الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يدي تفنى .. ويبقى كتابها

رابحة الزيرة

2009 / 11 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يدي تفنى .. ويبقى كتابها

"كتبتُ وقد أدركتُ يومَ كتابتي بأنّ يدي تفنى ويبقى كتابُهـا
فإنْ كتبتْ خيراً ستُجزى بمثله وإنْ كتبتْ شرّاً عليها حسابُها"

كلمات – لا أعرف قائلها – تحضرني كلما هممت بالكتابة فأسدّد بها نوايا القلب وخطّ سير القلم لئلا يفلت القول من سياج العقل وعقاله ولا تُوظّف الكلمة المقدّسة لخدمة النفس وانفعالاتها، إذ ليس أيسر من الكتابة من أجل (التنفيس) عن غضب أو حزن أو ألم ألمّ بالإنسان لتكون أشبه بشقشقة تهدر في صدر صاحبها فيبثّها على الورق ثم ينشرها لتقرّ نفسه وتستقرّ وإن قضّ مضاجع من حوله بسوء مقالته، وقد لا تخلو بعض هذه الكتابات من جمال الطلاقة والصدق والقوة في التعبير إن جاءت مناسبة للظرف ومعبّرة عنه، ولكنها – عادة - لا تكون محمودة العواقب، وخاصة إذا تحوّل جُلّ ما يُكتب ويُنشر إعلامياً إلى مراجل تنفيس لأجل التنفيس لا للإصلاح ولا التغيير.

تذكّرني بعض أعمدة الصحف بمجالس الغيبة والنميمة التي يدّعي مدمنوها أنه لا يحلو مجلس بدونها، ولكنها – مع الأسف - مجالس غيبة مفتوحة على نطاق واسع، فبعد أن كانت هذه المفاسد الأخلاقية تُرتكب في الخلوات وفي غرف مغلقة بين عدد محدود من الناس تحوّلت بفضل التطور البشري – ولا أقول الإنساني - وما يسمّى بحرية الرأي، إلى (غيبة) على مستوى الإعلام والفضاء الالكتروني الواسع، وبالتالي أصبحت (مطاعم) أكل لحم الأخ الميت (الغائب، الصامت، الغافل، والذي لا يملك المساحة الإعلامية التي يملكها الإعلاميون المغتابون) مفتوحة على مصراعيها لمن يريد أن يأكل منه ما يشاء، وأصبحت (الكتابة) أداة لقتل العلاقات الاجتماعية والإنسانية (بالجملة) بعد القتل والطعن والتشويه (الاجتماعي) لفئات المجتمع المخالفة والمختلفة.

(بتك) مقلوب كلمة (كتب) وهو فعل (شيطاني) هدفه تغيير خلق الله وتشويهه، ويقوم به الإنسان بأمر من الشيطان حيث يقول: "وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ .."، ويبدو أنّ المفلسين من الكتّاب، والمغرضين منهم، ضلّوا سواء السبيل فاستبدلوا (الكتابة) هذا العمل الإنساني، الربّاني، السامي، بـ(البتك) .. الفعل الشيطاني، الوضيع، الآثم، للتنفيس عن عقدهم النفسية ولو على حساب حرمة العلاقات الإنسانية، فلا يتورّع أحدهم عن وصف المختلف عنه في العرق أو الدين أو المذهب أو حتى المظهر – وليس بالضرورة المخالف له - بأقبح النعوت، ويحلّل أفعاله أو شخصيته بأشنع التحليلات، فيأتدم على لحمه ويفتك به اجتماعياً، وهذا لعمرك أعظم إزراء بخير الأعمال .. الكتابة.
قديماً .. كانت الكتابة عملاً مقدّساً ومضنياً، فكتب الأولون علومهم، ونقشوا عقائدهم على جدران الكهوف والألواح الطينية واحتفظوا بها في بطن الأرض ثم جاء من بعدهم ممن قدّر تلك العلوم حق قدرها فحفظها في بيوت العبادة تثميناً لها وتقديساً لما فيها من حقائق ومعارف لولاها لما عرف الإنسان أصله ولا جذوره، فتركوا لنا بما كتبت أيديهم وبما طوّروا من أساليب الكتابة إرثاً حضارياً شامخاً مدعاة فخرٍ للأمة الإنسانية كلها، ولو بُعثوا اليوم من قبورهم لحمدوا اليوم الذي خطّت أيديهم تلك العلوم وما أسرفت في نعمة الكتابة .. ولكن لا أعتقد أنه يجرؤ كتّاب (التنفيس) اليوم أن يتخيلوا أوبتهم بعد مئات السنين وقد تمثلت كتاباتهم أعمالا يحاسبون عليها عقاباً أو ثواباً؟

بين الكتابة والشفاهة مسيرة تريّث وتعقّل وحكمة، فما يُقبل من المتحدّث الغاضب يصعب قبوله من الكاتب وإن كان منفعلاً، لأنّ اللسان قد يسبق صاحبه إن كان غضوباً فيتلفظ بما قد يندم عليه بعد أن تهدأ ثورته، بينما لدى الكاتب فرصة تقليب وتنقيح ما كتب قبل أن يُنشر، فيحلو للبعض أن يجعل من هذه المساحة المتاحة للتعبير عن رأيه مساحة ليحكي حكاياه الخاصّة، ويبثّ خواطره وانفعالاته الشخصية، يريد بذلك أن يفرّج عن نفسه، ولا أحد يعلم ما هي الرسالة التي يريد إيصالها لقرّائه، وبعيداً عن أية مكابرة، فليقارن الكاتب بين الوقت الذي يستغرقه كتابة مقال (رصين) وآخر (منفعل) ليعرف الفرق بين الكتابة المسئولة واللامسئولة.

قيل الكثير عن الكتابة وقيمتها والكاتب ودوره، فمنهم من يرى أنّ الكتابة (رسالة)، وأنها (نبوية)، وأنّ الكاتب (موقف في عصره)، وأنّ واجب الكاتب والتزامه يجب أن يكون أمام نفسه وقارئه، وأنّ عليه أن يحترم عقل قارئه وذكائه، بينما يسهب تولستوي في وصفهم بقوله: "إنّ الكتّاب الخالدين الذين يهزّون نفوسنا لديهم هدف مباشر من الكتابة كالحرية والجمال، وآخرون لديهم أهداف أبعد كالتعريف بالله، وفلسفة الحياة والموت، وسعادة البشرية .. وأفضلهم أولئك الذين يصوّرون الحياة لا كما هي فحسب .. بل كما ينبغي أن تكون .. وإنّ هذا ليأسرك"، ومن أروع ما قرأت عن الكتابة قول الفيلسوف بومجارتن: "لا توجد وظيفة أكثر نبلاً من وظيفة الكاتب .. إنه الكائن الذي يقود".

في يوم التسامح العالمي نتمنى على وسائل الإعلام أن تمتنع عن نشر أيّة مقال تحريضي تجاه أي فئة من فئات المجتمع لمدّة يوم واحد فقط ثم تجري دراسة ميدانية لترى أثر ذلك على المجتمع وتوافينا بنتائجها السارّة.

رابحة الزيرة
[email protected]
جمعية التجديد الثقافية











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله


.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط




.. 102-Al-Baqarah


.. 103-Al-Baqarah




.. 104-Al-Baqarah