الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نمط حضور المدينة : تأملات أولية

عبد الناصر حنفي

2004 / 6 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عند التأمل في ذلك الفضاء المعرفي العام والمجرد للمدينة ، بوصفها مدينة ، سنجد أنها تتكون من عنصرين فحسب : المعمار ، والحكايات.
والمعمار ، أو التشكيلات المعمارية ، ستوجد دائما عند أطراف عيوننا ، بوصفها تنتمي إلى الطوبوغرافيا البصرية للألوان والخطوط المحيطة بنا ، أما الحكايات فهي فعل سردي متدفق عبر حركة تستجيب لقوانين الزمن واتجاهات نموه ، ولكنها أيضا كثيرا ما تتجاوز تلك القوانين وتعلو عليها ، فالحكاية هنا تأتي بمثابة محل التقاء وتنظيم العلاقات والضغوط والأحداث والبشر والتواريخ وكافة الطبوغرافيات المعرفية ( البصرية وغيرها ) ، بحيث أن ما نطلق عليه " المعنى" ، أو ما نعده كذلك ، ليس في النهاية سوى إمكانيات الحركة فيما بين هذه العناصر والعلاقات ، وهي إمكانيات تتيحها الحكاية وتنظمها في نفس الوقت .

ولا يمكننا تصور أي كيان معماري دون أن نشعر بتطلبه لمدينة ما ، فالمعمار هو عطاء المدينة الخاص للإنسان ، ولو أننا وقعنا على مبنى منفرد بنفسه في الفراغ ، فلن نراه إلا بوصفه نداء لمدينة آخذة في الظهور ، ابتهال لحضورها ، تبشير بقدومها ، أو حتى نعي ونواح على غيابها ، ولكن ألا يعني هذا أننا لا نستطيع رؤية ذلك الكيان إلا بوصفه عنصرا في حكاية حاضرة أو غائبة ، أي حكاية المدينة ، والتي تضع نفسها على قدم المساواة مع ما هو محسوس أو مرئي ، تتوارى خلفه ، أو تبطن نفسها داخله بحيث ندركها بوصفها كيانا محايثا للبناء المعماري ، أو جزء لا يتجزأ من وجوده المطروح أمامنا .

كيف لهذا الترابط أن يتأسس على هذا النحو الخادع بقدر ما هو حقيقي ؟ فما هو معماري لا يمكنه أن يحيل مباشرة ،أومن تلقاء ذاته إلى المدينة ، فانفتاح شعورنا تجاه حضور صرح معماري ما سيحيلنا إلى حدس معرفي بكتلته ، بصلابتها أو مرونتها ، بعلاقات الخط واللون ، وقبل كل شيء ، بالفراغ الداخلي القابل لاحتواء غيره ، أو القابل للامتلاء ،و سيحملنا هذا الحدس المعرفي إذا إلى ما يميز بين الكتلة من جهة والكتلة المعمارية من جهة أخرى ، فالكتلة ( سواء كانت عملا فنيا ، أو تكوينا طبيعيا مثل الصخور وجذوع الأشجار و الجبال والتباب والتلال .. الخ ) ليست سوى وجود مصمت ومنطوي على ذاته ، إنها كيان بلا فراغ داخلي ، ولذلك لا توجد دائما إلا بوصفها في حالة تجاور مع شيء ما ، أو خارج شيء ما ، ولكن ضمن هذه الفئة من الكتل ستوجد مجموعة ضئيلة العدد تعرضت لانتهاك عنيف بقدر ما هو محسوب بحيث تم ثقبها على نحو يتيح لها استيعاب كتلة ما مختلفة و مغايرة داخلها ( لنستحضر في أذهاننا هنا ظاهرة الكهوف مثلا ) ، وهذا الفراغ الناشئ توا ، والمحدود بشدة ، لم يعد يجمعه بالفراغ الهائل للطبيعة الخارجية ، أو للعالم الخارجي ، إلا صلات تتباعد باستمرار بعد أن اكتسب لنفسه حدودا صلبة ، حدودا ليست أقل صلابة من ذلك الوجود الذاتي الداخلي لتلك الكتلة التي باتت مثقوبة .
وبالنسبة لأعزائنا الفرويديين ، فإن هذا الثقب ، أو التجويف ، لا يحيل مباشرة إلا إلى "الرحم " ، أي ذلك الفراغ الذي طردنا منه ، أو تلك الجنة الأولى التي نسعى بيأس للعودة إليها ، وما نطلق عليه " المعمار " ليس سوى السجل الحافظ لهذا السعي المحموم لاستعادة رحم الأم من جهة ، ولاستبداله من جهة أخرى .
ويختلف المعمار عن الكتلة في نقطة هامة للغاية ، ففيما قد تظهر الكتلة بوصفها قابلة لاحتواء غيرها عبر تعرضها لانتهاك داخلي ، أو لعملية ثقب وتفريغ ، فإن المعمار يبدأ من انتهاك الفراغ نفسه ، إنه محاولة لإجبار الفراغ على التراجع عبر استبداله بكتلة هي نفسها مفرغة ومجوفة ، وذات علاقات وحدود يتطور شكلها عبر تطور المعمار في التاريخ .
المعمار إذا خطوة جدلية طارئة في العلاقة بين الكتلة والفراغ ، وبوصفها طارئة فهي إنسانية بامتياز ، وهي تأتي بمثابة " رفع جدلي " للإمكانيات المتناقضة في تلك العلاقة بين الكمون الآمن الذي يتيحه الفراغ المحدود للكتلة المنتهكة ، وبين الحركة غير المحدودة التي يسمح بها الفراغ الخارجي اللانهائي ، وبالتالي فالمعمار ليس فقط محاولة لشكلنة العلاقة بين الكتلة والفراغ ، بقدر ما هو أساسا محاولة للسيطرة و نزوع لشكلنة حركتنا ،و حياتنا ، و وجودنا ، أجل ، فمنذ لحظة ظهور المعمار أصبحنا أسرى له ، تماما مثلما كنا أسرى أرحام أمهاتنا .

ولكن رحم الأم ليس سوى ذلك الفراغ الذي ستنفيه عملية الميلاد ، وبمعنى آخر ، فالوجود في الرحم هو سعى تجاه الميلاد ، تجاه الحياة ، وصدمة الخروج منه – حسب تعبير أصدقاؤنا الفرويديين – ليست رفضا للحياة ذاتها كما قد يعتقد بعضهم ، بقدر ما هي أساسا رفض للميلاد ، أو رفض للاكتمال المنجز ومحاولة لاستعادة " سيرورة" نقص ما قبل الميلاد ، وذلك ليس بغرض استعادة هذا " النقص " نفسه، أو لذاته ، بقدر ما هي محاولة لاستعادة حركة ذات أفق ونقطة توجه ملموسة ومعروفة ، كبديل عن حركة ما بعد الميلاد التي ستبدو ذات اتجاه حركة غامض ومتذبذب ، وبالتالي فالعلاقة هنا ليست ذات طابع سيكولوجي بحت كما ينادي الفرويديين ومن شابههم ، بقدر ما تعود إلى عمل تقنية ابستمولوحية محددة ، وهي تقنية جذرية للغاية في تكوين المعرفة الإنسانية ، حيث يتم مواجهة ما هو غامض ومجهول عبر استحضار ما هو معروف ، وذلك لإجبار هذا المجهول على الكشف عن اختلافه .
إن هذا التعديل المنهجي للنظرة الفرويدية التقليدية قد لا يفضي مباشرة إلى تعديل جذري لنتائج التحليل ، ولكنه سيسمح لنا بالرؤية أكثر ، واكتشاف أن ما قد يبدو وكأنه ارتباط غامض أقرب إلى الطابع الميتافيزيقي الصرف والمصمت ، هو في النهاية ليس سوى نتوء بارز يعاد إنتاجه باستمرار على خلفية عمليات شديدة التعقيد والتراكب والجذرية ، وبالتالي فما هو ميتافيزيقي يتباعد ويضمحل ، أما ما هو غامض ومجهول ومدهش ، فهو يقترب أكثر ، ويفصح عن تكوينه .
ما هو معماري إذا يتكشف بوصفه " جاهزية " ( dispositif ) – حسب تعبير فوكو – ، (والجاهزية ببساطة مفهوم ينتمي إلى ميدان الممارسة العسكرية مثل مفهوم الطليعة ، وهي تعني ذلك "المكون" أو التكوين المادي – بل والمعرفي أيضا - والذي يتيح ، أو يستحضر سلسلة من العمليات الإجرائية أو المعرفية المرتبطة بمجال ما ) ، وجاهزية المعمار تسعى ضمن أشياء كثيرة إلى مقاومة الحياة أو مواجهتها عبر استعادة أو استحضار ، أو فلنقل إعادة تأسيس أوضاع ما قبل الميلاد ، أي إعادة تأسيس " رحم" لا يسمح بالكمون الآمن فحسب ، بل يسمح بالحركة أيضا ، ولكن حتى هذه النقطة التي وصلنا إليها في تحليلنا فإن المدينة لم تظهر بعد .

و بالتأكيد فإن " المعمار" سابق على المدينة ، ولكن المدينة ليست مجرد تكاثر ، أو انتشار ما هو معماري ، بمعنى أن تأملنا لصرح ما ، سواء بصيغة المفرد أم بصيغة الجمع لن يحيلنا إلى تأمل مباشر في المدينة ، أي أنه لن يفضي بنا إلى وعي بما هي عليه المدينة ، فظهور المدينة مرتبط بتحول المعمار من مجرد "جاهزية" تردنا إلى علاقات الكتلة والفراغ والحركة، إلى مؤسسة تسجل انسحابنا الكامل والنهائي من الفراغ الطبيعي أو الأولي ، تجاه فراغ إنساني على نحو تام ، والحكاية فقط هي ما تحمل الآثار المحفوظة لهذه الحركة التاريخية .

يشكل المعمار البدائي ، والقروي ، اعتراضا جزئيا على الفراغ ، فالكثير من الأنشطة الإنسانية اللازمة لمواصلة الحياة تظل مرتبطة بالحركة في هذا الفراغ الطبيعي العام ( الصيد ، الرعي ، الزراعة ، الخ) ، أما مع المدينة فستتم مصادرة كل تلك الحالات لصالح فراغ المعمار ، بل وحتى التنقل من مكان لآخر سيجري بصفة أساسية داخل أشكال معمارية متحركة ، أشكال نقبع في فراغها الداخلي فيما تقوم هي بالحركة بدلا منا ( من منا يستطيع التأمل في هذه الحالة دون أن يتذكر "رحم" الأم ؟).
المدينة إذا ، منذ ظهورها آخذة باستمرار في استيعاب كافة أشكال تواجدنا في العالم لصالحها ، وهو ما تم استكماله نهائيا عبر اندفاع ثوري عارم مع حركة الحداثة ، أو بالا حرى حركة التحديث ( modernization ) ، وفي كتابه عن "بودلير " يرصد " فالتر بنيامين" لحظة الاكتمال تلك في باريس القرن التاسع عشر عبر ظهور ميل لحالة " التسكع" ، أو التجوال الحر غير القصدي داخل المدينة ، بوصفه محاولة أخيرة للتعامل مع فراغ المدينة باعتباره مكافئ للفراغ الطبيعي اللامحدود والذي لا يفرض شكلا معينا للحركة داخله ،إنها ليست محاولة رومانسية أخرى لاستبدال المدينة بالطبيعة ، أو لإحلال قصديات محل أخرى ، بل هي رعشة يائسة تسعى لمواجهة القصديات التي تفرضها المدينة وتنظمها عبر رفع مطلب أو مفهوم اللاقصد ، أو نفي القصد ذاته بوصفه شرط حضور المدينة ، إنها محاولة تنطوي على نزوع نوستالجي أكثر من كونها اعتراضا ، تحية وداع لعالم يختفي ، وتأسيس في نفس الوقت لسلوك هامشي بائد يطالب بحقه في الوجود قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ، فالمدينة ، بوصفها مدينة ، لم تعد تسمح بظهور أي سلوك غير قصدي ( ولنلاحظ مع فوكو أن مفهوم الجنون بوصفه انتهاك ينبغي مواجهته بحسم لاستعادة سواء القصديات وتأكيد شرعيتها السلطوية، لم يظهر سوى مع المدينة ) ، فكل ما هو إنساني يصبح الآن خاضعا لما هو مؤسسي ، ولذلك ستحاول الحداثة العليا فيما بعد ( أي مع العقود الأولى للقرن العشرين ) أن تواجه هذا النزوع المؤسسي لتنظيم المعاني والقصديات بنزوع مؤسسي مضاد يدشن شرعية حضور اللاقصد واللامعنى ، وهو اتجاه استمر تطوره مع تيارات الحداثة المتأخرة ، وما بعد الحداثة ، وذلك ليس بفضل راديكاليته الضدية ، وإنما بفضل نزوعه المؤسسي الذي يبسط سلطة فضاء المدينة في مناطق ظلت دائما عصية على التنظيم ، بمعنى أن ما يجري هنا هو بالمقام الأول استعادة لتلك الظواهر المنفلتة وخفضها من وضعها المقارب أو المشابه لطبيعة لا يمكن التحكم بها ، لتصبح ظاهرة داخلية في فضاء المدينة ، وهذه النقطة تشير بوضوح إلى الاتجاه الأساسي لحركة المدينة التي تسعى دون كلل لاستيعاب كل شيء داخلها ، إنها تلتهم ما هو خارجها لتصير الحد النهائي لوجودنا ، إنها تتحول شيئا فشيئا إلى رحم جديد حده النهائي هو الموت .

إن رفع المعمار من مجرد جاهزية إلى مؤسسة أدى إلى انفتاح مذهل على شبكة من العلاقات المعقدة والمحكمة ، والمنطوية على نفسها ، بحيث يؤدي استحضار جزء منها إلى الانزلاق تجاه الشبكة بأكملها ، وهي شبكة بحجم وجودنا ذاته ، وقد أصبحنا محصورين بالكامل داخل هذا الرحم الجديد ، رحم بلا خارج دائما ، ولكنه لازال يواجه نهايته ويقاومها ، ونهاية رحم الأم هو الميلاد ، أما نهاية " المدينة / الرحم " فهو الموت أو الفناء ، وعند هذه النقطة تتدخل الحكاية بوصفها تمثيلا (representation ) للمدينة .

إن الحكاية بوصفها تنتمي فئة من فئات ألعاب التمثيل تقوم بدور مزدوج تجاه " حضور" المدينة ، فهي أولا تلعب دورا مماثلا لما يقوم به المعمار( بوصفه جاهزية) تجاه الفراغ ، فمنذ أن يبدأ فضاء المدينة في تدشين نفسه بوصفه كلا مصمتا يحيل إلى ذاته ، أي بوصفه كتلة ، يصبح دور الحكاية الأساسي هو حفر أو ثقب الفراغات داخل هذه الكتلة ، فالحكاية ستعمل هنا على خلق مسافات أو مساحات أو تجويفات بين العناصر والعلاقات المشكلة لفضاء المدينة ، وهذا يعني أن الحكاية تسير في اتجاه مختلف لاتجاه المعمار ، ففيما يذهب الأخير إلى إزاحة الفراغ لتحل الكتلة ( المادية) محله ، فإن الحكاية تعمل على خلق الفراغ داخل الكتلة المعرفية ، وهو ما يعطينا بضعة ملاحظات ومقارنات هامة ، فالفراغ هو نقطة البداية لعمل المعمار وهو في نفس الوقت هدفه الذي يعمل على إزاحته ، بينما الكتلة ( المعرفية) هي نقطة البداية لعمل الحكاية ، ولكنها لا تعمل على إزاحتها بقدر ما تعمل على جلب الفراغ داخلها ، هذا من جهة .
أما من الجهة الأخرى ، فالمعمار يمارس عمله على المادة في المكان ، فيما الحكاية تمارس عملها على المعرفة في الزمان ، ولكن نقطة إلتقاؤهما الأكيدة بل والوحيدة هي الفراغ ، والذي يكاد يكون هو نفسه في كلتا الحالتين بوصفه ذلك المجال الذي يتيح الحركة بين الكتل وحولها ، ولا يهمنا في هذه النقطة أن يكون الوجود في ذاته ( بالمعنى الكانطي) للفراغ مختلفا في هذه الحالة عن تلك ، فما يهم هو أن الحركة هي نفسها دائما ، وذلك ليس فقط فيما بين ما هو مادي على حدة ، وما هو معرفي على حدة ، بل في الجمع بينهما ، فالفراغ الناشئ هنا سيسمح بحركة ترابط وانتقال دون أن يشترط تجانس طرفيها ، أو أطرافها ، أي أنه سيتيح إنتاج ترابط أو تكوين طرفه الأول أو نقطة بدايته مادية ( مثلا) ، فيما طرفه الثاني أو نقطة نهايته معرفية ( أو العكس ) .
عبر هذا الفراغ الذي يزاوج بين الحكاية والمعمار ، ويصهرهما معا ، ستنشأ المدينة ، بوصفها ذلك الاتحاد الذي لا يمكن فصمه بين هذين العنصرين ، وستعمل الحكاية على الكتلة المعرفية التي سيجري دمجها بالكتلة المعمارية لتنتج العديد من التصورات أو التمثيلات على نحو يجعل ما هو معرفي يظهر بوصفه تبطينا داخليا للفراغ المعماري ، وهو تبطين سيتيح لنا أن نبدو وكأننا نتحرك داخل هذا التكوين الجديد وليس حوله ، وليس خارجه ، ومع اكتمال ظهور المدينة ستنتفي كل إمكانية لأي حركة خارج هذا التكوين .

ومنذ البداية ، كان بعضنا ، ولا شك ، يستريب في أن العنصرين اللذين جرى تحديدهما ( أي المعمار والحكاية ) كافيين لتحليل ظاهرة المدينة ، وها نحن نصل إلى ذلك التكوين المعماري / الحكائي ، والذي مع ظهوره يبدأ المعمار في التحول من مجرد جاهزية ، إلى مؤسسة ، أي من مجرد إمكانية متاحة لأنماط معينة من الحركة ، إلى إمكانية محددة لأنواع بعينها من الحركة ونافية لما سواها ، أي أنه يتحول إلى محفز للحركة من جهة ، وقامع لها من جهة أخرى ، مثله في ذلك مثل أي سلطة ، وعبر هذا التدفق سيتوالى جلب كل ما هو معرفي ، وجمالي ، وأخلاقي ، كل ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي ، كل ما هو ذاتي خاص بالفرد ، أو عام يخص الجماعة ، وباختصار : كل ما هو إنساني ، كل ذلك سيتم جلبه واستحضاره في فضاء المدينة الذي سيوالي اتساعه ليبدو وكأنه بحجم العالم ، وبحجم الوجود .

ولكن ، لنقل أن المدينة تعي أنها ليست بحجم العالم ،( و إلا فلماذا هذا السعي المحموم لاستكمال هذا النقص المشين الذي يقلقها ؟) ، ولكنها تعي أيضا أننا قد لا نعرف بفضيحتها ونقصها هذا قط .
وربما كان هناك ما يرجح هذا الاطمئنان الذي تشعر به المدينة تجاه استقرار وجودها الأبدي ، فطوال التاريخ كان البشر يواجهون ظهور أي كيان مسيطر بمحاولات تنزع إلى الخلاص منه عبر نفيه ، أو إزاحته ، أو استبداله ، أو حتى تدميره ، ولكنهم إزاء الحضور القاسي للمدينة لم يقوموا سوى بتأرجحات متململة نهضت بها بعض تيارت الرعوية والرومانسية ، ثم سرعان ما تلاشت ، أما الآن فلا يوجد خطاب أو توجه يوتوبي أو مستقبلي لا يتضمن القبول بوجود المدينة ( وهو ما يسري حتى على خطاب الخضر ، والذي يسعى لإصلاح شكل وجود المدينة في علاقته مع الطبيعة أكثر مما يسعى لإزاحتها ) ، هل يعني هذا أن المدينة هي الخيار النهائي الذي لا رجعة فيه للإنسان ؟
ربما .
وربما كان هذا يرجع أيضا إلى ما تردده بعض الخطابات الرؤيوية ، حول أن المدينة هي وجود سيدمر نفسه بنفسه في النهاية ، ولكن من المؤكد كذلك أن انشغالنا بالتأمل في ظواهر أنتجتها المدينة ( مثل ظاهرة الدولة ) يجعلنا غير قادرين على التأمل في المدينة نفسها ، هذا بالإضافة إلى أننا نكاد نبدأ في الوعي بدور الحكاية في معرفتنا وحياتنا ، وبدور ألعاب التمثيل ، وألعاب الحقيقة ، وهذا يعني أننا لم نكد نعرف المدينة بعد ، ولم نعي بالتالي أن نفيها أو تدميرها لا يعني بالضرورة التعامل مع جاهزية المعمار على هذا النحو أو ذاك ، بقدر ما يستلزم أن نفك الترابط بينها وبين الحكاية ، وان نفكك علاقة الحكاية بالزمان والحقيقة والتاريخ ، تلك العلاقة التي تقدم نفسها لنا بوصفها معطى مباشر وصلد لا يمكن مقاومته ، فعند هذه اللحظة ستذوب المدينة وتنحل إلى بضعة جاهزيات يمكن إعادة تشكيلها .

كلا ، التاريخ لا يعرف خيارا نهائيا ، وكذلك البشر بوصفهم كائنات تاريخية ، وأغلب الظن أن المدينة لن تكون استثناءا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Brigands : حين تتزعم فاتنة ايطالية عصابات قطاع الطرق


.. الطلاب المعتصمون في جامعة كولومبيا أيام ينتمون لخلفيات عرقية




.. خلاف بين نتنياهو وحلفائه.. مجلس الحرب الإسرائيلي يبحث ملف ال


.. تواصل فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب بمشاركة 25 دولة| #مراس




.. السيول تجتاح عدة مناطق في اليمن بسبب الأمطار الغزيرة| #مراسل