الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أور زقورة وشواهد تاريخية

صباح مطر

2009 / 11 / 8
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


نستنطق الوهاد المقفرة علّها تبوح بما تخفيه رمالها وتكشف عن مكنونات عبرت عليها الأحقاب فاندرست غائرة في أعماق الأرض تحت مطارق الأزمنة إلا نزر يسير بل نقوله عسير استعصى على تلك المطارق وأعاصير التغيير وموجات الغزاة والفاتحين فبقي شاهداً يحكي قصصه ويشير إلى نقطة الانطلاق حيث ابتدأت مسيرة الحضارة وشيدت المدن وخط بالقلم على ألواح الطين في سابقة جاء بها العقل البشري ليفتح سفر الإبداع وتبدأ مسيرة العلم ....من هنا ، من أور التاريخ وفجره الذي بزغ مشعاً من جنبات هذه الأرض التي وطئتها أقدامنا لأول مرة بعد أن أزمعنا أمرنا وقر رأينا على أن نطفأ الضما الذي استبد بنا طويلاً للوقوف على أطلال أسلافنا ونرى عياناً آثار صروحهم التي شيدت بنتاج عقول كبيرة وإرادة أبقت شواهدها شامخةً لآلاف من السنين ، فهذه الزقورة تحفةً معمارية فنية بنيت بالآجر والقار لتستريح فوقها الآلهة في مكان خاص أتت عليه يد الأيام فأزالته لكنها أبقت على هيكل زقورة أور حيث كان يعبد الإله(نانا) اله القمر عند السومريين .
حينما تقف على سطح الزقورة وتنظر في الأفق فان شيئاً خفياً لا يدعك تتطلع ببصرك إلى البعيد فتبقى مشدوداً إلى هذه الزقورة وما حولها فتأتي ذكريات الماضي البعيد الممتد لخمسة آلاف عام غابر، هنا باحة الاحتفالات بالمناسبات والأعراس كم حنجرة صدحت هنا وزغرودة انطلقت تشق الفضاء وقيثار بعث البهجة في النفوس فتمايلت الصبايا وتهادين مع النغمات ولربما كانت (أور نانشي ) حاضرةً تشنف الأسماع بصوتها الشجي وتبهر النواظر بطول فارع وجسد لولبي أهيف ينسج مع الأنغام وصلةً راقصةً تنشر البهجة وترسل بشائراً ترتسم معالمها على الوجوه الفرحة والصدور المنشرحة والنفوس الهانئة ولربما أطل الملك من قصره القريب على هذه الباحة ولوح بيديه أو أمسك ابن بيت الألواح (المدرسة) –شولكي- الملك الموسيقار قيثارته وعزف مشاركاً أبناء المدينة أفراحهم .
هنا دار الزمان دورته ولم يبقى من القصر الملكي إلا أطلال تحكي عن أول شريعة عرفتها الإنسانية سنها(اورنمو) مؤسس سلالة أور الثالثة وهنا وضع المقياس والمكيال، أوجدهما ابنه الملك شولكي ولو أفصحت ناطقةً تلك المباني الدارسة لقالت الكثير ولأجهشت ناشجة تبكي حال( ابي - سين) حين اقتاده العيلاميون أسيرا.
تثاقلت أقدامنا بالمسير إنا وصحبي ونحن ننظر إلى صنيع السير( برناردو ولي) واجتاحتنا موجة من الحزن قطعت علينا نشوة اللقاء بإرث أجدادنا الغابرين فقد عاث( ولي ) خراباً بهذه الشواخص أثناء تنقيباته وحفرياته العشوائية فإذا بمقبرة العامة تغدو من جراء فعله طامورة كبيرة لا يبدو من معالمها إلا المكان ... إنها كانت هنا والى جانبها المقبرة الملكية خالية من أجساد أهلها فلا شبعاد ولا قيثاراتها وإمائها اللائي تقاسمن معها القبر ولا رفات حبيبها –اباركي- بليت الاجساد وبعثرت القبور وانتهت إلى أن تكون أبنية تصفر فيها الر يح وتحاصرها الرمال الزاحفة و هناك اطلعنا دليلنا على لبنة مشوية كتب عليها بالخط المسماري منجزات الملك الدفين ، دليلنا هذا أعجوبة سومرية أخرى فهذا الرجل الخمسيني ورث حراسة هذه المدينة الدارسة عن أبيه عن جده حدثنا عن أبيه إنه كان أمياً يجيد خمسة لغات أجنبية أما هو فيجيد الانكليزية تماماً ويلم بأربعة لغات غيرها ، يحب عمله ويقوم بدور الدليل والمرشد العارف بكل التفاصيل عن هذه البقعة وسكانها الأولين اقتادنا فيما بعد إلى معبد (–أي-دب لال- باخ) الخاص بالكهنة وقفنا على بقايا المعبد وشطح بي الخيال بعيدا إذ تخيلت بداخله الكهنة والكاهنات وخارجه يتبرك العامة بلثم أعتابه وجدرانه رددت مع نفسي –ولا انا عابد ما عبدتم ولا انتم عابدون ما اعبد- لكني سأقبل عتبة معبدكم احتراماً لعقولكم التي ما فتئت تبحث عن سر الوجود والقوة التي لابد أنها تديره من وراء الغيب حيث لم يتسنى لكم أن تطلعوا على حقيقتها فوجدتني الثم عتبة المعبد وأحسست بنشوة غامرة اجتاحت روحي وألهبت جسدي فلربما وضعت حسناء سومرية شفتاها هنا وهي تغب المعبد مع عريسها أو أخرى أتت ضارعةً إلى الآلهة عسى أن تحضى بعريس وسيم ، أردت أن ألوم نفسي مالي هكذا وقد اشتعل الرأس شيبا وفرضت علي الكهولة أحكامها فعرفت أنها نشوة اللقاء بجذوري الممتدة عميقاً هنا أو انه الزهو قد انتابني فوجدت لساني يردد ما قاله همام ابن غالب ابن صعصعة
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وعلى مقربة من هذا المكان ساقتنا أقدامنا إلى بقايا دار لابد أنها كانت قصراً منيفاً ظنناها دار سيدنا إبراهيم التي كثيراً ما سمعنا عنها إلا إن دليلنا الحارس فاجئنا بمعلومة هو واثق منها أن ليس هناك ما يؤكد عائدية هذه الدار لإبراهيم الخليل (ع) وإنما يحدثنا التاريخ انها دار لأحد العظماء لا يعرف من هو !!ذهب عني الشعور بقدسية المكان وزاد في ذلك شكله الذي بدا مفرغاً من تاريخيته حيث أن ترميمه قبل ما يربو على تسع سنين استعداداً لزيارة البابا التي لم تتم قد جعل من الدار كأنها بنيت حديثاً وليس أثراً عمره آلاف السنين فأكثر ما استحوذ على انتباهي وأذهلني في تلك الدار انبوباً من الفخار يخترق الأرض في الوسط عرفت فيما بعد انه انبوباً للصرف الصحي قد يكون متصلا بشبكة للتصريف يستخدمها القوم قديماً ! انها دار جميلة بأبوابها المقوسة وخطوطها المستقيمة وباحتها والفناءات والغرف وأجمل من ذلك شعور باغتني يقول انه ربما ها هنا أغيث الملهوف في يوم ذي مسغبة واطمئن الخائف واجتمع العشير تحت ظل سقوفها الظليلة وان تكن ملكية الدار غير مؤكدة فما هو مؤكد إن طارح استبشر هنا في أور قبل ما يقرب من أربعة آلاف عام بميلاد ابن له لم يكن يعرف انه سيكون أبا الأنبياء وخليل رب العباد .
وقفنا في المكان لنعب المزيد من عبق الماضي السحيق ونحن نستمع إلى ما يرويه أبو أشرف الحارس (ضايف محسن)انه سومري من أهل هذا الزمان التصق باور فتشربت روحه حباً لكل شيء فيها من ذرات رمالها إلى زقورتها الشامخة وتؤكد ذلك ملامحه المعبرة وسحنته التي اكتست بلون الأرض وما عليها من بقايا أطلال دور ومعابد عمرها أهلها قديما لثلاث آلاف وخمسمائة عام ثم صمتت قيثاراتهم فلم يعد يسمع لها صدى فلا نغم جميل يصدح ولا صوت إلا صليل أو صهيل ودك سنابك أحالها إلى خراب لا يجدي معه النواح ولا رثاء الراثين لأور التي استوطنت ذاكرة التاريخ.
-








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة سقوط موظف طيران من باب طائرة إيرباص


.. نيويورك تايمز: المنطقة الإنسانية في غزة مكتظة ولم تسلم من ال




.. صاحب مطعم سوري في غزة: نحن جوعى ولا توجد مساعدات


.. بن غفير: بالنسبة لوزير الدفاع الإسرائيلي لا فرق بين جنود الج




.. وكيل وزارة الخارجية البحرينية للعربية: ملف غزة من أولويات ا