الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق .. الجغرافيا المُغَيّبَة 2

باسم فرات

2009 / 12 / 9
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ترى هل أعتباطاً أن يُصرح السيد مسعود البرزاني بالقول" أكره بغداد "(6) وهو الأبن البار لثقافة العشيرة والعلاقات الرعوية الجبلية، والدروشة، نعم لم يكن اعتباطاً، انما هو تعبير قيل في لحظة صدق وصفاء نادرة مع النفس، لأن بغداد (وريثة بابل الشرعية التي حلم الاسكندر المقدوني ذات يوم أن يجعلها عاصمة امبراطوريته العالمية الجديدة) التي منها اشتقت كلمة التبغدد، وما تعنيه هذه المفردة، من مَدَنية راقية، ظلت تمثل في المخيال العام رمزاً لدولة مَدنية عظمى، حققت طفرات كبرى في مجالات مختلفة، وهي بهذا سجن لأعداء القانون، وعشاق الحرية الرعوية، الذين يشعرون باختناق وغربة قاتلة حين يدخلون المدن.
وما يكنه البرزاني لبغداد هو ذات ما يكنّه الرعاة المتريفون لسرة العراق، وقد لمسنا هذا في السنوات التي تلت التاسع من نيسان 2003 ، مثلما عانينا منه في العقود الثلاثة التي سبقت التاريخ المشار إليه آنفاً.

لو قُدر للعراق أن ينعم باستقرار نسبي، لتناسل جيل بل أجيال، تحمل خبرة الجيل المؤسس الذي وضع الكثير من اللبنات الصالحة في بناء الدولة، ولما تحول تاريخه الثر إلى تاريخ معقد، وهنا الفرق ليس واضحاً بين كلمتي ثر ومعقد فحسب بل هو فرقٌ كارثي، لأنه يفسح المجال واسعاً لكل كسول أو طارئ أن يدعي ما يدعي، وأن يُزَيّفَ تاريخ البلد، من قبل أي جهة، تجد في ذلك مصلحتها، الى درجة يمكن القول معها، إن لدينا منظومة تكاد تكون منتشرة كالنار في الهشيم، منظومة قائمة على التعمية، وخلق أساطير مؤسسة على إضعاف البلد، بل وتدميره، من خلال إلغاء جغرافيته، وإنكار الوجود الجغرافي للدولة العراقية، وتجاهل الوحدة الجغرافية للعراقيين، وبث مقولات معينة وتكرارها بشكل نفسي، معتمدين على ضخامة وسائل الاعلام، وجهل العقل السياسي العراقي، بل الأنتليجسيا العراقية، بتاريخ الوطن، ومتخذين من معاناة العراقيين الطويلة، مع الحروب ومفتعليها، وسائل لتزييف حقيقة العراق الذي ولدته الجغرافيا، وتاريخه القديم والحديث، كتاريخه المستقبلي، تحدده الجغرافيا، واختصار المشهد الخلاب لفسيفساء التنوع الديني والمذهبي والقومي للسكان، الى شيعة وسُنّة وأكراد، في إشارة خبيثة الى ولايات الموصل وبغداد والبصرة، رغم ان عاصمتي التشيع في العالم وهما " كربلاء والنجف " تقعان ضمن ولاية بغداد، وكذا الحال مع سامراء والدجيل وسواها، إضافة الى مدينة الكاظمية التي هي الان جزء من العاصمة بغداد. أما ولاية الموصل، فعاصمتها، مدينة الموصل، أعرق مدينة بغالبية عربية، في العراق ( حسب حجر بهستون الذي يزيد عمره على 2500 سنة )(7)، وكركوك وأربيل وتلعفر وسواها مدن بغالبية تركمانية منذ القرن الحادي عشر حين انتشر السلاجقة بشكل كثيف في شماله (8)، والسليمانية مدينة بغالبية كردية مطلقة منذ هطول القبائل الكردية في القرن السادس عشر ومابعده، هروباً بمذهبهم من التشيع الذي فرضه حكام بلدهم الأم إيران، وهناك غيرها من المدن الصغيرة والقرى المشتركة لغوياً ودينياً ومذهبياً، وكانت النسب السكانية في هذه الولاية قبل الحرب العالمية الأولى، لا فروقات كبيرة بينها، مع تواجد مسيحي واضح ( سرياني، عربي، أرمني، تركماني )، شكّلَ عامل توازن فيها، على العكس من ولايتي البصرة وبغداد، اللتين تشكّل نسبة الناطقين بالعربية فيهما غالبية مطلقة. وإذا عدنا لأجيال عدة قبل الحرب العالمية الأولى، فسنجد أن غالبية سكان ولاية البصرة كانوا سُنّة، وأن تشيعهم لَحديث. ففي الوقت الذي كان الدعاة الشيعة ينتشرون وينشطون بين سكان الأرض الأصليين في مدن العراق القريبة من مركزي التشيع النجف وكربلاء، وينحدرون مع النهرين جنوباً، مستندين أولاً على تواطؤ الحكومة العثمانية التي رأت في انتشار التشيع خير سَدّ منيعٍ لها أمام تعاظم القوة السلفية الوهابية التي باتت تزعج الباب العالي والأهلين على السواء، بل يمكن القول إن مصلحة الحكومة العثمانية اقتضت أن تدعم هؤلاء الدعاة لتضمن تدفق الضرائب من القبائل العربية التي توطنت مؤخراً وراحت تعمل في الزراعة(9)، وثانياً على نقمة الفلاحين من عدم اهتمام حكومتهم السنية بهم، والتي تحول دورها من حام وراعٍ ومسؤول عن رعيته الى سارق لأرزاقهم وزاجٍّ بشبابهم في حروب لا تنتهي وسفرٍ لا عودة منه وتعسفٍ في معاملتهم، وفي ذات الوقت أيضاً، كانت تنشط على الجانب الآخر، في المنطقة الجبلية، حركة نزوح كثيفة من الجانب الايراني الى الجانب العراقي. ولابدّ من التأكيد على أنه لا توجد في العراق أراض قومية، بل توجد فيه قوميات وأقليات نزحت إليه، وكل حديث عن نزوح من الغرب والجنوب الغربي فقط هو باطل إن لم تلحقه تأكيدات عن نزوح من الشمال والشرق، لأن قول نصف الحقيقة، يكون مدمراً للبلد وأهله أحياناً، خصوصاً وأن الغالبية العظمى من سكان شمال العراق وشماله الشرقي هم نزوح لا يرقى الى بضعة قرون سبقت القرن العشرين، مثلما من المُعيب اعتبار فئة ما غازية وأخرى مهاجرة(10)، فنحن خليط من جميع الأقوام التي استوطنت بلادنا، والهجرة إلى العراق لم تنقطع من جميع جهاته.
لقد لعب كل من المخيال الشعبي وصورة البطل الفذ المغامر، دوراً كبيراً في انتشار التشيع بين العراقيين في القرون الثلاثة الأخيرة التي سبقت القرن العشرين، وذات المخيال، لعب دوراً في صعود شخصيات الى سؤدد المجد والعظمة، من حيث تستحق أو لا تستحق، وكمثالين على ذلك، أحدهما من التاريخ القديم والآخر من تاريخنا المعاصر(إن صدقت الوثائق التي بين أيدينا في إدانة هذين الرجلين تماماً) نجد قديماً صلاح الدين الأيوبي، ابن عائلة مرتزقة تعمل مع مَن يدفع أكثر، تم شطب كل سلبياته وجرائمه الشنيعة، وحرقه للمعرفة، ليتوج رغم أنف الحقيقة والضحايا والمعرفة، بطلاً لا يبارى، و المثال المعاصر، صدام حسين، الذي سمح جهل ضحاياه وطيشهم، أن يلامس المخيال الشعبي والبطل الفذ المغامر، ولا نستغرب ان تضخّم العقود القادمة أو الأجيال الآتية، حسناته، وتعيد كتابة سلبياته بما يجعلها بطولات فذة، فكلما مر زمن، تتسع الصورة ويسقط عنها صراخ الضحايا، ونواح الأرامل والثكالى، حتى يصبح أمر مناقشة حقيقة صدام حسين، كفراً وضلالاً، وسوف نبقى نعاني من هذا المخيال، ما دامت أنظمة التعليم بدائية في شرقنا الحزين.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تطبيق يتيح خدمة -أبناء بديلون- لكبار السن الوحيدين ! | كليك


.. تزايد الحديث عن النووي الإيراني بعد التصعيد الإسرائيلي-الإير




.. منظمة -فاو-: الحرب تهدد الموسم الزراعي في السودان و توسع رقع


.. أ ف ب: حماس ستسلم الإثنين في القاهرة ردها على مقترح الهدنة ا




.. متظاهرون مؤيدون لفلسطين يلاحقون ضيوف حفل عشاء مراسلي البيت ا