الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العقل والدين والإيمان

تنزيه العقيلي

2009 / 11 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كتبت هذه المقالة في وقت كنت أؤمن فيه بالدين، إلا أني كنت أحاول أن أؤوله تأويلا عقليا، وعقلانيا، وإنسانيا، وكان ذلك بالضبط في بداية تأسيسي لما أسميته بـ «تأصيل مرجعية العقل» كمهج لفهمي وتدريسي لمادة العقائد فيما يسمى بالحوزة العلمية. ثم راجعتها بعد تحولي التحولات الثلاث التالية، ألا هي «المذهب الظني»، ثم «التفكيك بين الدين والإيمان»، وأخيرا «عقيدة التنزيه». مع هذا وجدت في هذه المقالة، التي كتبتها قبل اثنتي عشرة سنة ما يصلح نشره في إطار سلسلة مقالات (تنزيه العقيلي) على «الحوار المتمدن» بعد مراجعة أخيرة.

أعني بالعقيدة العقيدة الدينية أو الإيمانية، أي بحوث عالم الميتافيريك، أو الوجود أو الوجودات والحقائق المفترضة لما وراء الطبيعة. هذه العقيدة لا بد من طرحها على القواعد والقوانين العقلية في التفكير والاستدلال، من أجل الحكم عليها بالقبول أو الرفض. هذه رؤية أتبناها ويبتبناها الإلهيون العقليون، سواء كانوا دينيين عقليين أو لادينيين. وهناك من الدينيين النصيين من يرى وجوب فهم العقيدة حصرا على ضوء النصوص الدينية، أي نصوص الوحي، المباشر منه (القرآن، العهدان القديم والجديد)، وغير المباشر (السنة والحديث والرواية، التقاليد الكنسية). وكذلك هناك من الماديين اللاإلهيين من يرى أن هذه القضايا هي حصرا من شأن العلم التجريبي، وليس من شأن الدين ولا الفلسفة، ويعتقدون بثبوت نفي العلم لما وراء الطبيعة.

وكمدخل للموضوع نسأل أولا: ما هي العلاقة بين العقيدة أي الدين أو الإيمان من جهة، والعقل من جهة أخرى، ثم نتبع ذلك بسؤالين: ما هي مصادر المعرفة للإنسان؟ ثم ما هي أهم القواعد والقوانين العقلية التي نحتاجها في فهم العقيدة؟

العلاقة بين الدين والعقل
هناك ثلاثة اتجاهات في كيفية التعامل مع الدين (أو عموم الإيمان)، فيما يتعلق بدور العقل في ذلك، أضيف إليها بعد تبلور ملامح المذهب الظني اتجاها رابعا، يمكن اعتماده من قبل المؤمنين الدينيين الظنيين، أو العقليين-التأويليين-الظنيين، أو اللاأدريين الدينيين، أو كذلك من قبل المؤمنين التفكيكيين أي الإلهيين اللادينيين:
1. اتجاه يقول: لا علاقة للعقل بالدين، بل يجب الإيمان والتسليم بالدين بدون طرحه على العقل واستدلالاته، لأن قياس الدين على إدراكات العقل قد يؤدي إلى بعث الشبهات، ثم الانحراف عن العقيدة مما يعني الكفر. وهو اتجاه لا يمكن القبول به، لأن إلغاء دور العقل في هكذا قضية حساسة ومصيرية ومؤثرة ليس قرارا مرفوضا من وجهة نظر العقل وحده، بل هي مرفوضة أيضا من وجهة نظر الدين، على أقل تقدير في الإسلام، لاسيما على ضوء فهم المدرسة العقلية، فيما يطرحه الإسلام في قرآنه، بقطع النظر عن المفارقات ولعله التناقضات فيه، حيث يأمر الإنسان في العديد من نصوصه أن يُعمِل عقله، وينهاه عن الاتباع الأعمى لما يجده بين يديه من موروث ومشهور.
2. اتجاه آخر يقول: كل ما في الدين يُطرَح على العقل، فما قبله العقل، يؤخذ به، وما لم يقبله العقل، يرفض ويهمل، فالعقل هو طريق التعرف على الدين في أصوله وفي فروعه، أي عقيدة وشريعة وأخلاقا. وقد يُشكـَل على هذه الاتجاه كونه يشمل الشريعة، مما يعتبره الاتجاه الثالث ليس من اختصاص العقل، لأن الالتزام بها أمر تعبدي، بعد ثبوت صدق العقيدة التي تتفرع الشريعة عنها. وهذا ما نناقشه عند ذكر الاتجاه الثالث.
3. الاتجاه الثالث يؤيد ذلك من حيث المبدأ فيقول: صحيح أن للعقل الدور الأساسي والأول في فهم العقيدة والاستدلال على مدى سلامتها، ومن ثم الإيمان بها والالتزام بتشريعاتها وقيمها. ولكن هناك في العقيدة ما هو عقلي، أي من اختصاص العقل وقوانينه وقواعده، ولكن العقل لا يستطيع أن يحكم على جميع التفاصيل، بل يدرك أن هناك ما هو ليس من اختصاصه، ليكون هو الحاكم عليه، وهذا يبدو للوهلة الأولى أو هو حسب ما يزعم دعاته، الموقف الوسط بين الموقفين؛ بين موقف تعطيل وشل العقل كما هو الحال في الاتجاه الأول، وموقف إناطة صلاحيات غير محدودة للعقل للبت في كل شيء.
4. الاتجاه الرابع يقول يناقش الاتجاه الثالث آنفا، بأنه صحيح يبدو في الوهلة الأولى أنه يمثل عين التعقل والعقلانية، لأن العقل تكون له كلمة الفصل في الأساسيات، لكنه يدرك أن هناك مجالات فيما هي التفاصيل ليست من اختصاصه. ولكن لو تأملنا في الموضوع جيدا، نجد أن المنهج الثاني هو الأقرب للصواب، لأنه يميز بين ما هو واجب عقلي، وما هو ممكن عقلي، وعندما يوسع مساحة صلاحياته، فلا يعني أنه يرفض كل ما هو ليس بواجب عقلي، بل قد يتوقف عند الممكنات، لحين استكمال البحث عن العناصر المؤدية إلى ترجيح تلك الممكنات، أو رفضها، أو تأويلها، إذا بدت شديدة الغرابة، وإن كانت ممكنة عقلية بحكم العقل الفلسفي، أو لعله العقل الأخلاقي، وأصحاب الموقف الرابع، هم الذين يتوسطون موقعهم بين الموقف الثاني والثالث، وقد يكونون أقرب إلى أحدهما، أي إلى الثاني، أو إلى الثالث، بحسب ما يكون الظن بصدق الوحي عندهم راجحا أو مرجوحا عليه، فكلما ارتفعت نسبة رجحانه اقتربوا من الموقف الثالث، وكلما انخفضت اقتربوا من الموقف الثاني. أما دعوى أن الإنسان يحتاج بضرورة العقل إلى الوحي الذي ينبئه بتشريعات الله له، والذي هو سبحانه أدرى من الإنسان بصالح دنياه وآخرته، ويستدل أصحاب هذا الرأي على صحته بواقع الاختلاف بين أهل العقل - العملي لا الفلسفي - في تحديد الراجح والمرجوح في دائرة المباحات الأخلاقية المحايدة دينيا، فإن هذا الاستدلال قد يبدو في الوهلة الأولى سليما، إلا أنه سرعان ما ينهار أمام واقع اختلاف الفقهاء في جل المسائل، وذلك بدرجة قد تفوق اختلاف العقلاء فيما بينهم. فالفقه إذن لم يعالج الاختلاف بين الناس، وبالتالي يفقد مبرره من هذه الزاوية، أي من زاوية النظر إليه فيما يشتمل على فائدة معالجة الاختلاف، هذا ناهيك عن الاختلافات بين الأديان والمذاهب في الإسلام أو الكنائس في المسيحية، وبين المدرس الدينية والفرق والنحل. وأما هاجس أن استخدام العقل بلا حدود يمكن أن يؤدي إلى الانحراف عن الدين، الذي يثبت بالنص المقدس (الوحي) وحده عند البعض، وثبت عند بعض آخر بالعقل والوحي، يرد بأنه حتى لو خالف الدين، ناهيك عن كون مخالفة الدين قد تكون هي المطلوبة إيمانيا وإلهيا، لكونها قد تمثل عين الاستقامة والاهتداء، ولكن مع فرض أن مخالفة الدين تمثل انحرافا وضلالا، فهي ليست مخالفة بالضرورة للإيمان، الذي يثبت بالعقل المجرد والمحايد مضموما إليه الفطرة الإنسانية، وبالتجرد من مسلمات مسبقة أقرب إلى الصواب، إضافة إلى حقيقة أن الله يثيب الإنسان على صدقه إلى جانب إنسانيته فيما توصل إليه، ولا يعاقبه على خطئه، بسبب قصور فيه، وليس تقصيرا منه أو عنادا أو اتباعا للهوى المعبر عن الأنانية. فهو انطلق فيما توصل إليه من منطلقات صحيحة ومحببة عند الله سبحانه، حتى لو توصل إلى نتائج خاطئة، فالله كما يزن عمل الإنسان بمعيار النية، إنما يزن فكره وقناعاته وعقيدته بمعيار منطلقاته إضافة إلى كل المؤثرات الذاتية والموضوعية، ومعيار الجزاء الإلهي عندي وبحكم ضرورات العقل الفلسفي هو درجة الاستقامة الإنسانية للإنسان، وليس إيمانه أو كفره. والقرآن، إذا ما سلمنا أنه من تأليف الله – تعالى بكماله عن موارد النقص في القرآن-، فهذا القرآن مع فرض إلهيته، يدين الذين يتبعون آباءهم اتباعا أعمى في ثمانية مواضع:

1. وَإِذا قيلَ لَهُمُ اتَّبِعوا ما أَنزَلَ اللهُ، قالوا بَل نَتَّبِعُ ما أَلفَينا عَلَيهِ آباءَنا، أَوَلَو كانَ آباؤُهُم لا يَعقِلونَ شَيئاً وَّلا يَهتَدونَ.
2. وَإِذا قيلَ لَهُم تَعالَوا إِلَى ما أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسولِ، قالوا حَسبُنا ما وَجَدنا عَلَيهِ آباءَنا، أَوَلَو كانَ آباؤُهُم لا يَعلَمونَ شَيئاً وَلا يَهتَدونَ.
3. وَإِذا فَعَلوا فاحِشَةً قالوا وَجَدنا عَلَيها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها، قُل إِنَّ اللهَ لا يَأمُرُ بِالفَحشاءِ، أَتَقولونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعلَمونَ.
4. قالوا أَجِئتَنا لِتَلفِتَنا عَمّا وَجَدنا عَلَيهِ آباءَنا وَتَكونَ لَكُمَا الكِبرِياءُ فِي الأَرضِ، وَما نَحنُ لَكُما بِمُؤمِنينَ.
5. إِذ قالَ لأَبيهِ وَقَومِهِ ما هذِهِ التَّماثيلُ الَّتي أَنتُم لَها عاكِفونَ، قالوا وَجَدنا آباءَنا لَها عابِدينَ، قالَ لَقَد كُنتُم أَنتُم وَآباؤُكُم في ضَلالٍ مُّبينٍ.
6. إِذ قالَ لأَبيهِ وَقَومِهِ ما تَعبُدونَ، قالوا نَعبُدُ أَصناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفينَ، قالَ هَل يَسمَعونَكُم إِذ تَدعونَ أَو يَنفَعونَكُم أَو يَضُرّونَ، قالوا بَل وَجَدنا آباءَنا كَذالِكَ يَفعَلونَ، قالَ أَفَرايتُم مّا كُنتُم تَعبُدونَ أَنتُم وَآباؤُكُمُ الأَقدَمونَ، فَإِنَّهُم عَدُوٌ لّي إِلاّ رَبَّ العالَمينَ.
7. وَإِذا قيلَ لَهُمُ اتَّبِعوا ما أَنزَلَ اللهُ، قالوا بَل نَتَّبِعُ ما وَجَدنا عَلَيهِ آباءَنا، أَوَلَو كانَ الشَّيطانُ يَدعوهُم إِلَى عَذابِ السَّعيرِ.
8. بَل قالوا إِنّا وَجَدنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنّا عَلى آثارِهِم مُّهتَدونَ، وَكَذالِكَ ما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ في قَريَةٍ مِّن نَّذيرٍ إِلاّ قالَ مُترَفوها إِنّا وَجَدنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنّا عَلى آثارِهِم مُّقتَدونَ، قالَ أَوَلَو جِئتُكُم بِأَهدى مِمّا وَجَدتُّم عَلَيهِ آباءَكُم، قالوا إِنّا بِما أُرسِلتُم بِهِ كافِرونَ.

وإذا قيل إن هذه الآيات إنما هي نزلت – على فرض النزول - في الذين كفروا بالإسلام، ولا تشمل المسلمين، لأنهم يدينون بدين الحق، فهذا تشكيك بعدل الله، لأنه استخدام لمعيارين لنفس السلوك، كل ما في الموضوع إن فريقا ولد صدفة على دين يفترض أنه دين حق، والآخر ولد صدفة على دين يفترض أنه دين باطل، لكنه بحسب عقيدة أهله دين حق، فلا هؤلاء أعادوا النظر ولا أولئك، وكل منهما اتبع ما وجد عليه آباءه من دين ومذهب اتباعا أعمى من غير تبين وتثبت من صحة دين أو مذهب الآباء، ولكن خلق فريق جبرا ومن غير اختياره ليكون من أهل الجنة، وخلق فريق جبرا ومن غير اختياره ليكون من أهل النار، فيكون الله قد ظلم أحد الفريقين بذلك، والله بحكم وجوب الكمال المطلق له ووجوب تنزهه عن كل نقص وبالضرورة العقلية لا يظلم أحدا أبدا، بل حتى بالضرورة القرآنية إذ «إن الله لا يظلم مثقال ذرة»، و«إن الله لا يظلم الناس شيئا»، «ولا يظلم ربك أحدا»، «وإن الله ليس بظلام للعبيد»، «وما ربك بظلام للعبيد»، «وما أنا بظلام للعبيد». وفي كل الأحوال فإن احتمال وقوع العقل الإيماني المحايد دينيا، بل وحتى العقل اللاديني الملتزم بالإنسانية والعقلانية في الخطأ، لعله أضعف من احتمالات الخطأ من قبل اللاهوت الديني والفقه الديني الجامد على النص.

ثم إن القرآن من جهة يدين ازدواجية المعيار التي يقع هو نفسه فيها، ومن أبرز النصوص التي تدين ازدواجية المعيار ما ورد في سورة المطففين: «ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون». فهل يعقل أن يتوعد الله أهل سلوك ممقوت منه أشد المقت بحسب النص آنفا، والنص القائل: «يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون؛ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما تفعلون»، ثم يمارسه هو، جلّ وعلا وتنزّه عن الكثير مما نسبت إليه الأديان.

كتب الموضوع عام 1997
نقح عام 2007
روجع في 29/10/2009
ثم في 06/11/2009








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية


.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟




.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي




.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ