الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلمانيّة في مواجهة المشكّكين

سهيل أحمد بهجت
باحث مختص بتاريخ الأديان و خصوصا المسيحية الأولى و الإسلام إلى جانب اختصاصات أخر

(Sohel Bahjat)

2009 / 12 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



يحاول المسيري أن يشكك في كلمة "علمانية" إذ يرى أن "مصطلح علمانية حينما انتقل إلى المعجم اللغوي العربي أصبح أكثر اضطرابا و اختلالا، فمنذ ما يسمى "عصر النهضة" في تاريخ الفكر العربي و معظم تعريفاتنا للظواهر الإنسانية تستند إلى تعريفات الغرب الذي نستورد منه معظم مصطلحاتنا إن لم يكن كلها، و قد استوردنا مصطلح "علمانية" فيما استوردنا منه، و حينما ينقل مصطلح مثل هذا من معجم حضاري إلى معجم حضاري آخر و تتم "ترجمته"، فإنه يظل يحمل آثارا قوية من سياقه الحضاري السابق، الذي يظل مرجعية صامتة له، و لذا فدلالة هذا المصطلح لا تتحدد إلا بالإشارة إلى المعجم الحضاري الأصلي، أي الغربي، و قد أشرنا إلى أن هذا المصطلح مختلط الدلالة في معجمه الغربي.." ـ العلمانية تحت المجهر ـ ص 46
و التحقيق العلمي هنا في نقد آراء المسيري يقضي بأن نتجاوز تصنيفات المسيري التي توجد اختلافا جذريا، ربما إلى حد العنصرية، بين الشرق و الغرب، فكل منتج فكري أوروبي يبقى تجربة ـ منفصلة ـ عن كل مجموع أو تكتل بشري شرقي، مع أن الشرق و الغرب كلاهما مجتمعات بشرية و إذا كان نتاج بشري غربي "مثلا" لا ينطبق على المجتمعات الشرقية، فليس ذلك لأن كل ما هو غربي فهو صالح للغربيين "حصرا"، بل مرده و سببه إلى أن تلك المجتمعات لا تزال في مرحلة أكثر تخلفا و تعاني ظروفا اجتماعية و اقتصادية لا تهيئها لاستقبال التغيير الشامل و إذا ما حصل التغيير فهو يجري كصدمة تهز المجتمع لأن المجتعات المنتجة تسبق غيرها بأشواط.
فالمرجعية الصامتة للمصطلح كلام لا معنى له أصلا، لأن كل مصطلح من المصطلحات لا بد أن ينتهي إلى فكر أو منهج أو لغة ما و انتمائه الأول لا يعني أنه غير قابل للتطوير و التغيير على أيدي الأمم و الشعوب الأخرى، لذلك نجد المسيري في نقده للعلمانية فهو ينتقي نماذج معينة للنقد، فتجده يحدثنا عن تايلند و سانغافورة و الفلبين و لكنه يتجاهل اليابان و هونك كونك و تايوان ـ التجارب الأكثر نجاحا ـ و ذلك ليكون نقده مقنعا حسب النماذج التي اختارها، و بالتأكيد فإن البحث بهذا المنهج ـ الذي يذكرنا بما كان يفعله الشيوعيون حيث كان على العلم أن يتبع النظرية الماركسية لا العكس ـ ليس بحثا علميا نزيها، فالنقد الموضوعي يقتضي أن يكون هناك وصف للواقع كما هو من دون إضافات عاطفية و قناعات سابقة، و إذا كان القرآن نفسه خاطب العرب عن "العقل البديهي" فذلك خطاب ينسجم مع عقلية ذلك الزمن و ظروفه السياسية و الاجتماعية، و بالتالي يبقى العقل نسبيا و النبي نفسه يقول: خاطبوا الناس على قدر عقولهم.."!! و هذا يعني أن مستويات الوعي داخل المجتمع نفسه متفاوتة و مختلفة، فضلا عن اختلاف المجتمعات، من هنا نجد أن العلمانية هي علاج لكل مجتمع يعاني من استخدام الدين سياسيا و اتخاذه تبريرا للهيمنة و الاضطهاد، قد نستعمل هذا الدواء بجرعات مختلفة ـ حسب الحالة ـ لكن يبقى استخدام الدين كوسيلة سياسية موجودا في كل المجتمعات و لكن بصيغ مختلفة، و تركيا مصطفى كمال لم تكن استثناءا من هذه المعادلة، فقد كانت الدولة العثمانية ـ القائمة على الحق الإلهي ـ لا تنفك تشن الحرب تلو الأخرى و لا تكاد فتنة تقف حتى تقوم أخرى، و كان كل هذا يجري في بلاد مدمرة و مفككة و لا تملك أي سبب للارتقاء الحضاري، و ما عاشته الجمهورية من سلام طوال السبعين سنة الماضية يكاد يعادل العهد العثماني كله.
من هنا لا يهمنا البحث النظري الفارغ إذا كان النظر لا يمتلك أي قيمة على أرض الواقع، فالمسيري طالب المفكرين و الباحثين بإعادة مراجعة نقدية للمصطلح لتنقية المصطلح و المصطلحات الأخرى من كل ما هو غربي، و أود أن أشبه هذا بمحاولات الفقهاء و الوعاظ تنقية كل شيء من "نجاسة الكفار" كما يسمونهم، و هذا الوصف و المنهج لا يمكن أن ينطبق على بحث علمي سليم يمكن الاستفادة منه مستقبلا.
يقول المسيري:
فالواجب العلمي يفرض علينا أن نبحث عن مثل هذه العلاقة الشاملة الكامنة، و لعل الوقت حان الآن لإعادة النظر في كل مصطلحات العلوم الاجتماعية (ذات الأصل الغربي)، لصياغة نماذج و مصطلحات جديدة تتفق مع تجربتنا الوجودية المتعينة بعد سقوط المنظومة الاشتراكية، و بعد علمنة السلوك في العالم الغربي، و ضمور رقعة الحياة الخاصة، و تهميش المسيحية تماما، و ظهور أدبيات غربية مراجعة تساعدنا في عملية التعريف و إعادة التعريف." ـ المصدر السابق ص 46
و عبارة "تجربتنا" عند المسيري ليست مجرد كلمة مرسلة اعتباطا، فنحن و هم و حضارتنا و حضارتهم و ديننا و دينهم و إلى آخر تلك العبارات التقسيمية تمثل لب و جوهر العقل الشرقي العاطفي الذي يأبى أن يتقدم لأن كل شيء ببساطة ما لم يكن (من إنتاجنا نحن المسلمين) فهو باطل و كفر و يجب تنقيته، و لو كان للعالم الإسلامي إجهزة طبية ـ غير تلك الغربية ـ و مجهر و طائرة و صاروخ و مكوك فضاء و فلسفة و أبحاث لأمكننا أن نفترض أن الـ"نحن" هذه قد تنتج شيئا، فهو سواء أطلق اسم الطائرة على ذلك الجهاز الحديدي الذي يُسمى Airplane بالإنكليزية أو سمى الـ MICROSCOPE بالمجهر، فإننن تغيير الاسم لن يغير شيئا من حقيقة المسميات و أن كل النتاج البشري الآن له "مرجعية غربية" إذا جاز لنا أن نستخدم المصطلحات المسيرية، فمهما حاول المسيري و من يمثل العقل الشرقي الذي يريد إيجاد بديل "للديمقراطية" لا يمس المعبودات المحلية ـ أرباب السلطة ـ و لا يمس المحظورات الثلاث (السياسة ـ الجنس ـ الدين)، و هو ما سيعني نظرية جديدة "مضحكة" عن خلق علم جديد بلا أسئلة أو شكوك و استكشاف بلا مكتشفات أو تجارب و لاهوت ديني بدون لاهوت، فمهما بحث العلماء فسيبقون يستخدمون الحاسوب "الكومبيوتر" و التيلسكوب أو الناظور و المختبرات و الأقمار الصناعية، و بالتالي نعود إلى السير في نفس الطريق التي سار فيها الغربيون، غير أن المسيري ينصحنا بأن نسير دون أن ننظر إلى ما حولنا و أن نكون من صنف النعامة التي تضع رأسها في التراب و لا تريد سماع الحقيقة، و سيبلغ المسيري في نقده حدا يبدو لنا أن الإنسان لن يكون إنسانا إلا إذا تعرى تماما من نجاسة الحضارة.
يقول الدكتور المسيري:
يمكن أن نشير إلى أنه داخل التشكل الحضاري الغربي ذاته توجد عدة تشكيلات، فهناك التشكيل الفرنسي (الكاثوليكي)، و التشكيل الحضاري الإنجليزي، و الألماني (البروتستانتي)، و التشكيل الحضاري الروسي (الأرثوذكسي)، و قد عرف كل تشكيل هذا المصطلح بطريقة مختلفة إلى حد ما انطلاقا من تجربته الخاصة، فكلمة لائيك الفرنسية Laique ، على سبيل المثال، لا تزال تحمل بصمات أصولها الفرنسية، و التجربة الفرنسية في العلمنة (المرتبطة بالثورة الفرنسية) التي أخذت شكلا حادا و قاطعا، و التي تتضمن عداءا قاطعا للدين، فمؤسسة الكنيسة كانت قوية في المجتمع الفرنسي الإقطاعي القديم، و كانت امتيازات النبلاء واضحة محددة، كما كان هناك تداخل شبه كامل بين طبقة النبلاء و رجال الدين (متمثلا في الحكومة الملكية المطلقة)، و نظام الطبقات السائد، و مؤسسة الكنيسة، و كل الرموز السياسية و الدينية القائمة، و وصل الرفض إلى حد ذبح النبلاء و كثير من أعضاء طبقة الكهنوت، و إلى حد تحويل بعض الكنائس إلى معابد تعبد فيها ربّة العقل، كما أنهم وضعوا سياسة منهجية صريحة تهدف إلى تصفية أي مضمون ديني في العليم و القانون، أما كلمة "Secular" الإنجليزية فهي ليست قاطعة و لا حادة في دلالتها بهذا الشكل" ـ المصدر ص 47
إن التشكل العلماني للبلدان لا يمكن اختصاره في كلمة أو كلمتين، فنحن لا نملك أدلة واقعية ملموسة على أن كلمة Laique الفرنسية أكثر قطعا أو حدة من كلمة Secular الإنكليزية، ردّ الفعل الفرنسي في فصله الأكثر راديكالية تجاه الدين لم يكن سببه الفكر و المنهج الذي نشره مفكروا فرنسا العظام كفولتير أو منتسيكيو أو روسو، بل هو ردّ فعل طبيعي ضد طبقية كانت أكثر تمسكا بالسلطة و الحكم و النفوذ من تلك الطبقية الإنكليزية التي كانت أقل تطرفا، و بالتالي لا يكون الواقع من صنع الكلمات بقدر ما يضفي الواقع المعاني على الكلمات، فالكلمة بدت أكثر تطرفا لدى المسيري لأنه قرأ عن "الثورة الفرنسية" و أحداثها المروعة، فبدت له الكلمة قطعية و حادة، بينما جعل التسامح البروتستانتي التغيير أكثر سلمية في إنكلترا رغم بطئه، بالتالي فإن التطرف الفرنسي، و لا ننسى التطرف الروسي ضد الأرثوذوكسية الأكثر تطرفا، كان نتاج واقع و لا يجوز حصر الاتهام هنا تجاه العلمانية و كأن العلمانيين ليسوا بشرا لهم عواطف و فعل و رد فعل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عادات وشعوب | مجرية في عقدها التاسع تحفاظ على تقليد قرع أجرا


.. القبض على شاب حاول إطلاق النار على قس أثناء بث مباشر بالكنيس




.. عمليات نوعية للمقاومة الإسلامية في لبنان ضد مواقع الاحتلال ر


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الكنائس القبطية بمحافظة الغربية الاحت




.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا