الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين تعانق حركة -حماس- الزمان

عياد البطنيجي

2009 / 11 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



الفكر هو صياغات عقلية نفسر من خلاله الواقع ونحاول فهمه، وحيث إن الواقع يتطور ويتبدل، والعقل الإنساني المنتج للفكر والمتفاعل بالواقع يتطور بدوره، فإن الفكر الإنساني في حالة صيرورة وتحول؛ لأنه يفعل بالواقع وينفعل به في نفس الوقت.
والعلاقة بين الفكر والوجود أو العقل والمادة هي المسألة الأساسية في الفلسفة، أي الصلة التي تربط الظاهرات المادية والروحية ومن منها يسبق الآخر: الظاهرات المادية تسبق الروحية أم العكس؟ وبتعبير آخر، ما الذي ينبغي اعتباره الأولي العالم المادي والطبيعة، أم الوعي؟ . دون الخوض في هذه المسألة؛ لأنه ليس ها هنا مجالها، بل ما نروم إليه هي مسألة الحقيقة وارتباطها بالتاريخ وعلاقة كلاهما بما يجري اليوم مع حركة "حماس" كنموذج نبغي تطبيق تلك المسألة عليها؛ وذلك بهدف تقديم النصح والإرشاد للعقل الذي يدير الحركة ويوجهها لوجهة معينة دون أن يدري أين يسير وفي أي اتجاه يتجه وأي فاجعة ستنتظره وأي محنة سيلقاها، إن لم يدرك هذا العقل قوانين الحركة والتاريخ!.
كنت مترددا في كتابه هذا المقال؛ لأنه قد يفهم في غير سياقه وهدفه، لاسيما أن الساحة الفلسطينية محكومة اليوم باستقطاب ثنائي شديد الحدة: فأي نقد لـ"حماس" يصوره البعض بأنه انحيازٌ سافرٌ لـ"فتح". وهنا تغيب الفكرة في متاهة هذا الاستقطاب، وتصبح فكرة غير واقعية، والضحية هنا بالتأكيد هي الحقيقة. لأن الكل بات محكوماً باعتقاداته اليقينية المسبقة، وبأحكامه وبتحيزاته الجاهزة حين يفسر الأشياء من حوله؛ لأن الإنسان- عموماً- يجد سلامته الشخصية وأمنه الاجتماعي وراحته العقلية في الشائع والسائد والجاهز من الأقوال والتفسيرات والأحكام والقناعات.
وهكذا، فالحقيقية التي هي هدف كل فكر إنساني يبغي الوصول إليها، باتت هي الضحية والجثة الهامدة الميتة بسهام الفصائل الفلسطينية .
وعودة على بدء. إن المتأمل في التاريخ الإنساني يرى أن مصير الفكر حين يدخل في الزمان لابد أن ينتهي بصاحبه إلى فاجعة. الزمان هو ذلك الامتداد في الماضي والحاضر والمستقبل، يعني حركة الكل، يعني التطور والتغير، يعني البداية والنهاية . أما الحقيقة تنتمي إلى عالم الأزل والأبدية عالم الثبات والدوام الذي يعلو على وقائع التاريخ ويفارقه. وحين تتجسد الحقيقة في الإنسان وتلتحم في الواقع فإنما تعانق الزمان وتحل فيه، والزمان في حالة حركة وصيرورة وفي تغير دائما لا يعرف الثبات فالتغيير هو قانون وسنة الكون. وهكذا فان الزمان خاضع خضوعا تاما للتغيير والتحول والتطور هو وكل ما ينطوي عليه. والنتيجة المترتبة على ذلك هي أن الحقيقة تقع ضحية هذا التجسد؛ لأنها ستفقد براءتها وطهوريتها وجمالها وبريقها؛ لأنها تجسدت في الواقع والتحمت به مما يترتب عليه جملة من الإشكالات التي يمكن أن تعتري أي إنسان تحل فيه؛ لأنها تحولت من أفق المطلق والتحمت أو تجسدت في النسبي والآني، مما يترتب عليه فقدان جزء من بريقها، بل أهدافها وقوتها، مما يمهد الطريق إلى أفولها وذوبانها، ليس كلها بالطبع؛ بل ثمة ما يبقى منها القادر على البقاء والاستمرار. وهكذا فإن كل فكرة تحمل بين طياتها بذور فنائها.
إن ما حدث لتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، لا يشذ عن هذه القاعدة. وإلا كيف نفسر ما حدث وما أصاب هذه الحركة من حوادث ضخام جسام؟ وكيف نفسر تلك الانحرافات المتفاوتة الخطورة والعمق التي حدثت مع كل التيارات السياسية التي قادت الحركة الوطنية الفلسطينية؟. وكيف نفسر ما وصل إليه مصير الحركة الوطنية من فرقة وانقسام وتشرذم؟
كنت قد كتبت مقالا منشورا على النت بعنوان " الحركة الوطنية بمنظور نقدي..أي درس لحماس"، قلت فيه: إن الخبرة التاريخية تشير بأن كل مرحلة من مراحل التاريخ الفلسطيني المعاصر يسيطر لون سياسي على الحركة الوطنية ويوجهها حسبما يريد طبقا لرؤيته السياسية، المشكلة أن هذا اللون أو التيار السياسي يصل إلى القمة دون أن يحقق أهدافه الكبرى، ومن ثم يكون ذلك سببا في سقوطه وانهياره وفقدان ثقة الجمهور فيه، ومن هنا يصعب على هذا التيار العودة مرة أخرى إلى ساحة العمل السياسي.
أكد الفوز الذي حققته "حماس" في الانتخابات البرلمانية التي جرت في العام 2006، أنها باتت التيار الرئيس في الساحة الفلسطينية. فللمرة الأولى في التاريخ الفلسطيني تتحقق الغلبة لحزب إسلامي. قبلها كانت "حماس" عبارة عن فكرة غير ملتحمة بالواقع وغير متجسدة؛ إلا باستثناء كحركة مقاومة فقط وهذا جزء يسير مما باتت عليه "حماس" اليوم. وحتى فكرة المقاومة التي بنت "حماس" نفسها عليها، كانت مقاومة مفارقة للحسابات العقلانية والمصلحية، أي أنها بقيت محكومة في أسر المطلق بعيدة عن الواقع وتعقيداته؛ لأن الحركة نفسها لم تعانق الواقع بعد، لاسيما أنه ليست من مسؤوليتها إدارة أمور الفلسطينيين، فهذا الأمر لم يكن ضمن حسابات الحركة .
لكن بعد تبوؤها النظام السياسي الفلسطيني، باتت "حماس" التيار الرئيس المتحكم بمفاصل الحركة السياسية الفلسطينية على الأقل في قطاع غزة، وما يترتب عليه من تحمل أعباء الحكم والسياسة وإدارة الشؤون العامة، باتت "حماس" مفتوحا لعيون الجميع، وأداة مخبريه لمعامل السياسة وشؤون الحكم .
وهكذا تعانقت "حماس" الفكرة الزمان وتجسدت في الواقع وباتت ملتحمة بالنسبي متجاوزة المطلق، بما يترتب على هذا التحول من تداعيات كبيرة تنعكس بدورها على "حماس" الفكرة، وتمسي هذه الأخيرة متجاوزة لقناعات الناس السائدة عنها من قبل. وبذا تتبدل الرؤى والأفكار عنها وتبتعد هذه القناعات وتتحول لجهة أخرى قادرة على أن تلبي ما عجزت عنه "حماس" من تلبيته من حاجات إنسانية ووجودية حسب متطلبات الواقع المعاش وخصوصيته. هذه هي العلاقة الجدلية بين الزمان والمكان بين الحقيقة والتاريخ بين المطلق والنسبي. هذا هو قانون الجدل.
إن قراءة تحليلية لحركات الإسلام السياسي، تشي أن ثمة أغلبية لا تدرك هذا القانون؛ لأنها لا تدرك الزمان أصلا أو أن إدراكها ليس كما يجب أو لم يكن حقيقيا وصحيحا أو يعتريه الغموض، وهذا يؤدي إلى فشل هذه الحركات عندما تتحكم في مفاصل الأمور، من تنظم الجماعات الإنسانية داخل شبكة نسيجها الماضي والحاضر والمستقبل. فأهدافها غير خاضعة لزمان وليس المهم أن تتحقق اليوم أو غدا أو لا تتحقق المهم أنهم معتقدون بصحتها المطلقة. فالماضي معبودهم وبالتالي فهو منسي لأنهم يركزون فقط على ما يناسبهم، والمستقبل لا سبيل إلى تصوره .
إنني ادعي بأن الوعي بالتزامن والتعاقب ( تلك الأيام ندولها بين الناس) غير مدرك على حقيقته لدى هذه الحركات، فهي تنظر إلى الماضي بأنه يجسد ما تدعيه من أطروحات، وأن المستقبل لهم هكذا بشكل اعتباطي، وأن أهدافهم سوف تتحقق وعلى أتباعهم الصبر. فعندما تسأل أحدهم على أن عمر الحركة الأم للحركات الإسلامية تجاوز الثمانين، ولم تحقق أهدافها الكبرى ومتى ستتحقق تلك الأهداف إذن؟ يردون عليك بأن هذا بيد الله . أما الآخر فمآله إلى زوال. وهكذا يتحولون إلي مركز والعالم يدور من حولهم ويضيع قانون النسبية وجدلية المجتمعات الإنسانية في مفاهيم غامضة ليس لها أي مدلولات.
أضف إلى ذلك إن لدى الكثيرين من أتباعهم احتقارا للدنيا أي احتقار للزمان والتاريخ وحتى للفعل الإنساني. فسمعت أحدهم وهو يخطب في عزاء أحد الشهداء فقال: لقد رحل عن هذه الدنيا العفنة. إذا كانت الدنيا عفنة ومحتقرة لديه كيف سيعمرها ؟ وتعميرها يتطلب بالطبع إدراك القانون المذكور سابقا.
هذه الملاحظات السريعة حول قصور التفكير الجدلي، واضطراب منهجية التفكير، ليست محصورة بحركات الإسلام السياسي فقد، بل هي سمة تفكير المجتمع المتخلف الذي يفرز هذه الحركات والقوى السياسية والفكرية. وهو بالطبع ليس وليد خلل عضوي كما تصوره الدراسات الغربية المتحيزة، بل وليد البنية الاجتماعية المتخلفة ووليد القهر والتسلط والحرمان، هذه البنية التسلطية والقهرية والرضوخ، تفرز تلك الأشكال الاجتماعية والفكرية والسلوكية المتخلفة أيضا، تلك الأشكال من السلوكيات المتمظهرة في الحركات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي تتلخص بنيتها الذهنية كما يصورها الدكتور مصطفى حجازي في كتابه "التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور"، في العجز عن التخطيط، النظر إلى الواقع بشكل تجزيئي زمانيا ومكانيا، يغلب عليها التركيز على الحاضر، الانحسار ضمن حدود آنية، الأفق المستقبلي يظل ضيقا ولا يصل مستويات بعيدة المدى، وتبديد للجهد والإمكانات. وتظل الأمور على حالها من التخبط . فـ"التخبط الذهني، والفوضى، والعشوائية، وسوء التخطيط والارتجال كلها تعد من ملامح التخلف الأساسية" (ص59).
فما جرى ولا زال يجرى مع حركة "حماس" في غزة، أن الحركة عانقت الزمان وحلت فيه وخضعت لقانون الصيرورة الصارم ودخلت مجال الحركة، وبالتالي انكشفت عوراتها الفكرية وحقيقتها المطلقة وفقدت براءتها الأولى؛ لأنها تقمصت جملة الإشكال الزمنية التي يمكن أن تعتري أي حركة سياسية تصل إلى الحكم ويتطلب معها أن تدير شؤون الناس. وهكذا بات حتما أن تفقد براءتها وطهوريتها الأولى التي جاءت من أفق المطلق. إن بقاء "حماس" مسيطرة على قطاع غزة حتما سيدفعها ذلك إلى التفاوض مع إسرائيل، وهو ما بدأت ملامحه من الظهور حيث هناك فتوى دينية أباحت التفاوض مع إسرائيل؛ لأنه من منظور هذه الفتوى " الحمساوية" أنه ليست المشكلة في التفاوض لكن المشكلة فيمن يتفاوض! السلطة الفلسطينية ليست عندها حصانة "إيمانية" ولا حصانة "وطنية"! أما حركة "حماس" فلديها الحصانتين: الدينية والوطنية .
وعليه فحين عانقت حماس الزمان انتقلت من الفكرة المطلقة التي تحرم التفاوض مع إسرائيل، إلى قبول التفاوض معها. ومن هنا قبلت "حماس" ما كانت ترفضه في الماضي . ليس ذلك فحسب، بل قامت بالاعتداء على بطش بجماعة "جند أنصار الله" حين تمردت على سلطة "حماس" ورفضت الانصياع لمطالبها بوقف إطلاق الصواريخ و"المقاومة" فكانت مأساة مروعة وموجعة لنا جميعا. بالإضافة إلى أنها في حالة من التوتر والخلاف مع باقي الحركات الأخرى المقاومة لإسرائيل، فـ"حماس" في حالة حرب ضروس لإقناع هؤلاء بقبول التهدئة رغم عدم احترام إسرائيل لها، وهو موقف مخالف لمواقف "حماس" في الماضي، حيث كانت ترى آنذاك أن الساحة الفلسطينية تتسع لكل الرؤى والاجتهادات في مقاومة المشروع الصهيوني. وبعد انخراطها في شؤون السياسة والتسوية بتنا نرى مواقف مختلفة تماما عما عودتنا "حماس" عليه، وباتت تطرح مشروعا للتهدئة طويل الأمد، بعد أن كانت تحرم وقف الجهاد. بالإضافة إلى الخلافات والتوترات الداخلية التي تعتري صفوف أقطاب الحركة منذ أن بدأ ترويضها بإدخالها النظام السياسي . ناهيك عن المتطلبات المعيشية لأهالي قطاع غزة المسئولين من "حماس"، والتي تشكل ضغطا كبيرا عليها، ووضعها في مأزق مضاعف ومركب.
إذن حينما عانقت "حماس" الزمان وتجسدت فيه وانتقلت من المعارضة إلى الحكم، باتت موقفها تشهد تغيرا عما كانت عليه في الماضي حينما كانت في "المعارضة"، وبالتالي اليوم هي في السلطة "حاكمة" ومنطق "الحكم" غير منطق "المعارضة".
يمكن القول إن "حماس" لم تعد كما كانت في الماضي، فحيثما دخلت "حماس" الحركة وعانقت الزمان فقدت بالتالي المطلق وباتت تتقمص جملة الأشكال الزمنية والحياتية والنسبية التي لم تتعود عليها في الماضي، هذا التغير يعني أن حماس باتت تقترب من طور الشيخوخة وإنها بصدد الدخول في محنة وهي محنة ناتجة عن التحامها في الزمان. هذا هو مصير الفكر الذي يؤول إليه عندما يدخل الزمان، فينتهي بصاحبة إلى فاجعة. واني أجزم بأن "حماس" دخلت في مرحلة لن تخرج منها كما كانت عليه في الماضي، بل سيكون حالها في المستقبل مختلفا تمام عنه في الماضي، وسوف يؤول مصيرها إلى ما آل إليه غيرها ولكن بصورة أسوء وبشكل أسرع. وهو ما يمهد الطريق لبروز تيار آخر يقود الحركة الوطنية الفلسطينية من جديد، يتجاوز سلبيات "حماس"، وبخاصة إدارتها شؤون الفلسطينيين بعقلية مذهبية وعصبية حزبية ضيقة لا تمت إلى مفاهيم العصر بصلة، ناهيك عن فشلها في إدارة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وأمست عبئا على المشروع الوطني الفلسطيني.
باختصار عندما عانقت "حماس" الزمان بتنا نشهد تغيرا في الايديولوجيا تمظهر في قبولها بفكرة التفاوض مع إسرائيل، بعد ما كانت تسميه خيانة وعماله وخضوعا. وأوقفت المقاومة وقبولها هدنة طويلة الأمد، بعد أن كانت تحرم وقفها وترى فيها خيارا استراتيجيا. وأصولية متطرفة تمظهرت في القضاء على خصومها بعد أن كانت ترى الساحة تتسع لكل الاجتهادات والرؤى لمقاومة المشروع الصهيوني. وسعيها إلى الاعتراف الأمريكي بها، بعد أن كانت ترى أمريكا أس البلاء. وعليه، "فحماس" وقعت في مأزق صعب الخروج منه والعودة إلى ما كانت عليه الحركة. إذا فهي تغيرت ولم تبق كما كانت في الماضي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد أنباء سقوط طائرة الرئيس الإيراني.. المرشد الأعلى: لا تعط


.. عالم دين شيعي: حتى القانون الألهي لا يمكن أن يعتبره الجميع م




.. 202-Al-Baqarah


.. 204-Al-Baqarah




.. 206--Al-Baqarah