الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق .. الجغرافيا المُغَيّبَة 6

باسم فرات

2009 / 12 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ويخبرنا الشيخ رسول الكركوكلي (ت 1824)، عن حادثة ذات مغزى كبير، تدلل على وحدة التراب العراقي، وأن والي بغداد هو وزير العراق وحاكمه الفعلي، إذ يقول:«لقد أثمرت المساعي، التي بذلها الأهلون والعشائر والرؤساء، ولاسيما أمراء الأكراد، الذين قدموا العرائض والالتماسات إلى المقامات العليا بيد خاصة إلى الأستانة، وصدر الفرمان البادشاهي بتعيين داود أفندي والياً على بغداد والبصرة وشهرزور وعن رتبة وزير، فكان لتعيينه رنة استحسان في سائر أنحاء العراق» (44). وهذا الحيدري (ت 1882) في كتابه الذي فرغ من تصنيفه (1869)،يقول: "ومن عشائر العراق العظيمة المترفضة من مدة مائة سنة فأقل عشيرة كعب، وهي عشيرة عظيمة ذات بطون كثيرة، ومنزلها في المحمرة ونواحيها، وكانوا من تبعة الدولة العلية العثمانية، ومنازلهم المحمرة من جملة أملاك الدولة العلية الى أيام الوزير، العلامة الحاج، داود باشا، لأنها داخلة في سواد العراق، الذي هو ملك الدولة العلية، وسواد العراق من عبادان الى حديثة الموصل طولاً، والمحمرة ما دون عبادات بساعتين". وتحدث عن جده الذي فرّ من إيران الى "جهة العراق واختفى في جبال الأكراد في نواحي حرير" و"كفت وزراء الدولة العثمانية بعد فتحهم العراق على يد العجم اولاده مؤنة معاشهم. وتناسل أباؤنا في العراق أحد عشر ظهراً"، وتَحدثَ عن بغداد والبصرة والعمادية وكويسنجق بمسميات مثل: قبائل العراق، وعلماء العراق، وعشائر العراق، وبالحرف الواحد: «وأما عشائر الأكراد من أهل العراق فكثيرون» وشيخ مشايخ العراق(45). بينما نجد صاحب أعيان الشيعة قبل خمسة عشر عاماً من معاهدة سايكس بيكو، حين كان في بغداد، يصرخ متألماً " تعجبتُ من وقوع ذلك في بلد فيه والٍ ومشير، وهو عاصمة البلاد "(46). وبعد سنوات على ماكتبه العاملي، أي في عام 1908،كتبت مجلة "المنار" المصرية: "العراق ولا أزيدك به علماً من أفضل الأقطار، تربة، وطيبة هواء، وعذوبة ماء، وبه أنهار عظيمة كدجلة والفرات. . . غير أن أكثره خراب، ينعق فيه البوم والغراب"(47). وقبل سايكس بيكو بأربعة أعوام، كتب إبراهيم حلمي:"كلما سرحتُ طرفي في تاريخ هذه البلاد، وأخذتُ أفتش عن تلك المعاهد والمنتديات، وتلك المدارس والكليات، وتلك المعالم والمستشفيات، لأجد فيها الآثار قائمة على جرف هار كالمستنصرية، وقد أصبح قسم منها دار مكس، وآخر مطبخاً للآكلين، وشطراً منه شرب قهوة للبطالين، وأهل الفراغ، فيا لخجل العراق والعراقيين" (48). وقبل دخول الانكليز بغداد بأربعة أعوام، واعلان الحرب العالمية الأولى بستة عشر شهراً، نشرت مجلة (لغة العرب)، موضوعاً طريفاً تحت عنوان " صرعى الكتب والمكتبات في العراق" وترددت فيه مفردات العراق،وأهل العراق وبلاد العراق بلاده(49) وعشية دخول الجيش البريطاني بغداد كتبت جريدة "المقطم"(13 آذار، 1917) في افتتاحيتها: "قضي الأمر في العراق، وسقطت بغداد"(50). وحتى لا ندع للشك مجالاً نأتي بما وثقته كنائس الموصل من أحداث: «أن الإنكليز عندما دخلوا الموصل (1918) أرسل القائد في طلب البطريرك يوسف عمانوئيل توما الثاني (ت 1947)، وأخبره بنية الإنكليز في قيام دولة مسيحية بشمال العراق، ولما سمع البطريرك هذا الرأي قام منتفضاً، ورد عليه بالقول: هل استشرت أخوتي الآخرين؟ قال: مَنْ هم؟ قال له: المسلمون وغيرهم». ثم أردف قائلاً: «هذا العراق لا يتجزأ»! (الأب سهيل قاشا، حوار في الشرق الأوسط). ولا اعتقد أن البطريرك علم بمفردة «العراق» من القائد الإنكليزي! ولم يكن لها وجود لدى عباسيين وعثمانيين(51)، ولكنها حتماً لا وجود لها لمن لا جذور له في البلد، وجاء طلباً للرزق أو الأمان، من مناطق الندرة الى عراق الوفرة، خصوصاً بعد تنامي صناعة النفط، فظن أن الانكليز صنعوا هذا الوطن، أو أوهمَ نفسه تخلصاً من شعور يكمن في أعماقه " بأن مساهمته في المنحز الحضاري – المَدَني العراقي دون الآخرين بكثير ولا يتناسب مع نسبته السكانية الحالية، هذا الشعور الخاطئ الذي بني على ردة فعل عنيفة على الخطاب القومي العربي، الذي هو شأن قرينيه الفارسي والتركي، متكئ على الأساطير. حيث يتم إخضاع التاريخ و الجغرافيا، للرغبات الآنية ويجري ضخهما بالعواطف والانفعالات(52). فيكون العراق جزء لا يتجزأ من أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، تعود جميعها الى أب واحد هو يعرب، نقية الدم وخير أمة أخرجت للناس، بل ما العراق الا البقرة الحلوب التي عليها أن تغذي أخوة الدم والتاريخ والمصير المشترك، ونفطه هو نفط العرب وخيراته للعرب، وبدم شبابه تتحرر فلسطين وسائر "البلدان العربية" وتتوحدُ تحت رايةٍ واحدةٍ خفاقة، في تجاوز واضح بل وسقيم على التاريخ والخصوصيات والتنوع الذي اصطبغ به العراق وكان منبع ثرائه الثقافي ومنجزه المعرفي، وفي المقابل استنسخ أشقاء الوطن هذا الخطاب وغيروا مفردة العرب الى قومياتهم، فصارت لدينا أمة ذات رسالة خالدة لكل قومية مهما صغرت ومهما كان منجزها الثقافي ضحلاً، ومساهمتها متواضعة، وعمقها التاريخي الكثيف والفعال لايتجاوز بضعة أجيال في بعض المدن التي صارت واحدتها قدسهم وثانيتها غزتهم وثالثتها كعبتهم السليبة ورابعتها حاضرتهم المحتلة، وكأن الجميع باستثناء هذه القومية غزاة، وراحت كل صفات الاحتقار والغباء والغزاة والبداوة تلصق بغالبية سكان العراق الذين لا ذنب لهم سوى أن القوميين العرب جَيّروا العروبة، من كونها فضاء حضارياً مدنياً ثقافياً إنسانياً راقياًٍ، هو نتاج تلاقح وتزاوج الشعوب والثقافات من الصين الى جنوب فرنسا، الى قومية عرقية إقصائية استعلائية. في هذا الخطاب، "القومي"، لم يكن العراق قبل عام 1921م، موجوداً بمعناه الحالي، لا كياناً سياسياً ولا إقليماً موحداً.(53)، حسب قولهم، وما يلاحظ اليوم من فروق إثنولوجية ( الطول، اللون، شكل الجمجمة، إلخ ) بينهم فمردها الى وفود قبائل من شعوب أخرى إليهم لأغراض حربية استيطانية في الدرجة الأولى، ثم اندماجهم معهم على مرور الزمن(54)، أي ليس مردها الى التزاوج والانصهار والتعارف بين الشعوب والأقوام وهي سنة الحياة، وهل يعرف القومي الحب وتزاوج الثقافات. كانت كل قومية قائمة منذ فجر التاريخ وستظل كذلك إلى يوم القيامة. وأن الأراضي التي يسكنونها اليوم هي أراضيهم منذ الأزل، عكس العرب الذين جاءوا غزاة وكانوا حفاة ، من بادية نجد والحجاز واليمن، نشروا ثقافتهم تحت لواء الإسلام خارج موطنهم الأصلي ( شبه الجزيرة العربية )(55)، وباعتناق الاسلام ومع مرور الزمن تَعَرّبَ كثيرون، وبات من الصعب تمييز العربي الأصيل من المستعرب، وها هنا تصح مقولة: العربي من تكلم العربية. أما هم فظلوا يقيمون في موطنهم التاريخي ، ولم ينشروا ديناً، ولم يعمموا لغة على غيرهم من الشعوب تحت لواء الدين أو بتأثير ثقافة الحاكم، (56). وأما المفردات الكثيرة المشتركة، والآثار التي توضح بما لا يقبل الشك أن هذه الأرض مشتركة وكل الوثائق التي تؤكد الهجرات التي لم تنقطع من جميع الجهات لكل شبر في العراق، لأسباب مالية وسياسية وعسكرية ودينية ومذهبية وصحية وقبلية وعائلية، وسواها من الأدلة، فلن ينظر لها دعاة القومية مطلقاً، وهل ينظر مَن عمت الأيديولوجيا قلوبهم وأرواحهم ونفوسهم قبل عيونهم، مؤثرات الجميع على الجميع، وبينما يتبجح القوميون العرب بأسطورة الفتح الاسلامي، يرفعها أخوة الوطن قميص عثمان من أجل الأخذ بثأرهم ( ممَن ؟ )، وذلك من خلال الإصرار على أن الناطقين بالعربية نزوح بحد السيف، أي أن الجميع تواطأ على إشاعة اسطورة لا تتفق ومعطيات حفريات التاريخ والألسنية وعلم الآثار والأنسنة، شاطبين على ألف عام من التواجد العربي في العراق قبل الاسلام، من أقصى شماله الى أدنى جنوبه. إن ألف باء علوم اللسانيات تؤكد على أن اللغات الكبيرة، يلزمها تمركزٌ حضريٌّ وأجيالٌ تخصّبت بالمعرفة، لهذا يكون من السذاجة الاعتقاد بأنّ اللغة العربية التي صاغت الشعر والتجريد العقليّ والفلسفة، قد نشأت في أرض لا زرع بها ولا ضرع. ومن السذاجة الاعتقاد بأن الصحراء موئل الفصاحة التي تتلمذ على يدها فقهاء اللغة، ولعلّ لقيات الأركيولوجيا ونقوش الخطّ العربي القديم وأصوله، تدلّنا على ذلك. فمعظمها وُجد خارج ما يُسمّى "جزيرة العرب"، وأهمّها كان في حوران موطن الغساسنة إلى حلب شمالاً إلى سيستان الإيرانية شرقاً الى بردية الفيوم غرباً، بإستثناء نقش يتيم في الطائف يرد فيه اسم معاوية.. ومعظم المخطوطات والكسور ونسخ القرآن الأقدم المحفوظة في المتاحف كُتبت بأيد عراقية..(57).
وهي ما برحت منذ البدء تحتضن شعباً واحداً يجمع بين أبنائه حبل الرحم ويشدهم قدر واحد يمتد في الوجدان والضمير والآمال والغايات والثقافة والرؤية المشتركة للدنيا والآخرة، لأن هناك رغبة رومانسية حالمة وصوفية لدى القوميين قاطبة في تجاهل الوقائع على الأرض والقفز فوق التفاصيل سعياً وراء ذات منتفخة ورسم صورة وردية عن قوميتهم بوصفهم أمة واحدة (ذات رسالة خالدة؟) من الملائكة وغيرهم الأبالسة.هم منبع الحضارة ومؤئل المدنية، وشعاع الثقافة، منحوا الإنسانية كل ما تتمتع به من تطور، فعوقبوا بالمؤامرات والذبح والتنكيل، وقُسمت أرضهم، وشردوا وعانوا ما عانوا، ليس من حاكم ظالم أرعن بل من الآخرين الذين غزوا أرضهم، فتنهض شعارات التجييش القومي ودق طبول «الجهاد المقدس» القومي".(58)، والكراهية تجاه المختلف لغة، حتى صار لدينا قوميات بأكملها تؤمن بنظرية المؤامرة، في كل شاردة وواردة وصغيرة وكبيرة،حتى اختلطت الحقائق بالأوهام، وتضخ حقداً وكراهية في وسائل الاعلام، مقالات لا تعد ولا تحصى مليئة بإلغاء الآخر تحت مسميات الحرية والتعبير عن الهوية، تشبه تماماً فترة النزق القومي العربي... ولكن أليسوا هم ضحاياه، والضحية تثبت دائماً أن جلادها هو مثلها الأعلى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تطبيق يتيح خدمة -أبناء بديلون- لكبار السن الوحيدين ! | كليك


.. تزايد الحديث عن النووي الإيراني بعد التصعيد الإسرائيلي-الإير




.. منظمة -فاو-: الحرب تهدد الموسم الزراعي في السودان و توسع رقع


.. أ ف ب: حماس ستسلم الإثنين في القاهرة ردها على مقترح الهدنة ا




.. متظاهرون مؤيدون لفلسطين يلاحقون ضيوف حفل عشاء مراسلي البيت ا