الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأسيس قاعدة البحث في العقائد

تنزيه العقيلي

2009 / 10 / 31
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لا بد قبل المباشرة بالمباحث العقيدية أن نقرر القاعدة التي ننطلق منها في البحث والاستدلال.

تحديد الموقف من كل من الثنائيات الأربع أدناه:

1. هل نحن واقعيون أم مثاليون؟

2. هل نحن - كواقعيين - عقليون أم تجريبيون؟

3. هل نحن - كعقليين - إلهيون أم ماديون؟

4. هل نحن - إذا قررنا أن نكون تجريبيين - إلهيون أم ماديون؟

5. هل نحن - كإلهيين - عقليون أم نقليون أي وحيويون؟

6. هل نحن - كإلهيين عقليين - دينيون أم غير دينيين (حنفاء)، أم دينيون ظنيون؟

7. أين نحن من الدينية (الدين)، واللادينية الملحدة (الإلحاد)، واللادينية المؤمنة (الإيمان).

8. هل كل الماديين دارونيون، وهل يجب أن يكون الدارونيون ملحدين بالضرورة؟

1. هل نحن واقعيون أم مثاليون؟
المقصود بالواقعية والمثالية الفلسفيتان أو النظريتان منهما، وليس بالواقعية والمثالية العملية أو الأخلاقية، أو السلوكية. فالواقعيون هم الذين لا يشكون بوجود العالم المادي الذي يعيشون فيه. بينما المثاليون يحتملون عدم وجود هذه الماديات إلا في عالم المثال، أي الخيال، كما هو الحال في أحلام المنام أو أحلام اليقظة أو في حالات الوهم أو الهلوسة، ومن هنا لا يكون المثالي مُتيقنا إلا من وجوده هو، باعتباره يعي هذا الوجود، بل وحتى وجوده يحتمل أن يكون محض وجود مثالي، أما وجوده المادي، فمن الممكن بالنسبة له أن يكون محض خيال من خيالات نفسه الممثلة لوجوده المثالي أو الروحي. ويسمى المثاليون أيضا ب(اللاشيئيين)، لعدم إيمانهم أو عدم يقينهم بالعالم الواقعي، أي بوجود الأشياء المادية.



بالرغم من أننا لا نستطيع أن نقول بشكل قاطع بأن القول بالوجود المثالي على ضوء المثالية الفلسفية هو من الممتنعات العقلية، على ضوء العقل الفلسفي المحض، ولكننا نجد بوضوح أن المفكرين عبر تاريخ الإنسانية يكادون كلهم، إلا في حالات استثنائية نادرة جدا، قد رتبوا الأثر على إيمانهم بالوجود الواقعي، أي المادي مما هو مُدرَك بالحواس، وغير المادي مما هو مُدرَك بالعقل والأحاسيس والانفعالات والتفاعلات النفسية، بل حتى أولئك قد وقعوا في التناقض، عندما كتبوا وألفوا وحاضروا لأناس، يفترض ألا وجود لهم في الواقع بحسب نظريتهم.



والواقعيون لا ينكرون على الأعم الأغلب عالم المثال، حتى لو كانوا ماديين، فهم يقرون بالانفعالات النفسية، وإن حاولوا أن يفسروها تفسيرا ماديا، بينما المثاليون ينقسمون إلى من ينكر الواقع، أي عالم المادة، وإلى من يرى أن الواقع، أي عالم المادة غير ثابت التحقق بالضرورة، أي غير يقيني التحقق، فهم يحتملون وجوده وعدمه، باعتباره من الممكنات، وليس من الممتنعات العقلية، ويمكن نعتهم فيما يتعلق الأمر بالوجود المادي الواقعي باللاأدريين.

2. هل نحن - كواقعيين - عقليون أم تجريبيون؟
التجريبيون هم الذين لا يرون مصدرا للمعرفة الإنسانية إلا التجربة، أي ما يُدرَك بالحواس، أما العقليون، فهم في الوقت الذي لا ينكرون فيه التجربة كمصدر للمعرفة، بل يعتبرونها مصدرا معرفيا مهما، لاسيما في ميادين علوم الطبيعة، كما في ميادين أخرى، إلا أنهم يؤمنون بمصدر آخر أساسي للمعرفة، ألا هو العقل، في الوقت الذي ينكر فيه التجريبيون العقل كمصدر للمعرفة، كما مر.



ويرى العقليون إن إثبات التجريبيين لصدق مقولة حصر مصادر المعرفة بالتجربة، يكاد يكون مستحيلا، لأن التجريبيين إنما يناقضون أنفسهم، إذا أرادوا أن يثبتوا التجريبية بالدليل العقلي. لأنهم إذا أقروا بالدليل العقلي، فيجب عليهم الالتزام بالعقلية كمنهج للاستدلال، فيكونون عندها عقليين، ولم يعودوا تجريبيين، وهنا لا بد لهم من التخلي عن القول بالتجريبية، أي حصر مصادر المعرفة بالتجربة. أما إذا أنكروا المنهج العقلي، فلا يجوز لهم استخدامه في إثبات التجريبية، لأنهم إنما يستخدمون الدليل العقلي في إثبات عدم صلاحية الدليل العقلي، أي يستخدمون الطريقة العقلية في نفي العقلية، ويستحيل للشيء أن ينفي نفسه، لأن هذا هو التناقض الممتنع عقلا. وأما إذا ما استخدموا الدليل التجريبي، لإثبات التجريبية، فهذا يسمى بالدور، أي إثبات الشيء بنفسه، والدور محال منطقيا كما هو معروف. ونقول إنهم يقعون في مغبة الدور المحال منطقيا، لأنهم يستخدمون الدليل التجريبي في إثبات صلاحية الدليل التجريبي. فكما نرى لا يصح إثبات الشيء بنفسه ما زال بعد محتاجا إلى دليل من خارجه، كما لا يصح إثبات عدم الشيء بنفسه، لأنه إما أن يكون باطلا فلا يصح استخدامه في الاستدلال، وإما يكون ثابتا عند من يدعي بطلانه، وهذا هو التناقض من جديد، وهو يشبه ما يقع فيه الوحيويون أو النقليون من الدينيين، عندما يريدون إثبات صدق الوحي بالوحي أو بما يعتبرونه هم وحيا.

3. هل نحن - كعقليين - إلهيون أم ماديون؟
الإلهيون يؤمنون بعالمين، عالم المادة، وحسب المصطلح القرآني عند المسلمين عالم الشهادة، وعالم ما وراء المادة، أي عالم الميتافيزيقا، أو حسب المصطلح القرآني عالم الغيب. وإن كان لا يمنع من أن يكون من الإلهيين غير الدينيين من هم مثاليون، باعتبارهم يؤمنون بعالم المثال وجوبا أو إمكانا، وفي نفس الوقت يمكن أن يعتقدوا بوجود خالق لعالم المثال هذا. أما الماديون فينكرون عالم ما وراء المحسوسات، أي ما وراء المادة، وبالتالي ينكرون وجود الخالق كعلة أولى للوجود، أي كعلة لا علة لوجودها، كونها واجبة الوجود، وبالتالي وبالضرورة أزلية الوجود.



والقول بإمكان الجمع بين أن يكون الإنسان ماديا وعقليا في آن واحد، ففيه تأمل، وإن كان لا يمكن القطع باستحالته. فالعقلية يُفترَض أن تؤدي بالضرورة إلى ثبوت واجب الوجود، ولكن لا نستبعد وجود طريق استدلال عقلي لا يؤدي إلى هذه النتيجة، وإن كنا نعتقد أن ذلك المنهج العقلي المفترَض لا بد من أن تكون فيه ثغرة ما، لأن العقل لا يملك تفسيرا للوجود، إلا بوجود علة أولى واجبة الوجود، وذلك على ضوء قانون العلية الذي سيرد ذكره. وفي كل الأحوال ليس هناك في هذا المضمار ما هو من غير ثغرة استدلالية بالمطلق، ولكن تبقى ثغرة المدرسة المادية أكبر أضعاف المرات من ثغرة المدرسة الإلهية.

4. هل نحن - إذا قررنا أن نكون تجريبيين - إلهيون أم ماديون؟
الجمع بين التجريبية والإلهية لا يكون إلا عبر وقوع التجريبي الإلهي بالتناقض من حيث لا يشعر، حيث يجمع بين التجريبية التي يفترض أنها مادية لا تعترف بما وراء المحسوس، وبين الوحيوية التي تفترض وجود عالم الميتافيزيقا.

5. هل نحن - كإلهيين - عقليون أم نقليون أي وحيويون؟
لا بد من أن نقرر ابتداءً بأن العقليين الإلهيين، منهم من هم دينيون أو نبويون أو نقليون أو وحيويون، باختلاف المصطلح ووحدة المصطلح عليه، أي مؤمنون بأن الله قد بعث الأنبياء والرسل، وأنزل الكتب، وأوحى لأنبيائه ورسله إيحاءً إلهيا بالدين، ومنهم من هو عقلي إلهي ديني تأويلي، أو عقلي إلهي غير ديني، أو ديني ظني. فبالنسبة للعقليين الإلهيين الدينيين، فهم يؤمنون بمصدرين من مصادر المعرفة الدينية، العقل والوحي، وبالتالي هم لا ينكرون النص الديني، ولكنهم يقولون بالصواب والخطأ العقليَّين فيما هو العقل الفلسفي، وبالحسن والقبح العقليَّين فيما هو العقل الأخلاقي. وهم عندما يؤمنون بالوحي كمصدر ثان للمعرفة العقائدية، فهم يخضعون الوحي للعقل، إما إخضاعا حقيقيا صادقا، أو إخضاعا مُدَّعىً أو مُتوهَّما، باعتبار أن العقل هو من يملك صلاحية إصدار الحكم بصدق أو كذب ما يُدَّعى أنه وحي، والجمع بين العقلية والوحيوية يوجب تأويل كل نص غير عقلي الظاهر تأويلا عقليا، وبتأويل الظاهر غير العقلي من النص الديني بمعنى مجازي، بشرط عدم تكلف التأويل والوقوع في التبريرية. بينما النقليون أو الوحيويون فهم ينكرون للعقل أي دور في الاعتقاد أي في تصديق الدين، ولذا سُمّوا بالمُعَطلة، أي الذين يعطلون دور العقل في الاعتقاد، أو يجعلون للعقل في أحسن الأدوار دورا هامشيا هو أقرب للتبرير منه للتعقل، بحيث يكون العقل مقودا مُتّبِعا بدلا من أن يكون قائدا مُتّبَعا. والوحيويون المسلمون يقعون هنا في تناقض رهيب مع مقولات القرآن كمصدر أساسي للمعرفة الدينية بالنسبة لهم، لأن القرآن ينكر على أتباع ديانات أخرى كونهم وجدوا آباءهم على ملة فكانوا على آثارهم مقتدين. وإلا، إذا ما استثني هؤلاء المسلمون وحدهم من هذه القاعدة، فهذا قول بالجبر، ينافي عدل الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لأنه يكون قد خلق أناسا على دين، فلم يدركوا وجوب مراجعة ما وجدوا عليه آباءهم، وكان آباؤهم صدفة ومن سوء حظهم على دين باطل، فاعتبرهم كافرين مستحقين للعقاب بسبب كفرهم. بينما خلق أناسا آخرين على دين آخر، وهو في هذه الحالة الإسلام، وهم كذلك لم يدركوا وجوب مراجعة ما وجدوا عليه آباءهم، ولكن آباءهم كانوا صدفة وكذلك من دون اختيارهم، ولكن هذه المرة من حسن حظهم، على دين يفترض أنه دين الحق، فاعتبرهم مؤمنين مستحقين للثواب بسبب إيمانهم. وهذا النوع من التفكير واضح فيه التجني على الله سبحانه والتشكيك بعدله، من حيث يشعر معطلة العقل أو من حيث لا يشعرون. لكنهم لا يعترفون بشرعية هذا الاستدلال، لأن منهجهم الوحيوي النقلي النصي اللاعقلي ينفي قاعدة الحسن والقبح العقليين، ومن هنا يكون العدل الإلهي عندهم عدلا لا بحكم العقل، بل بحكم الوحي، فقاعدتهم مفادها ما يفعل الله فهو عدل، وما يأمر الله به فهو حسن، والصحيح أن العقل وحده هو من يستطيع فحص ما إذا كان ما ورد في نصوص دينية ما، هو حقا مما فعله، أو يفعله، أو سيفعله الله، أو مما يريده الله فعلا أو تركا، أمرا أو نهيا، وإلا فالاستدلال على صدق وحي ما أو كتاب مقدس ما بنفس ذلك الوحي أو الكتاب المقدس، أو ما يعتبرهما أتباعهما وحيا أو كتابا مقدسا، هو من الدور المحال عقلا، كما مر. وفي الواقع إن جميع المسلمين – بما فيهم العقليون -، لا بل جميع الدينيين هم بدرجة أو بأخرى من المعطلة، أي من المعطلين، أو في أحسن الأحوال المهمشين لدور العقل.



وفي كل الأحوال إن تحديد الموقف من قبل الإلهيين، ما إذا كانوا نقليين أم عقليين، يختلف في مرحلتي ما قبل ثبوت الدين، عما هو في مرحلة ما بعد ثبوت الدين، مع إن ثبوت صدق الدين لا بد أن يكون بدليل من خارج الدين، ألا هو العقل، وإلا كما قلنا عن التجريبيين المنكرين لكون العقل مصدرا للمعرفة الإنسانية العامة إلى جانب التجربة؛ فالقول بثبوت صدق الدين بدليل ذات الدين المطلوب إثبات صدقه، إنما هو الدور المحال منطقيا. ولكن مشكلة هؤلاء إنهم لا يُعوِّلون على المنطق والفلسفة وكل أدوات العقل، أو إذا عولوا عليه، لوَّوه ليّا عنيفا باتجاه إقرار ما يعتقدون. وهم كذلك كالتجريبيين يقعون أحيانا في التناقض باستخدام أدلة عقلية في إثبات بطلان الاستدلال بالعقل على صدق الدين.

6. هل نحن - كإلهيين عقليين - دينيون أم غير دينيين؟
الإلهيون العقليون الدينيون يؤمنون بمصدرين للمعرفة الدينية، العقل والوحي، بينما الإلهيون العقليون غير الدينيين لا يُعوِّلون على النص الديني، بل على العقل الفلسفي الموصل إلى الإيمان بالله، وحياة ما بعد هذه الحياة، وعلى العقل الأخلاقي الموصل إلى السلوك الإنساني الحسن، فهم يؤمنون بالعقل كمصدر للمعرفة الإيمانية، ولا يُقرّون بالوحي، إلا إذا ثبت لهم صدق الوحي باليقين القاطع، أو الظن المتاخم لليقين. ولكن هناك فريق ثالث من العقليين الإلهيين، هم المؤمنون الظنيون، الذين يحصرون يقينهم بالواجبات العقلية من مقولات أي دين، وقد يؤمنون من المقولات الدينية بالممكنات العقلية على نحو الظن، لا اليقين، وقد يرتبون الأثر على الإيمان الظني، أو يسلكون طريق الاحتياط، بحيث تكون أعمالهم صحيحة مع احتمال صدق الدين، ومع احتمال عدم صدقه، أي يتعبدون على المذهب الظني، الذي سيوضح هذا الكتاب أسسه ومعالمه، ليبقي الباب مفتوحا أمام الظنيين، كي لا يحرموا من التدين بما هو نافع من الدين، ومن أجل ألا يؤدي عدم حسمهم بالضرورة إما إلى الالتزام الممزوج بالشك، ولعله الموحي لهم بالوقوع في مطب النفاق، مما يسبب لهم شعورا من عدم الارتياح، والذي بدوره يفرغ عبادتهم من روحانيتها، وإما إلى عدم الالتزام، الذي قد يجعلهم في حالة من تأنيب الضمير، من خلال التخلي عما يحتملون وجوب الالتزام به. فهم باختصار أولئك الموقنون بالله الذين لا يملكون دليلا على صدق الدين من جهة، لكن دون دعوى امتلاك الدليل على عدم صدقه من جهة أخرى.

7. أين نحن من الدينية (الدين) واللادينية الملحدة (الإلحاد) واللادينية المؤمنة (الإيمان) على ضوء مصدر المعرفة لكل منها: الوحي، التجربة، العقل؟
الدعوة إلى الإيمان بالله، وكل ما يرتبط به من الثقة به سبحانه، والرضا برضاه، والتوكل عليه، والحب له، واستشعار المسؤولية بين يديه، وإظهار الندم له عند الخطأ تجاه الناس، والتوبة إليه، واستغفاره، وشكره على نعمه، وتسخيرها لخير النفس وخير الآخرين، والتخلق بالخلق الإنسانية، من الصدق، وحفظ الأمانة، وحب الخير للناس، والوفاء بالعهد، ومعاملة الآخرين بما يحب المرء أن يعامَل به، والعدل، والرحمة، والعطاء، ومد يد العون لمن يحتاجه مع القدرة، والعفو والتسامح، والإصلاح بين الناس، ونشر السلام، وإلى غير ذلك، مرتبطا بالإيمان بالله سبحانه، هذه الدعوة مع التطبيق لمفرداتها ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلا أمر مهم لخير المجتمع الإنساني، وفيه رضا لله سبحانه وتعالى، ولذا إذا تحقق كل ذلك حتى عند من لم يقتنع بأي من الأديان، ربما يكون في كثير من الأحيان، وليس في كلها، أفضل من الانفصال عن الله بسبب الانفصال عن الدين، أي دين كان، إما بسبب عيب في ذلك الدين، مما يكون سببا للإيمان بأنه ليس دين الله، أو بسبب فهم خاطئ وتطبيق سيئ له، ومن هنا يؤسس هذا المذهب للطريق الرابع، لمن يريد أن يرتبط بالله دون الارتباط بدين من الأديان، ولا حتى على مستوى أطروحة المذهب الظني، وفي نفس الوقت لا يريد الابتعاد عن الله بسبب الابتعاد عن الدين، وهذا تطبيق لمقولات ثابتة عن رسول الإسلام وأئمة أهل بيته، وعن أنبياء ورسل آخرين، كـ «لا تنظروا إلى صلاتهم وصيامهم، بل اختبروهم في صدق الحديث وأداء الأمانة»، و«أقربكم إليَّ يوم القيامة أصدقكم حديثا وأداكم للأمانة وأحسنكم خلقا»، و«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، و«الصدق رأس الدين»، و«ينادي منادٍ يوم القيامة: من له حق على الله فليقم، فيقوم العافون عن الناس، فيقال لهم ادخلوا الجنة بغير حساب»، و«عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة، قيام ليلها وصيام نهارها، وجور ساعة شر من معاصي ستين سنة»، و«إنما الدين المعاملة». إذن الإيمان ببعده الروحي أو العرفاني كعلاقة بالله، وبعده الأخلاقي الإنساني كعلاقة بالإنسان، نافع دنيويا وأخرويا في كل الأحوال، ولذا نجد أن المؤمن بدين ما أو بمذهب يحترم إيمانه، ولكن لا ينبغي أن يكون أنانيا، عندما تتحول هويته الدينية إلى جزء من ذاته، فلا يحب للناس أن يكونوا إلا مؤمنين وفق عقيدته الدينية، ومن لا يكون كذلك فهو غير مؤمن، أي من ينعته بالكافر، بكل ما تختزن الكلمة من انفصال نفسي وفكري لا يخدم البشرية ولا يخدم فكرة الإيمان بمعناها الواسع وأفقها الرحب. ومن هنا نقول إن الخيارات للإنسان في علاقته بالدين ليست محصورة بخيار واحد، هو الإيمان والالتزام بدين من الأديان السائدة، أو الكفر بالدين وبالله، أو الانتساب إلى دين موروث دون ترتيب أثر من التزام، أو حتى الإيمان والالتزام على ضوء ما تطرح نظرية المذهب الظني أو العقلي-التأويلي، فيمكن أن يكون الخيار الرابع هو خيار التفكيك بين الإيمان والدين، والأخذ بلوازم الإيمان دون لوازم الدين، وهذا ربما لا يكون من قبيل ما ذكر في القرآن: «أفتؤمِنونَ بِبَعض الكِتابِ وَتكفرونَ ببَعض»، لأن هذه الازدواجية التي يرفضها محمد في قرآنه ويدينها ويتوعد أصحابها بقول «فما جَزاءُ مَن يَفعَلُ ذالِكَ مِنكم إلا خِزيٌ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَيَومَ القِيامَةِ، يُرَدّون إلى أشَدِّ العَذابِ، وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعمَلونَ»، فهذا وفي ضوء الضرورة العقلية للعدل الإلهي لا يمكن أن يكون صحيحا، إلا بالنسبة لمن يُجزّئ الإيمان والالتزام عارفا بذلك، من أجل تحقيق مصالح أنانية، تؤدي إلى التجاوز على حقوق الناس وكرامتهم وحريتهم وسلامهم وأمنهم، بالدرجة التي تجعله مستحقا لكل ذلك الوعيد. وبالتقسيم أعلاه لا ننفي، بل نؤكد موقنين، قرب نوع من الملحدين من الله سبحانه، وذلك بمقدار ما تحلّوا به من بعد إنساني في شخصياتهم وسلوكهم وتعاملهم مع الناس، لاسيما إذا كان إلحادهم قد حصل قصورا، بسبب شبهة، وليس معاندة ومكاندة لله عن علم وقصد، ومكابرة من أنفسهم.

8. هل كل الماديين دارونيون، وهل يجب أن يكون الدارونيون ملحدين بالضرورة؟
بعض المعتقدين بعدم وجود الله يستندون في أدلتهم إلى أن علماء الطبيعة أثبتوا نظرية دارون في التطور، إضافة إلى نظرية الانفجار الأول التي تكاد تكون هي الأخرى من المسلمات العلمية، مما ينفي بحسب اعتقادهم نظريات الخلق التي تطرحها الأديان. وواضح الخلل في هذا الاستدلال، وذلك لعدة اعتبارات؛ أولا إنهم استندوا إلى ما تعرضه الأديان من قصة الخلق عموما وخلق الإنسان خصوصا، مما أصبح يتعارض بالضرورة مع الحقائق التي توصلت إليها علوم الطبيعة، وثانيا إنهم يستندون في ذلك إلى العهدين القديم والحديث ويعممون مقولاتهما على كل الأديان، وثالثا ومع فرض إثبات عدم صدق العرض الديني لقصة الوجود، فهذا يثبت في أقصى الحالات عدم إلهية مصدر تلك الأديان، وعدم صدق دين ما، أو حتى مع فرض ثبوت عدم صدق كل الأديان بلا استثناء، لا يصح دليلا على عدم وجود الله، وخامسا ليس هناك من تلازم بين صدق نظرية التطور الدارونية (Darwinism) أو (Evolution)، وصدق نظرية نفي وجود الله، أو ما يسمى بالإلحاد أو اللاإلهية (Atheism)، فليس كل داروني ملحدا، ولا كل ملحد دارونيا. كما إن ليس كل إلهي دينيا، وإن كان كل ديني إلهيا. هنا نكتفي بنفي التلازم، وللبحث تفصيل في موقع آخر.



كتبت عام 2007

روجعت في 29/10/2009










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية


.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟




.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي




.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ