الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القذافي فاتحاً للجنّة

هوشنك بروكا

2009 / 12 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


على خلفية المبادرة الشعبية الأخيرة، التي صوّت فيها السويسريون بنسبة 57.5 لصالح تعديل دستوري على المادة 72 يقضي ب"منع بناء المآذن"، أطلق "الفاتح" معمّر القذافي كعادته، تصريحاً نارياً، "مسّخ" فيه الغرب كله، بفوقه وتحته، بماضيه وحاضره، بأرضه وسمائه، إلى مجرد "مكان وحشي"، تمشي عليه الحشرات، مثلها مثل "العنكبوت والنمل والنحل".

القذافي، الذي يعتبر نفسه "خليفة الله" أو ظله على الأرض(كما تشي بذلك كل خطاباته المطّعمة بآيات من القرآن الكريم)، شنّ هجوماً كلامياً كبيراً على الغرب، واصفاً ناسه ب"اللابشر"، و"الحشرات المجتهدة"، وحياتهم ب"عديمة القيمة"، بقوله: "هؤلاء الناس متقدمون جداً في العلوم المادية والتقنيات العصرية، وتقدموا جداً في الفضاء وفي الطب والعلوم التطبيقية، وحققوا تقدماً مذهلاً، لكنهم صفر من الناحية الإنسانية، ولا شيء من الناحية الاجتماعية، ذلك أن حياتهم ليست لها أي قيمة(...) يمكن المقارنة بينهم وبين الحيوانات.. إن العنكبوت والنمل والنحل، هذه الحشرات واصلة إلى درجة عالية جداً من التقدم والتقنية، فالهندسة التي عند النحل، والإنشاء والبناء في بيت العنكبوت، حاجة مذهلة جداً، ومع هذا هي ليست إنساناً فهي حشرة".

هذا ما قاله رئيس دولة عربية مسلمة، وصاحب ما تسمى ب"النظرية العالمية الثالثة"(المطروحة كنظرية بديلة عن الرأسمالية والشيوعية) التي تضمنها الكتاب الأخضر، والمعروف بفتحه لأبواب ليبيبا على إفريقيا، وجهوده الحثيثة التي بذلها لتحويل "منظمة الوحدة الإفريقية" إلى "الإتحاد الإفريقي"، وذلك في القمة الإفريقية المعروفة بقمة 9.9.1999 التي صدر عنها إعلان سرت التاريخي الشهير.

وكي يمرر القذافي كلامه الخارج على كل العقل(أو يشرّع مروره)، إلى عقل الجمهور المؤمن، استغل "المقدس" ومناسبته، فربط اكتشافه لأوروبا "الحشرات" بالإستفتاء السويسري الأخير، منتقداً نتيجة التصويت الأخير على حظر المآذن، بقوله: "نحن لا نميز الجامع عن مستودع السيارات أو عن الدكان وعن المنزل، إذا كانت لا توجد فيه مئذنة".

لا شك، أنّ الكثير من الجمهور المؤمن المسلم البسيط سيصدق "نظرية" القذافي الجديدة، التي تقول ب"تحوّل" الأوروبيين إلى "حشرات آدمية"، وذلك بمجرد اختبائه وراء المقدس(أو امتطائه لصهوته)، عبر دفاعه المستميت عن المئذنة، بإعتبارها جزءاً لا يتجزء من قدس المكان، أو في كونها تساوي الجامع أو المصلّى كله، وتُرمز إلى "قدس المكان"، من أوله إلى آخره.

الجمهور المؤمن المسكين المغلوب على أمره، سيصدق كلام القذافي بالفعل، على أنه "كلام في المقدس"، وكتاب الله، ومكانه وزمانه، أكثر مما يكون كلاماً في السياسة ومدنساتها ومقامراتها وشطحاتها، كما هو حال الكثير من كلامه "الكبير"، بمناسبة أو بدونها.

هذا الجمهور الكاره للتاريخ(الفاعل على أية حال) والخارج عنه، والذي لا يرَ تاريخاً خارج تاريخ المقدس، لن يعود لا إلى القريب من التاريخ ولا إلى البعيد منه، ولن يتذكر بالطبع غضب القذافي على سويسرا، قبل أن تمنع المآذن بأكثر من 17 شهراً، وذلك على خلفية أزمة احتجاز سلطات الأمن في مدينة جنيف السويسرية في يوليو 2008، لـ«هنيبعل»، أصغر أنجال القذافي، وزوجته بتهمة الاعتداء على خادمين لهما.
حينها لم تكن سويسرا قد منعت المآذن، بل كانت قد "منعت" نجل القذافي الأصغر من الإعتداء على خدَمه، على أراضيها، وتحت سلطة قوانينها.

أزمتئذٍ، فجّر القذافي غضبته، داعياً إلى "تفكيك" سويسرا، وتقسيمها بين ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، واصفاً إياها بأنها "مافيا دولية، ومنبع للإرهاب المادي، "، فقط لأن سلطاتها قامت بإحتجاز نجله وزوجته، بناءً على شكوى تقدم بها خادمان بتهمة ضربهما".

حينها لم تكن هناك لا أزمة بناء مآذن ولا هم يحزنون.

والآن، حان للقذافي، وقت "الثأر الصحيح" من سويسرا الصحيحة، ليخرج علينا ب"خطابه الناري" هذا، ليثأر بدين الله لدنيا نجله، وليحرق بكلامه المرفوع على "مناراتٍ ممنوعة"، كل الغرب و"حشراته الأوروبيين"، بحجة "الدفاع عن الله"، وأن سويسرا منعت "بناء المآذن"، أو منعت على المسلمين دينهم.

هنا نسى "فاتح" ليبيا، أو تناسى، أن في قاع ديكتاتوريته شعب أمازيغي مسلم أعزل، أكثر من مظلوم، يريد أن يعيش على أرضه التاريخية بهويته وثقافته ولغته، ككل خلق الله، ولكنه ممنوع من الصرف، ليبياً، برسم قراره، لا بل "سيسحق كل من يقول أنه أمازيغي"، على حد قول الديكتاتور.

فاتح "الجماهيرية العظمى" لم يحجب عن الغربيين في الدنيا صفة "الإنسانية" فحسب، وإنما حجب عنهم في الآخرة نعمة العبور إلى الجنة أيضاً، وكأن به يذكّر العالم و"يحذرهم"، بإنسانه و"حشراته"، بأنه "فاتح" الجنة الأول والأخير، وبيده مفاتيحها، ليُدخِل إليها من الناس من يشاء، ويمنعها على من يشاء. لهذا نراه يتمنى على أن "لاتكون سويسرا مسلمة، حتى لا تدخل الجنة، ولا يرضى عنها الله.. ويحب أن تظل في وثنيتها إلى يوم القيامة وتدخل النار".

هذا ما أراده رئيس عربي مسلم، في عصر الثورة الرقمية، حيث بات الكون كله قرية صغيرة واحدة، لشعبٍ طالما كان سباقاً في صناعته لدرر الصكوك والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
سويسرا التي كانت السباقة في صناعة الإنسان وحقوقه، هي الآن وشعبها لا يستحقان سوى نار جهنم وبئس المصير، حسب "مواثيق" القذافي، المستندة إلى شرعية دفاعه عن دين الله، كما يريد أن يقنعنا، ويأكل الحلاوة بعقلنا وعقل الجمهور المؤمن الساذج.

لاشك أنّ التعبير عن الرأي، حق مشروع ومقدس لكل البشر، بغض النظر عن لونه، أو دينه، أو عقيدته، أو فكره. ولكن أن يصل الأمر في هذا الزمان المفتوح، وهذا العالم المتطور جداً، برئيس دولة عربية مسلمة، يدّعي الدفاع عن روح الإسلام ومقدساته، إلى أن يصف شعوب عالم بأكمله(العالم الغربي) ب"الحشرات" ال"عديمة القيمة"، وب"الصفر المعطّل" على شمال الإنسانية، ويكفّر شعوباً بأكملها، ويرميها كما تشاء إرادته، في الجحيم، فهذا أمرٌ يحتاج إلى أكثر من تساؤل، وأكثر من مساءلة للعقل العربي، الذي يعيش تاريخاً يموت، أكثر من عيشه لراهنٍ يحيا.

والطامة الكبرى، هي أنّ القذافي هنا ليس واحداً، وإنما هو كثير جداً، أو هو "مفرد بصيغة الجمع"(على حد تعبير الكبير أدونيس). فهو "مفردٌ كثير جداً" ممّن يرتكبون "العقل العربي"، عن سابق إصرار وترصد، ويقدمونه للعالم بإعتباره "نموذجاً" يُحتذى به، جماهيرياً، لآخر ما توصل إليه العرب من عقل و"عبقرية".

فالقذافي لم يقل كلمته ليمشي فحسب، وإنما قالها ليُسكت عليها، ثم ل"تُشرّع"، عربياً بخاصة وإسلامياً بعامة، لتصبح بالتالي مثالاً ل"درر" الكلام و"خيره". لهذا لن نسمع(لا الآن ولا غداً ولا بعده، كما علّمنا التاريخ الراكد منذ 1400 سنة) داعيةً، أو مرجعاً إسلامياً، أو منظمةً إسلاميةً، أو مؤسسةً لها شأنها كالأزهر مثلاً، ترد على كلام القذافي أو تصححه في الأقل، وتضعه في المسار الصحيح، بما فيه خدمة الشعوب الإسلامية قاطبةً، كما فعل الفاتيكان مثلاً، في موقفه الأخير من تصويت السويسريين لصالح حظر المآذن في بلادهم، واصفاً إياه بأنه "ضربة قاسية لحرية المعتقد".

فالموقف الذي جاء على المستوى السياسي، "صحيحاً" و "مشروعاً" بالنسبة للسويسريين، كما أثبتت نتيجة التصويت، لم يمنع الفاتيكان من الوقوف بعكس التيار، و"تصحيح" الموقف من وجهة نظر الكنيسة، علماً أن حوالي 41.8 من الشعب السويسري يعتنقون المذهب الكاثوليكي.

هذا الموقف البابوي، خلق، دون أدنى شك، ارتياحاً كبيراً لدى العالم الإسلامي، وربما كان السبب الأساس في امتصاص غضب الشوارع الإسلامية هذه المرة، وذلك على خلاف كل المناسبات السابقة، التي أقام فيها المسلمون الدنيا ولم يقعدوها.

لست هنا، بصدد الدفاع عن دين ضد دين آخر، أو إقامة دين على أنقاض دين آخر. أبداً. فكل الدين من عداه، هو عندي سواء بسواء.
ولكن كل دين أو عكسه، لا يؤدي إلى الحرية في الإنسان، أو إلى الإنسان في حريته، هو "سجن مقدس" يحرسه طابور من "الشيوخ المقدسين".

كل إنسان حرٌّ، مثلما خلقه الله حراً، في أن يعبد ما يشاء، كما يشاء، ف"من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"(الكهف:29). من هنا ليس من حق أحدٍ(أياً كان هذا الأحد) أن يفتي ب"تكفير" الآخر أو خروجه على الله، كما "أفتى" القذافي ب"وثنية" الغرب، مكفّراً "حشراته الآدمية"، لأن الله، أعلم بشئون خلقه وأعظم من أن ينوب عنه إنسان، فيقوم بفتح أبواب جهنم لمن يشاء، ويغلقها على من يشاء.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عرب وعرب
سركون البابلي ( 2009 / 12 / 9 - 21:23 )
الشئ المحير في الشعوب التي يحكمها مهرجين من امثال القذافي بانها ساكتة عن هؤلاء وراضية عن المعارك الدونكوشوتية التي يخوضونها ,عجبي على هذه الشعوب التي تقبل على نفسها الاستهزاء المستمر الذي يمارسه الحكام في حق تاريخ هذه الشعوب وثقافتها ,اليس القذافي يسخر من العرب والمسلمين بتصريحاته الكارتونية , ويعكس صورة مهزوزة لشعبه ؟


2 - عبث في عبث
محمد بودواهي ( 2009 / 12 / 9 - 21:53 )
إنها واحدة من الخرجات الديماغوجية المألوفة للقدافي التي يبتغي من ورائها الظهور على الخشبة كنجم كبير تسلط عليه الأضواء من كل جانب لكن الواضح أن سيادة الرئيس لا يريد أن يفهم أن مثل هذه الخرجات البهلوانية لا تثير لدى فقراء ليبيا وأمازيغييه ومناضليه الديموقراطيين - الذين تستنزف خيرات وطنهم بشكل عبثي ويمنعون من استعمال لغتهم وثقافتهم وتستلب حرياتهم وتهضم حقوقهم المشروعة المادية منها والمعنوية - إلا السخرية والاستهزاء والاشمئزاز
فمتى يعي القدافي أن اسطوانته أصبحت مشروخة ولا يصدر منها سوى الأصوات المزعجة


3 - القذافي
عبد العظيم ( 2009 / 12 / 10 - 03:54 )
القذافي ليس رئيس دولة إنه الدولة والدولة هي القذافي


4 - خازوق
أبو الهنا ( 2009 / 12 / 10 - 04:04 )
الشعب السويسري لم يصوت على الدين الاسلامي بل على هندسة العمارة فلماذا ترتفع المئذنة في السماء كالخازوق في مؤخرة الآلهة؟


5 - بطل، هوشنك
المحاصر اسلامويا ( 2009 / 12 / 10 - 08:32 )
مقال رائع من روائعك الكثيرة استاذ هوشنك المليئة فكرا ومنطقا والغزيرة مضمونا وتحليلا وانفتاحا. بيجي بيجي. انا افخر بك.


6 - ضد الصمت.. كلمة ضرورية!!!
أحـمـد بـسـمـار ( 2009 / 12 / 10 - 11:16 )
هذا هو نوع الكتابة الجيدة النادرة التي تعيدني إلى موقع الحوار, بعد طلاق انفعالي, رغم أن أسباب الطلاق لم تجد حلا جذريا واقعيا حتى اليوم.
مقال السيد بروكا تحليل واقعي علمي آكاديمي وخاصة طبي أكثر منه ديني, لتحليل مرض هذا الإنسان الذي يحكم بلده من عقود طويلة, والذي سوف يورث حكمه وأفكاره (وعـقـلـه) إلى خلفه حتما, كما يجري عامة في غالب الدول العربية. أليس بقاء هذا الإنسان وخليفته بعده, أكبر ضمان لديمومة العتمة والجهالة في بلده رغم غناه البترولي, مطمئنا الشركات البترولية وأسيادها أن لا شيء جديد تحت الشمس. ورغم الخطابات الطنانة والدعوات لأسلمة العالم, سيتابع البترول سيوله إلى خزاناتهم, بالأسعار التي يرغبون. وأن القذافي سوف يشتري اسلحتهم ودباباتهم وطياراتهم التي يحارب فيها الذباب.. والذباب فقط.. مع كل شكري وتحيتي للسيد هوشنك بروكا, الذي رغم صدق مقاله وقوته وصراحته الحقيقية, لن يغير أي شيء.. أي شيء من مآسينا مع كل حـكـامـنـا.
أحمد بسمار مواطن عادي بلاد الحقيقة الواسعة.


7 - القذافي ملك ملوك افريقيا
ساري ( 2009 / 12 / 10 - 21:16 )
القذافي ملك ملوك افريقيا ، وقائد ثورة الفاتح ، وصاحب نظرية الكتاب الاخضر ، وإمام المسلمين ، والخليفة القادم للدولة الفاطمية ، وصاحب نظرية ان البرجوازية كلمة عربية اتت من البرج اي الطبقة العالية ، وهو صاحب نظرية ان قبر الرسول ليس في الكعبة ، واخر نظرية للعقيد والمفكر العظيم هي ان الديانة المسيحية ديانة وثنية ، كل هذا الانتاج الفكري العظيم هو من نتاج العقيد العظيم قائد الجماهيرية العظيمة ، يا ليت الله يكتب لنا اعمارا لكي نقرأ النظريات الجديدة العظمية للقائد العظيم

اخر الافلام

.. القوى السياسية الشيعية تماطل في تحديد جلسة اختيار رئيس للبرل


.. 106-Al-Baqarah




.. 107-Al-Baqarah


.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان




.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_