الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصراع بين الأنا الحقيقية والأنا المتوهمة

تنزيه العقيلي

2009 / 11 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



حديث عفوي جرى بيني وبين بعض الأصدقاء، جرني إلى ذكر الصراع الذي كان في داخلي، عندما كنت متدينا، ومن غير سابق تفكير، بل بشكل عفوي، عبرت عن ذلك الصراع، أنه كان بين أَنَوَين في داخلي، (أنا) ظاهرة مفتعَلة، أو متوهَّمة، تلك الـ (أنا) المتديِّنة، و(أنا) كامنة، حقيقية، متملمِلة، مقموعة من (أنا)يَ الغريبة عن حقيقتي. كانت (أنا)يَ المتدينة المطيعة للدين، متوهِّمة أنها إنما تطيع الله، كانت هذه الـ(أنا) تحاول أن تقنعني أنها (أنا)يَ الحقيقية، السائرة في خط الفطرة، وفي خط الطاعة، وفي خط الاستقامة، ولذا كلما حاولت الـ(أنا) الحقيقية، القابِعة في سجن الدين، المتملمِلة، المتحيِّنة فرصةَ التمرد، تقمعها الـ(أنا) الدينية، أو الـ(أنا) المفتعَلة، والمتوهَّمة. فكانت تلك الـ(أنا) المتوهَّمة تعنف الـ(أنا) المتملمِلة، موحِيةً إليها أنها ليست إلا ذلك الهوى، أو تلك النفس الأمارة بالسوء، أو هي ذلك الشيطان الموسوِس في صدري، كي يحرفني عن الصراط.

وبعد التحول إلى عقيدة التنزيه بعد ثلاثين سنة، مرورا بالأصولية المعتدلة نسبيا، فالتدين العقلاني، فتأصيل مرجعية العقل، فالمذهب الظني، فالتفكيكية (التفكيك بين الدين والإيمان على نحو الإمكان، فترجيحه ما دون مرتبة الحسم)، ثم حسم التفكيك باعتماد عقيدة التنزيه، أي تنزيه الله من الدين، أدركت عندها أن الـ(أنا) المتوهَّمة، كانت مشركة من حيث ظنت أنها موحِّدة، لأنها اتخذت من الدين وثنا، وإلها له خوار، يُعبَد من دون الله، فيحرم ما أحل الله، ويحل ما حرم الله، فيكون ندا لله، وطاغوتا يزاحم الله في عرشه، وينافسه في ألوهيته، ويدافعه في ربوبيته.

وحيث إن الـ (أنا) الحقيقية، رغم مقموعيتها، وتخفيها، كانت تزداد تململا، وتمردا، وكانت شغالة في هدنة مع الـ(أنا) المتوهَّمة المتدينة، لذا كانت تحاول أن تصوغ لها دينا يحاول أن ينسجم مع ما لا ينسجم الدين معه في الكثير الكثير من مقاطعه ومفاصله، من إنسانية في التفاعل الوجداني، وفي السلوك، لاسيما مع الآخر المغاير، ومن عقلانية في الفهم والتأويل والتفسير.

هاتان الأنَوان حاولا أن يتعايشا، فكانا يتدافعان ويتنافران أحيانا، ويتناغمان ويتناسقان أخرى. كانت من جهة (أنا) الفنان، ومن جهة (أنا) الناسك، من جهة (أنا) الأصولي، ومن جهة (أنا) الليبرالي، من جهة (أنا) المنغلق، ومن جهة (أنا) المنفتح، من جهة (أنا) العابد، ومن جهة (أنا) العاشق، من جهة (أنا) الموقن، ومن جهة (أنا) الشاكّ، من جهة (أنا) المتعبد، ومن جهة (أنا) المتمرد، حتى انتصر الفنان على الناسك، والليبرالي على الأصولي، والمنفتح على المنغلق، والعاشق على العابد، والشاكّ على الموقن، والنسبي على الإطلاقي، والمتمرد على المتعبد، والحقيقة على الوهم، والواقع على السراب، والنافع الماكث في الأرض على الزبد الذاهب جفاء.

وعندما حسمت خياري أطعت الله من حيث عصيت الدين، إلا ما كان من طاعات الدين طاعة لله، فيما هي إنسانياته وعقلانياته، نابذا، أو حاسما نبذ كل لاإنسانيات الدين ولاعقلانياته، التي هي من تشريعات الطاغوت، وتوهيمات السراب. فرأيتني قد تماهيت مع (أنا)يَ الحقيقية، متناغما، متناسقا، متساجما معها، لكن مقرا بنسبيتها، إذن بمواصلة تحولاتها، أو لا أقل إمكانات تحولها. إذن بقي الصراع، لكنه صراع الضدين المتجاذبين، بعدما كان صراع النقيضين المتنافرين، فكم من ضدين، جمَّل وكمَّل الضد منهما ضده، وبالعكس، كما هو التضدات اللونية، وتضادات المشمومات، وتضادات المذوقات، وتضادات الأشكال، وتضادات السطوح، وتضادات الأفكار، وتضادات السلوك. فمن الألوان ندرك جمالية تضاد الحار والبارد من الألوان، وتضاد الداكن والفاتح، والتضاد النوعي، والتضاد الكمي وغيرها، وهكذا هي التضادات بين مذاقات الحلو والمر والمالح والحاذق والحامض وغيرها، وهكذا في الخطوط والسطوح والأشكال والمواد، ما بين المستقيم والمنحني، بين الصقيل والخشن، بين المستوي والمتعرج، بين الحديد والخشب، وبين الذهب والرخام، وبين الزجاج والحجر. وفي السلوك نكتشف جمالية التضاد بين المرونة والصلابة، بين الفرح والحزن، بين العفو والمقاضاة، بين الخشونة والنعومة، بين أنوثة السلوك وذكورته، بين الرضا والغضب، بين اللعب والجد، بين الإتقان والمقاربة، بين الإبداع والاتباع، بين التجاذب والتنافر، بين الزعل والتصالح.

إن هذه التضادات هي تضادات الذات المركبة، فيما هو التضاد الذاتي في الداخل الأنوي، وتضادات تعددية الذوات، فيما هي العلاقات إلى الخارج، حتى فيما بين الذوات المتماهية مع بعضها البعض إلى حد كبير، لكن إلى الحد الكبير، وحتى الكبير جدا، لكن النسبي، أي دون المطلق.

12/11/2009








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية


.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟




.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي




.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ