرها" خارج الحدود، تسيطر على عقول القادة الإيرانيين، وفي مقدمتهم الإمام الخميني.
ومثلما انشغلت التيارات النافذة في إيران بصراعات ما بعد الحرب، وبالخيارات الجديدة المطروحة على مختلف الأصعدة، فقد انشغل الخميني بمهمة الموازنة بين هذه التيارات، في محاولة لمنع ضياع الثورة برمتها، بعد أن ضاعت فرص "تصديرها". في تلك اللحظة، التي عادت فيها الجيوش الإيرانية، دون أن تحقق انتصارها الموعود. ومثلما كان للحرب مع العراق ولنتائجها بالتحديد، ثمنها الباهظ على جبهات القتال، كان لها ثمنها على صعيد الداخل الإيراني. وهكذا سرعان ما برزت الأسئلة على سطح الأحداث وظهرت ملامح المرحلة الجديدة في حياة إيران. فالى جانب المرونة السياسية، التي حلت محل التطرف والتشدد، شهدت البلاد اصطفافات داخلية سياسية واجتماعية، أنبأت بمغادرة مرحلة ما قبل توقف الحرب. وفي هذا المناخ بدت إيران، وهي تودع الإمام الخميني، وكأنها تودع مرحلته برمتها، كما بدت وصيته المتشددة، التي تدعو لمواصلة مقارعة الطغيان والظلم المتمثل بالعديد من أنظمة الدول المجاورة والبعيدة، وكأنها صرخة أخيرة في واد عميق.
في الساعات والأيام القليلة، التي تلت اعلان نبأ وفاته، قيل الكثير حول شخصية الإمام الخميني، مثلما قيل الكثير أيضاً، حول شخصية الخليفة، الذي سيحل محله، وحول أهلية هذا الخليفة ودوره اللاحق في مسيرة إيران، الثورة والدولة معاً، لكن احداً لم يقل ما إذا كان هناك أحد بوسعه أن يشغل مكانة الخميني، الروحية والقدسية، فعلياً؟ وفي الحقيقة ليس هناك من يلعب دور الخميني غير الخميني نفسه. ذلك أنه خلافاً للاعتقاد الوجداني السائد والقائل بتواصل الأفكار والمناهج، لم يترك لنا التاريخ المعاصر مثالاً واحداً على إمكانية استمرار الحضور الملموس لرجال الثورات الكبار، بعد موتهم، إلا بحدود معينة وشكليه، في غالب الأحيان، لأنه، ببساطة، ليس لدى التاريخ غير عدد محدود من المناصب الشاغرة للقادة الكبار والقادة الميامين، وقد كان الخميني، بحق، واحداً من هؤلاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتفال الكاتدرائية المرقسية بعيد القيامة المجيد | السبت 4


.. قداس عيد القيامة المجيد بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية برئا




.. نبض أوروبا: تساؤلات في ألمانيا بعد مظاهرة للمطالبة بالشريعة


.. البابا تواضروس الثاني : المسيح طلب المغفرة لمن آذوه




.. عظة قداسة البابا تواضروس الثاني في قداس عيد القيامة المجيد ب