الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العالم بدون كلود ليفي شتراوس

فتحى سيد فرج

2009 / 11 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يوم السبت 31/10/2009 توقف قلب العالم لوفاة "كلود ليفي شتراوس Claude Lévi-Strauss" المثقّف الفرنسي الأكثر تأثيراً في العالم عن عمر يناهز 101 عاما، عاش حياته بين الطواطم والأيقونات، باحثاً في الأطراف النائية عن المركز الأوروبي، عن جوهر الإنسانيّة في أساطير الشعوب، مسيرة فكريّة وعلميّة فريدة، تشكّلت ضد مطلقات الرجل الأبيض، رحل الفيلسوف الأخير للقرن العشرين في باريس، ودفن ولم تُعلن وفاته رسمياً إلا مساء الثلاثاء 3/11/2009.
فهمنا للعالم قبل ليفي شتراوس مختلف تماما عن العالم الذي انبثق من كتاباته، فلقد أسهم شتراوس بصورة كبيرة في تغيير الطريقة التي ينظر بها الناس بعضهم إلي بعض‏,‏ ونجح في كسرالنظريات التقليدية المتبعة في تحليل الأساطير وبالتالي شرح الحضارات القديمة‏،‏ كما كرس الكثير من اعماله للدفاع عن المجتمعات البدائية وتغيير نظرة الغرب المتعالية ازائهم‏.‏ استطاع أن يؤسس لمنظومة فكرية جديدة في رؤيته للإنسان حتى أصبح أبا شرعيا لعلم الأنثروبولوجيا الحديث وأحد الرواد الكبار للبنيوية، إن شتراوس علمنا أن نرى ونسمع ونشاهد بطريقة مغايرة من خلال شغفه بالحياة البدائية ودرسها وشرّح خلفيتها، وحاول رسم خريطة لبنيتها العميقة، وقارن بين بنية أساطير الهنود والأساطير اليابانية، كونه أحد المغرمين بالحضارة اليابانية، ووصل إلى نتائج علمية ترى أن ثمة بنية واحدة تربط الأساطير البشرية، وأن هناك تشابها في الذهنية البشرية يمكن ملاحظته، من خلال عقد مقارنات بين هذه الأساطير التي تعبر عن مخاوف الإنسان وحاجاته ورغباته ومكبوتاته، وقد درس شتراوس الحضارات بعلمية ودقة ووصل إلى نتائج معاكسة لتلك التي قام عليها الاستعمار، ورأى شتراوس أن الشعوب في تركيبتها الأساسية، ليست مختلفة بالدرجة التي تم تصويرها، بل إنه كسر العنجهية الغربية المتعالية حين قال: «إننا جميعا في أعماقنا بدائيون بطريقة أو بأخرى».
ربما تكمن عبقرية شتراوس في موسوعيته المعرفية، فمنذ صغره وشبابه، كان ليفي شتراوس طالبا متميزا تفوق في مجالات الجيولوجيا والقانون والفلسفة والموسيقى وأوفد الى البرازيل استاذا عام 1935، حيث اكتشف موهبته في الانثروبولوجيا او ما يعرف بـ"علم الانسان"، وقاد ليفي شتراوس عدة بعثات علمية الى مناطق نائية في غابات الامازون لدراسة عادات وتقاليد القبائل المحلية والمجتمعات التقليدية وبدأ يطور نظريات ومناهج أصبح لها فيما بعد أثر هائل على مجال عمله .
وفي أواخر الثلاثينيات رجع شتراوس إلي فرنسا وشارك في المجهود الحربي إلا أنه اضطر للهروب إلي الولايات المتحدة خوفا من الاضطهاد العنصري في ظل حكومة فيشي‏، ‏وفي نيويورك تأثر شتراوس كثيرا بعالم اللغويات المعروف رومان جاكسون صاحب نظرية البنيوية في اللغة وكان لقاءه بجاكسون لقاء حاسما غير مجري حياته‏،‏ فقد كشف له جاكسون عن أنه يمكن دراسة المجتمع كما تدرس اللغة‏،‏ فعادات المجتمع وتقاليده هي أيضا لغة وترمز إلي شيء آخر يقبع تحتها او خلفها هو‏:‏ البنية، وهكذا وضع شتراوس الأساس لاستحداث البنيوية في الانثربولوجيا حيث يري ان‏ ‏ العقل البشري يتعامل مع وحدات ذات بنية منظمة من المعلومات التي تتشابك لإيجاد نماذج تستخدم احيانا لتفسير العالم الذي نعيش فيه واحيانا اخري لطرح بدائل جديدة او ابتكار ادوات تمكنا من التعامل مع العالم حولنا‏ ‏ وهكذا أصبح لكلمة بنيوية معني آخر لدي ليفي شتراوس‏.‏ فهو يقصد بها ثوابت الطبيعة البشرية أي أن الطبيعة البشرية واحدة علي الرغم من اختلاف الأجناس والمجتمعات البشرية البدائية أو الحضارية‏.‏ ولكن الإنسان هو الإنسان في كل مكان‏.‏ فهو يحب ويكره أو يغبط ويحسد أو يصادق ويعادي في كل مكان‏.‏
وبعد عودة شتراوس من نيويورك إلي فرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حصل علي الدكتوراه و بدأ في نشر سلسلة من الكتب العلمية البالغة الأهمية في مقدمتها‏ ‏ المدارات الحزينة‏ ‏ الذي يعتبر بمثابة تحفته الفنية ويرتكز علي البعثة التي قام بها في شبابه لدراسة قبائل الهنود الحمر في البرازيل‏.‏وخلال الكتاب يقوض شتراوس الاعتقاد السائد حينذاك بان المجتمعات البدائية تفتقر إلي الذكا والخيال والمنطق وتعتمد في منظورها للحياة والدين علي ارضاء احتياجاتها الملحة للطعام والملبس والمأوي‏.‏ ودافع شتراوس عن تلك المجتمعات أو‏ ‏ العقل الهمجي‏ ‏ الذي اتخذه عنوانا لأحد كتبه، كشف فيه أن أفراد هذه المجتمعات لا يسعون فقط وراء ارضاء احتياجاتهم المادية ولكن لديهم منطقا متطورا يحكم حتي سلوكهم وأساطيرهم الاكثر غرابة‏ .‏
وكان من نتائج خبرته هذه واطلاعه المباشر على تلك المجتمعات وعيشه فيها أن تكونت لديه فكرة عامة تتمحور حول إطلاق ثقافة علمية تعيد الاعتبار إلى الحضارات غير الأوروبية بما فيها من طقوس وتقاليد ونواميس وعادات دينية، من هنا كان اتباعه وسيلة الابتعاد عن المفاهيم الأوروبية التي كانت تشكل المعايير الأساسية في هذا العلم، إذ اعتبر ألا وجود في المطلق لما يسمى سلم قياس الحضارات تأتي في طليعته الحضارة الغربية، فكل شيء نسبي، وما هو صالحا ومفيدا في أوروبا قد لا يكون صالحاً بالمقياس نفسه في أميركا اللاتينية وأفريقيا، ومن خلال أعمال ليفي شتراوس الكثيرة، استطاعت أجيال من الباحثين الاقتداء إلى أن حضارات اللامكتوب ليست أقل ثراء من حضارات المكتوب التي نمت في أوروبا وحوض البحر الأبيض المتوسط، كما كان فكر ليفي شتراوس، خصوصاً ذلك الذي ورد في كتابه {العنصر والتاريخ} مضاداً للعنصرية. حيث كان يتساءل عن الجدوى من التركيز على أن فكرة عدم المساواة بين الأجناس لا تستند إلى أي أدلة بيولوجية أو جينية، ولكنها تقوم فقط على أساس ثقافي وعرقي في الذهن الأوربي والغربي .
في أطروحته التي نال عنها درجة الدكتوراه «البنى الأساسيّة في القرابة» (1949)، أعاد تفسير الدراسات الميدانية للقرابة التي رسخت وجوده كمفكر ريادي في فرنسا ما بعد الحرب، إذ ناقش كيف أنّ علاقات القرابة ـ وهي المظاهر الأساسيّة في أي مؤسّسة ثقافيّة ـ تقدّم نوعاً خاصاً من البناء، ويمكن في هذه الحالة أخذ شجرة العائلة مثالاً على نظام القرابة الذي يمثّل البنية، أما إنجاز شتراوس الضخم والأهم، فكان كتاب «أسطوريات» الذي يضم أربعة أعمال بدأها بكتابه «النيء والمطبوخ» (1969) و«من العسل إلى الرماد» (1973) ثم «أصل سلوكيات المائدة» (1978) وأخيراً «الرجل العاري» (1981). في هذه السلسلة، درس شتراوس الأسطورة كبناء مؤسس لتفسير الثقافة وعلاقاتها الثنائية كعنوان كتابه الأول؛ فالنيء، متعلق بالطبيعة. أمّا المطبوخ، فمرتبط بالثقافة، وخلص شتراوس في أعماله إلى أنّ الفكر المتحضر لا يختلف كثيراً عن الفكر الوحشي، وبيّن أنّ الأساطير والعادات لدى حضارات عدّة، تؤكد وجود الوجهين، الأساطير كلها تتحدث عن تحول البشر من خالدين إلى فانين، وعادات الطعام تشرح تحوّل الأكل من نيء إلى مطبوخ .
بعد «النيء والمطبوخ»، بدأ يتكرّس في الأوساط الفكريّة. وانتخب في 1973 عضواً في «الأكاديميّة الفرنسيّة». وكانت مجلّة «الأزمنة الحديثة» قد بدأت تتحدّث عن فكر شتروس، وتصوّر عالم الأنثروبولوجيا، بطلاً مغامراً، ومفكراً وفيلسوفاً، وقد بات مستحيلاً تناول أي مسألة تدور حول الإنسان والمجتمع والتفاعلات الحضاريّة، من دون الاستناد إلى إنجازاته الفكريّة، وأبحاثه العلميّة، والنظم والبنى المعرفيّة التي وضعها لفهم العلاقات بين الأساطير والحضارات والمجتمعات البشريّة، فتأثير أفكار ليفي-شتراوس على العديد من العلوم الإنسانية (الثقافية)، الانثروبولوجيا، علم الاجتماع ،الدراسات الأدبية والفلسفة، أدت بأجمعها إلى محاولة راديكالية وجديدة حول الإنسان وفهم عالمه.
كان صاحب Mythologiques يرى في طقوس القبائل التي زارها حكمةً وعفويةً وانسجاماً عقليّاً، عدّ التمرد عليها ضرباً من الجنون المطبق. ورأى أن هذه الميثولوجيات القبليّة هي الشروط الحقيقية لتجربتنا الإنسانية التي منحت قيمةً للمكان ووزناً للروائح والألوان والعواطف، وجعلت له ميل إلى الوثوق بالعالم الطبيعي كمصدر للمعرفة، وعبر عن مخالفته لكثير من علماء الأنثروبولوجيا الذين تماشت نزعاتهم مع الدراسات الاستعمارية. تلك الدراسات التي نظرت إلى الشعوب المستعمرة بوصفها ثقافات بدائية متخلِّفة عن ركب الحضارة الغربية وأقلَّ منها شأناً، وبإعادته الاعتبار إلى تلك الشعوب من خلال مؤلفاته المختلفة، يكون ستروس أوّل المتمرِّدين على الفكر الغربي الاستعماري، والمدافعين عبر منهج علمي عن احترام التعدد والاختلاف الثقافي، وفي رأيه أنّ هذا المجرى التي تتخذه الحضارات هو نظام أساسي مشترك بين شعوب الأرض، قرن مضى، وما زلنا نقرأ شتراوس ونعجب بالروح الرفيعة التي أنصف بها حضارات الشعوب التي راقبها ودرسها، هذا العالِم النبيل يبقى منارة للإنسانيات، ومرجعاً أساسيّاً من مراجع الفكر الإنساني الذي يعبر الأزمنة والعصور.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الولايات المتحدة تعزز قواتها البحرية لمواجهة الأخطار المحدقة


.. قوات الاحتلال تدمر منشآت مدنية في عين أيوب قرب راس كركر غرب




.. جون كيربي: نعمل حاليا على مراجعة رد حماس على الصفقة ونناقشه


.. اعتصام لطلبة جامعة كامبريدج في بريطانيا للمطالبة بإنهاء تعام




.. بدء التوغل البري الإسرائيلي في رفح