الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المحكمات والمتشابهات في القرآن

تنزيه العقيلي

2009 / 12 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


من موضوعات ما يسمى بعلوم القرآن هو بحث (المُحكَم والمُتشابِه)، كما إن هناك بحوثا قرآنية معروفة أخرى عديدة، كـ(الناسخ والمنسوخ)، و(المكي والمدني)، و(آيات الأحكام)، و(آيات السيف)، وموضوع (القصص القرآني)، وإلى غير ذلك. وما أريد تناوله هنا هو المحكمات والمتشابهات، أو المحكم والمتشابه في القرآن، وما إذا كان وجود المتشابهات في القرآن يمثل عنصر قوة وعامل تدعيم للقرآن، أو عنصر ضعف وعامل تشكيك به.
قبل البدء بالبحث لا بد من تعريف كل من (المحكم) و(المتشابه). (المحكم) هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدا، حيث يكون ظاهر النص كفيلا بإعطاء المعنى المراد منه، دون الحاجة إلى البحث عن تأويل له إلى ثمة معنى آخر. بينما (المتشابه) هو ما يحتمل معنيين أو أكثر، وبالتالي يحتاج إلى تأويل النص الظاهر إلى معنى آخر، عبر سياقات معينة، وقرائن (متصلة) بنفس النص، أو (منفصلة) في نص قرآني آخر، تقود إلى ذلك المعنى، أو عبر بحث مستفيض في القرآن عبر ما يسمى بالتفسير الموضوعي، أو تفسير القرآن بالقرآن، أو عبر نص (مقدس) من النبي أو من إمام معصوم، يكون الرجوع إلى تفسيره وتأويله موثقا بأدلة نقلية، أو عبر استخدام أدلة عقلية، ممن يعول عليها.
لنتناول النص القرآني الذي يحدثنا عن موضوعة المحكم والمتشابه، وهو نص واحد ورد في مطلع سورة آل عمران، وذلك في الآية السابعة، والتي نورد الآيتين التاليتين، لها لكون المعنى لا يتم إلا بإيراد النص لكل الآيات الثلاث من السابعة حتى التاسعة. يقول القرآن هنا:
«هُوَ الَّذي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتابَ، مِنهُ آياتٌ مُّحكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأَمَّا الَّذينَ في قُلوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتنَةِ وابتِغاءَ تَأويلِهِ، وَما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلاَّ اللهُ والرّاسِخونَ في العِلمِ؛ يَقولونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِّن عِندِ رَبِّنا - وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الألبابِ -، رَبَّنا لاَ تُزِغ قُلوبَنا بَعدَ إِذ هَدَيتَنا، وَهَب لَنا مِن لَّدُنكَ رَحمَةً، إِنَّكَ أَنتَ الوَهّابُ، رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النّاسِ ليومٍ لاّ رَيبَ فيهِ، إِنَّ اللهَ لاَ يُخلِفُ الميعادَ.»
أو على قراءة أخرى:
«هُوَ الَّذي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتابَ، مِنهُ آياتٌ مُّحكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأَمَّا الَّذينَ في قُلوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتنَةِ وابتِغاءَ تَأويلِهِ، وَما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلاَّ اللهُ. والرّاسِخونَ في العِلمِ يَقولونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِّن عِندِ رَبِّنا - وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الألبابِ -، رَبَّنا لاَ تُزِغ قُلوبَنا بَعدَ إِذ هَدَيتَنا، وَهَب لَنا مِن لَّدُنكَ رَحمَةً، إِنَّكَ أَنتَ الوَهّابُ، رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النّاسِ ليومٍ لاّ رَيبَ فيهِ. إِنَّ اللهَ لاَ يُخلِفُ الميعادَ.»
والفرق بين القراءتين ليس في اختلاف في الكلمات أو طريقة اللفظ، بل هو اختلاف في قواعد الوقف والوصل، وما كان منهما لازما أو بالأولوية، فهناك قراءتان يؤثر الاختلاف بينهما على المعنى المقصود من هذا النص؛ إذ هناك قراءة تؤدي إلى معنى أن العالمين بتأويل المتشابهات هم (الراسخون في العلم) بعد الله، بقول «وَما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلاَّ اللهُ والرّاسِخونَ في العِلمِ؛ يَقولونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِّن عِندِ رَبِّنا». بينما القراءة الأخرى تحصر علم تأويل المتشابهات بالله وحده، حيث تفرض وقفا لازما بعد لفظ الجلالة، وتجعل ما بعدها جملة منفصلة جديدة، فتكون قراءة النص على هذا النحو: «وَما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلاَّ اللهُ. والرّاسِخونَ في العِلمِ يَقولونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِّن عِندِ رَبِّنا». إذن هناك فرق جوهري بين قول «وَما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلاَّ اللهُ والرّاسِخونَ في العِلمِ»، والذين «يَقولونَ: آمَنّا بِهِ، كُلٌّ مِّن عِندِ رَبِّنا»، وبين قول «وَما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلاَّ اللهُ» وحده، وأما «الرّاسِخونَ في العِلمِ» فليسوا ممن يشاركون الله في العلم بتأويل المتشابهات، بل يأخذونه على ما هو و«يَقولونَ آمَنّا بِهِ، كُلٌّ مِّن عِندِ رَبِّنا»، سواء كان محكما ومفهوما من قبلنا، أو متشابها ويحتاج إلى تأويل نحن عاجزون عنه، لأن الله وحده الذي يعلم تأويله، فهم يتعبدون بالنص الإلهي، سواء فهموه أو لم يفهموه. وهذا هو التفسير السلفي أو الأشعري، الذي يستبعد العقل من الخوض في محاولة فهم ما لا نص فيه، أو ما هو على غير المعنى الظاهر للنص. وهو فهم واضح تهافته، لأننا إذا فرضنا أن هذا الكتاب منزل من الله الحكيم، والمخاطَب به هو الإنسان، فهل من الحكمة أن يخاطب حكيم مخاطَبين بما لا يفهمونه ولا يجدر لهم أن يحاولوا فهمه؟ ولذا فالقراءة الثانية التي تفترض أن هناك من الناس من يعلمون تأويله أيضا، ولو دون العلم الإلهي، لكون علمه مطلقا بينما علمهم نسبي، أولئك ممن وصفوا بالراسخين في العلم ممن يحسنون تأويل ظاهر النص إلى المعنى الحقيقي المراد، وإلا يكون الكلام غير المفهوم والمحضور على المخاطب فهمه من قبيل اللغو الذي لا يأتي من حكيم. ولكن حيث معظم من قال بعلم الراسخين في العلم بتأويل المتشابهات هم من الشيعة الإمامية، فهؤلاء أو أكثرهم حصروا علم التأويل بأئمتهم المؤمنين بعصمتهم، ولكن بعض عقلائهم أو عقلييهم ذهبوا إلى توسيع معنى الراسخين في العلم، بحيث لا يكون منطبقا حصرا على الأئمة المعصومين، إلا ما كان فيه نص متواتر صحيح موثوق من معصوم، سواء كان المعصوم هو النبي نفسه أو أحد الأئمة الذين يؤمنون بعصمتهم والمنصوص عليهم من الله عبر نبيه، بل يتسع العلم إلى غير المعصوم من المختصين، وإن كان علم غير المعصوم دون علم المعصوم.
لنأخذ هذا النص القرآني بالتحليل بشكل سريع ومختصر. يقول النص: «هُوَ الَّذي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتابَ»، فيفترض المؤلف أن المتحدث هو الله، فيتكلم عن لسانه، بقول يزعم أنه صادر منه تعالى، ومنزل منه إليه، أي إلى المؤلف، أو الناقل، أو المبلغ، وكأنه أي المصدر المدعى الذي يفترض أن يكون الله سبحانه يخاطب المؤلف عبر مَلَك أرسله إليه أسماه (جبريل)، فيقول له مؤيدا صدق المؤلف أو الناقل أو المبلغ، نعم إن الله يشهد لك بأنه هو الذي أنزله إليك، وليس هو من تأليفك، أو من تلقين أو تعليم شخص آخر أو عدة أشخاص لك به. وهذه الشهادة تسمى عند المناطقة بالدور، أي إن الدليل على صدق المدعي شهادته هو على صدقه، ومثل هذه الشهادة لا يأخذ بها القضاء العادل عادة. فهو إذا ما سئل من أين لنا أن نتيقين إن هذا الذي تتلوه علينا هو من الله، فكأننا به يقول اسألوا القرآن الذي هو كتاب الله، فيما إذا كان هو حقا هو كتاب الله، فسينبئكم بصدقه، وبصدقي.
ثم لنأت إلى ذكر المحكمات والمتشابهات، فيقول النص: «مِنهُ آياتٌ مُّحكَماتٌ ... وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ»، أي نصوص لا تحتمل إلا معنى واحدا، وأخرى تحتمل أكثر من معنى، وتحتاج بالنتيجة، وبالضرورة، إلى تأويل. ثم يصف من يحاول تأويله على غير ما يريده المؤلف أو الناقل بأن «في قُلوبِهِم زَيغٌ»، وأنهم «يَتَّبِعونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتنَةِ وابتِغاءَ تَأويلِهِ». شخصيا كنت ممن مارس التأويل في دروسه كأستاذ حوزة علمية، وفي محاضراته كداعية للإسلام أو محاضر إسلامي، ووجدت في أكثر الأحيان ما أستطيع به الدفاع عن القرآن، بإرجاع المتشابهات إلى المحكمات، وإلى العقل وضروراته، وقسّمت نصوص القرآن إلى ما يمثل الجوهر الثابت، وما يمثل الشكل المتغير. ولكني مع الوقت، وجدت أن خلاف الحكمة الإلهية، وخلاف اللطف الإلهي بعباده، أن يكلفهم فوق طاقتهم، والقرآن نفسه الذي يفترض أنه كلام الله يقرر «إِنَّ اللهَ لا يُكَلِّفُ نَفساً إِلاّ وُسعَها»، وهذا ما يقره العقل، فمن غير المعقول أن يبعث الله للناس كتابا يحتاج غلى جهد استثنائي، لا يقدر عليه إلا نخبة محدودة، تصل إلى المعاني المنسجمة مع ضرورات العقل ومُثُل الإنسانية، ثم لا يتفق معهم معظم المسلمين، بل معظم العلماء والمفسرين والكلاميين والفقهاء والأصوليين. إضافة إلى الكثير الكثير الذي وجدته مما يتنزه الله بلطفه وحكمته وعدله ورحمته عنه تنزُّها كبيرا، ويتعالى عنه تعاليا عظيما. إذن المتشابهات تمثل نقطة ضعف، ومبرر شك، وشهادة إدانة للقرآن. والذي أتصوره وأرجحه إن المؤلف، وحيث إنه ألفه تتابعا، وعلى مدى أكثر من عقدين، رأى نفسه فجأة أنه قد وقع في التناقض في نصوصه، أو رأى أن هناك الكثير من النصوص الباطنية لن يفهمها أحد غيره، وبالتالي وضع هذه الآية بقول: «هُوَ الَّذي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتابَ، مِنهُ آياتٌ مُّحكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ». وحتى هذه الآية، جعلها، لا من حيث النص، بل من حيث القراءة، فيما هي أحكام الوقف والوصل، من المتشابهات، فجعلها تُقرَأ، وبالتالي تُفهَم على نحوَين، إما «ما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلاَّ اللهُ»، وإما «ما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلاَّ اللهُ والرّاسِخونَ في العِلمِ»، ثم أراد أن يخوّف من يجرؤ على الخوض في محاولة تأويل متشابهاته، بقول: «فَأَمّا الَّذينَ في قُلوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتنَةِ وابتِغاءَ تَأويلِهِ»، وحيث أنه من الطبيعي ألا يحب مؤمن بالله وبرسوله وكتابه أن يكون من «الَّذينَ في قُلوبِهِم زَيغٌ»، ولا ممن «يَتَّبِعونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتنَةِ»، إذن فليعطلوا عقولهم ويعوّلوا على علم الله وحده بتأويله، أو في أحسن الأحوال على أشخاص موصوفين بأنهم «الرّاسِخونَ في العِلمِ»، سواء كانوا المعصومين وحدهم، وهم قد رحلوا، وتركوا نصوصا مروية عنهم، مختلفا في روايتها عنهم، بين صحيح وموثوق وضعيف، أو كانوا هم (العلماء) المعممون الذين صنعوا من أنفسهم طبقة خاصة ذات امتيازات، وما يسمى بشأنية متعالية على بقية الناس المسمَّين بالعامّة، أو الجاهلين في علوم الدين، التي هي عندهم أشرف العلوم وأعلاها وأسماها، لأنها علوم تبني حسب زعمهم للإنسان آخرته، بينما تبني سائر العلوم الأخرى له دنياه، وهو عمل، وإن كان مرضيا من الله، باعتباره تطبيقا لمفهوم عمارة الأرض وإصلاحها الموكلة مسؤوليتهما للإنسان، بوصفه جعله (خليفة الله في الأرض)، وبوصفه مؤتمنا على أمانة عُرضت «على السماوات والأرض، فأبين أن يحملنها، وأشفقن من حملها، وحملها الإنسان»، ولكنه على الأغلب «كان ظلوما جهولا»، يبقى هذا العمل دون العبادة، إذن تبقى تلك العلوم المعنية به دون علوم الدين شرفا ومنزلة عندهم، أو عند معظمهم، باستثناء القليلين من عقلائهم وعقلانييهم وعقلييهم وإنسانييهم.
09/12/2009








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال رائع
أبو لهب المصرى ( 2009 / 12 / 11 - 15:59 )
شكرا استاذ تنزيه العقيلى
على هذا المقال الرائع ... فى وصف المحكمات والمتشابهات فى القرآن.
تحياتى


2 - هل من قال هذا اصاب كبد الحقيقة ام لا؟؟؟؟
سميح الحائر ( 2009 / 12 / 11 - 18:52 )
ما نرى فيما ادعاه الناس من وحي السما *** سن شرعا محدثا غير الذي قد علما
ما نرى إلا الذي للجهل والغي نما ***** ام لهذا الجهل في القران فضل
لست أدري
ليس في القران إلا ذكر غيث ونبات **** وشياطين وأملاك وجن مبهمات
هي أحرى بالأساطير وخلق الشعوذات ** هي أسماء فمن هذا المسمى
لست أدري


3 - ليس وحيا
Marina G ( 2012 / 7 / 3 - 00:03 )
انا قبطية اي مسيحية مصرية باحثة مبدئة في الاسلاميات اعجبني هذا المقال جدا لكن يا اخي الفاضل كاتب الوضوع الا تري ان هناك شيا ما خطأ فهل الله لا يستطيع ان ياخذ قرارا صائبا-اله الاسلام- هناك من كلامه ما هو مؤكد -محكم- وما هو مشكوك في امره-متشابه- الا تروا يا احبائي المسلمين ان ذاك الموضوع يستحق التفكير قليلا اني بالتأكيد لا اؤمن بالاسلام كدينا من الرب القدير واكد بالبحث لكي اثبت لاحبائي واصدقائي من المسلمين هذا بالدليل والبرهان واتمني من الرب القدير ان ينير اذهانكم و قلوبكم لكي تروا نور الرب الحقيقي امين

اخر الافلام

.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟


.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة




.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي


.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ




.. المسيحيون الأرثوذوكس يحيون عيد الفصح وسط احتفالات طغت عليها