الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصادر الفكر العلماني العربي منذ مطلع القرن الثامن عشر

محمد المرباطي

2009 / 12 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يبدو أن الأحداث التي مرت بها إيران تعطي ألأهمية لهذه الدراسة ، من حيث بروز تيار إصلاحي قوي داخل المؤسسة الدينية الإيرانية التي رفعت شعار الإصلاح ، وبات يعرف بالتيار الإصلاحي، من دون وضوح معالم هذا التيار الإصلاحي ، الذي لم يخرج عن نطاق الشعارات والتهم المتبادلة ، مقابل التيار الآخر المتشدد حسب التصنيف الإيراني ، وهي حالة تسود جميع البلدان العربية والإسلامية ، التي تحمل شعارات ومشاريع إصلاحية لم تتضح معالمها بعد ، وذلك نتيجة لتخبط مؤسسات الحكم في هذه الدول ، التي أصبحت مزيجاً من النظام الاجتماعي القبلي ، والسياسي الرأسمالي المشوه ، والليبرالي في بعض مظاهر الفساد ، والإسلامي في الحياة العامة ، والرجعي في المنظومة الفكرية ، والاستبدادي في الحريات العامة ، والديمقراطي في وسائل الإعلام ..الخ ، بحيث أصبحت نظم سياسية مشوهة ، لا يمكن تصنيفها وفق قاعدة سياسية محددة ، ونتيجة لهذا الخلط في النظام السياسي العربي والإسلامي ، أصبحت القوانين لا تلبي الحالة الموضوعية لمجتمعاتها التي تأخذ ثقافتها مباشرة من الغرب العلماني ، لذا أصبحت الفجوة الثقافية والسياسية تتسع مع مرور الزمن ، حتى أصبحت بعض هذه الأنظمة معزولة تماماً عن شعوبها ، ويتم التعبير عنها خلال التحركات الشعبية العاصفة التي قد تطيح يبعضها إن لم تصلح أنظمتها بما يتوافق والتطور الموضوعي لشعوبها ، لذا بات من الضروري أن يكون لهذه الأنظمة العربية والإسلامية ملامح سياسية واقتصادية واضحة ، إما أن تكون أنظمة علمانية كما فعلت تركيا ، أو أنظمة دينية بعيدة عن الشعارات الإصلاحية ، أو أن تتحول لأنظمة ذات طبيعة قبلية استبدادية ، وتكف عن شعاراتها الديمقراطية الفارغة ، ويتضح أن جميع هذه النظم السياسية متمسكة شكلاً بشعارات الإصلاح ، مع غياب المحتوى وعدم معرفة هذه المشاريع الإصلاحية حتى لمفكري ومثقفي وكتاب هذه البلدان ، لذا أصبح محتماً عليها حسم هذه الازدواجية في المعايير السياسية من خلال الأخذ بنموذج سياسي محدد ، وقد يكون اقرب هذه النماذج القابلة للتطبيق في عصرنا الراهن هي العلمانية ، ولأهمية الموضوع رأيت أن ارفع بعض جوانب الغموض والضبابية عن المنهج العلماني وتطوره التاريخي ، بعد أن اختلط هذا المنهج لدى البعض الذي اخذ في الاعتقاد أن العلمانية تلغي الدين ، بقدر أن العلمانية تحرر الدين من سطوة السياسة .
العلمانية: (Secularism )
العلمانية بديهة تعني : ( فصل الدين عن الدولة ) ، وعن السياسة والحياة العامة ، والعلمانية ترفض إجبار الناس على اعتناق أو تبني أي معتقد أو دين ، والمقصود بالدين جميع العقائد أو الأيديولوجيات التي أصبحت نصوص غير قابلة للجدل ، أو التغيير ، بما فيها العقائد المادية التي تحولت لنظريات جامدة لا تقبل التغيير بإعتبار النظرية تقوم على قوانين ثابتة ، كذلك ترفض العلمانية منطق الدين في تفسير الظواهر الطبيعية أو العلمية ، فالعلمانية تعتمد التفسير العلمي المادي لظواهر الطبيعة والكون من خلال النظريات العلمية .
لسنا بصدد تفسير العلمانية بقدر معرفة خطوطها العامة ، بأنها نظام مؤسس على مبادئ مادية لا تقبل إطلاقا بالدولة الدينية ، أو سيادة القيم الروحية ، ونشأت أساسا في الغرب الأوربي منذ النصف الأول من القرن الخامس عشر ، عندما بدأ بعض المفكرين الغربيين الدعوة للدولة القومية ، وإعلان الحرب على الكنيسة التي كانت تسيطر على أنظمة الحكم في تلك البلدان تحت شعار : (الوطن والدين لله ) وأن الحكم هبة ربانية تقوم بمباركتها وتأييدها الكنيسة ، ووفق هذه المبادئ فالعلمانية فلسفة تقوم على حرية الاعتقاد ، دون إلغاء الدين أو معتقدات الناس ، وإنما تحرير المعتقدات الدينية من تدخل مؤسسات الدولة ، وهو الأساس الذي تقوم عليه الفلسفة العلمانية ( فصل الدين عن الدولة ) بما يعني فصل الدولة عن المعتقدات الدينية أو الغيبية بصورة عامة، وحصرها في الأمور الحياتية الدنيوية المادية ، ولكن غياب التحليل الموضوعي ، والتفسير ألواقعي للعلمانية بأنها نتيجة حتمية للضرورات التاريخية ، بعد أن أخذت في النمو داخل الجماعات الإسلامية الأكثر تشددا ، فعلى سبيل المثال نجد جميع التيارات الإسلامية وغير الإسلامية تنادي بالديمقراطية ، وتقبل بدولة المؤسسات ، والأنظمة المدنية ، كذلك قبلت بالحياة النيابية التي تكرس مبدأ التعددية ، ونلاحظ الجميع يطالب الأنظمة الحاكمة بتطوير الحياة النيابية وفصل السلطات ، وهي من المبادئ الأساسية في الفكر العلماني ، كذلك نلاحظ جميع هذه التيارات تقبل بمبدأ العقد الاجتماعي ، وأصبحت تحتكم للقوانين الوضعية مثل قوانين العمل والضمان أو التامين الاجتماعي ، وقوانين التجارة ، والقانون الجنائي ، والحقوق السياسية والاجتماعية ، ومبدأ المواطنة ، وغيرها من الشعارات والمبادئ العلمانية الرائجة لدى مختلف الشعوب والقوى السياسية والاجتماعية في البلدان العربية والإسلامية ، كما نلاحظ اكتساح العلمانية وبقوة جميع المجتمعات العربية الإسلامية ، والدول التي ترفض مبدأ الحكم الدستوري الديمقراطي تعاني مشاكل كبيرة ، قد تكون في عزلة داخلية عن شعوبها ، والغاية في هذا التحليل ليس تجميل العلمانية بقدر البحث والحوار للوصول لحقائق منطقية هادئة تبعدنا عن التشنجات الطفولية للوصول الى حقائق تعزز الوحدة الوطنية والمصلحة العامة ، وما يعزز هذا التوجه ظهور عدد من المفكرين والكتاب الإسلاميين الذين اخذوا بالمناهج الفكرية العقلانية التي يتسم بها الفكر الإسلامي ، وثمة حقيقة أخرى لتوجس الجماعات الإسلامية من الفكر العلماني في الوطن العربي ، ذلك عندما جرى ربط الأنظمة السياسية الاستبدادية بالعلمانية ، وهي ظاهرة بعيدة عن واقع العلمانية التي تقوم أساسا على احترام إرادة الإنسان وقناعاته الفكرية والعقائدية وتوجهاته السياسية ، كذلك جرت محاولة ربط العلمانية بالقوى اليسارية ( الشيوعية والماركسية ) والى حد ما القومية ، وقد نتج عن هذا الخلط بين العلمانية والإلحاد ردود فعل غير إيجابية لدى المواطن العربي العادي ، وللأسف حاول بعض الكتاب بقصد أو نتيجة لقصور في الفهم الصحيح لمبادئ العلمانية تعزيز هذه الفكرة ، فالعلمانية تقف على الجانب الإيجابي من الدين ، فهي تتميز بالليبرالية ، حيث نجد العلمانيون يدعمون التسامح الديني واحترام كافة العقائد والديانات ، ولا يقرون بالعنف ، لذا تخلو أدبيات مفكريهم من أية إساءة أو نكران لأية عقيدة ، فهي تعزز وتؤكد المنظومة الأخلاقية لكافة العقائد والديانات وتفعيلها .. وتقديم جانب الخير الإنساني على كل ما عداه ، كما أن المنظومة العلمانية في أوربا لم تفرض الحظر أو منع لأي من العقائد والديانات أو دور العبادة المتاح إقامتها والتردد عليها للجميع دون تمييز ، وفي الإطار ذاته فقد برز دعاة التنوير الإسلامي على غرار ما حدث في أوربا أيام : (هس ، الذي آمن أن الثورة الاشتراكية ستؤدي إلى تقليص فجوة الفوارق بين شعوب العالم ، وقدم حياته من اجل مبادئه عندما اشترك في ثورة ربيع الشعوب بألمانيا عام 1848 وحكم عليه بالإعدام لإيمانه بحرية الإنسان ) ، والفرنسي : ( جون كالفن ) الذي اخذ بمبادئ الألماني ( لوثر كنج ) مؤسس البروتستانتية ، نجد في وطننا العربي رفاعة الطهطاوي المتأثر بالنموذج الغربي ، وجمال الدين الأفغاني (1838- 1897) رائد الإصلاح الديني ، ألذي أسس حزباً علمانياً (الحزب الوطني الحر) وكان من أهدافه إقامة الحكومة الدستورية الخاضعة لرقابة المجلس النيابي المنتخب، وشعاره أن تختار الأمة حاكمها،وفي الخلافة الإسلامية العثمانية ذاتها نجد السلطان العثماني عبدالحميد باشا الثاني ، والصدر الأعظم السلطان العثماني مدحت باشا الذي أنهى دراسته في فرنسا ، كانا من المؤمنين بالقيم والمبادئ العلمانية ، لذا كانت حركة الإصلاح التي قادها مدحت باشا تنحصر في نقل قيم الثورة الفرنسية والثقافة العلمانية الجديدة الى عاصمة الخلافة العثمانية الإسلامية قبل مجيء مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الدولة العلمانية التركية، كذلك نجد رجل الدين العربي عبد الرحمن الكواكبي صاحب كتاب طبائع الاستبداد يقول: ((إن الحكام والساسة الذين يحاولون الخلط ما بين الدين والسياسة ... موقفهم لا أصل له في الإسلام )) وينادى بنظام الحكم الدستوري ، وهي دعوة صريحة لفصل الدين عن السياسة ، وجاء بعده الشيخ محمد عبده الذي هاجم السلطة الدينية وقال: ((ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة للدعوة الى الخير والتنفير من الشر)) ، وسار على نهجه تلميذه المصلح اللبناني محمد رشيد بن علي رضا ( 1865- 1935) ، وفي إيران نجد قادة الثورة المشروطة من رجال الدين ، أمثال آية الله العظمى محمد كاظم حسين الخراساني المعروف بالآخوند ، المولود بمدينة مشهد عام 1853 ، وآية الله العظمى الميرزا محمد حسين الغروي النائيني نادوا بأن يكون الملك حاكما دستوريا مشروطا بالبرلمان ، وهذا يعني نقل القيم الغربية الجديدة ، وتقليص سلطة الدولة الدينية التي أعطت حينها للحاكم السلطة المطلقة، والمعروف أن آية الله العظمى النائيني كان يدعو صراحة إلى ضرورة تبني نظم الحكم التي تشتمل على الدساتير والمجالس النيابية ، وفصل السلطات وتقيدها دستورياً ، ووجد أن أصل المشكلة لدى المسلمين هو سيادة الاستبداد وغياب الحرية والمساواة ، والبعد عن قيم التمدن ، وللنائيني آراء جريئة جدا في تحديد السلطات بالقانون ، لاحظ كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه الملة )، وفي هذا الصدد قال زعيم الثورة البلشفية في روسيا لينين عام ( 1911 ) : (( أن واحدا من أبرز علائم اليقظة الآسيوية تتبدّى بعمق في الحركة المشروطة )) ويعني بها الثورة المشروطة ، وهي تسمية للثورة الدستورية الإيرانية التي اندلعت عام 1906 ضدّ الشاه مظفر الدين ، وقادها الفقيه الشيعي الملا محمد كاظم الخراساني ، الذي اعتبر رائد النهضة والإصلاح السياسي في إيران، وآية الله الميرزا محمد حسين الغروي النائيني (1860 ـ 1936)، الذي وصفه معاصريه بالطبعة الشيعية لمارتن لوثر، كذلك آية الله طالقاني الذي نادى بالاشتراكية ، واحد مؤسسي ( حزب نهضت آزادي ) أي ( حزب نهضة الحرية ) العلماني ، الذي اعتبر امتدادا للثورة المشروطة، كذلك ساهم مع مهدي باركان والدكتور يد الله سحابي في الإعلان عن إعادة تشكيل ( الجبهة الوطنية في مرحلتها الثالثة ) التي قادها الدكتور مصدق ، وفي ستينيات القرن الماضي ساهم في تأسيس (حركة تحرير إيران) العلمانية مع مهدي بازركان رئيس الوزراء في الحكومة المؤقتة المنبثقة عن الثورة الإيرانية عام ( 1979) ، وبعد الثورة الإيرانية طالب السماح للأحزاب العلمانية اليسارية بحرية العمل السياسي، وكان من ابرز دعاة علمنة الدولة، وديمقراطية العمل السياسي، والنضال ضد الإمبريالية، كما طالب بمنح الأقليات الإيرانية الحكم الذاتي ، وكان يعرف بتأييده القوي للشيوعيين في الثورة الساندينيستية في نيكاراغوا التي انتصرت في يوليو 1979، وعلى جانب آخر نقف أمام ظاهرة فريدة في تأييد الجماعات الدينية الإسلامية لأحد التيارات الأكثر تعارضا مع الدين في إطار العلمانية ، ذلك على اثر العملية الإرهابية بضواحي مدينة مومباي الهندية ، عندما اجتمع في الحادي عشر من يوليو 2006، ممثلوا عدد من التنظيمات الإسلامية الهندية مثل جماعة علماء الهند ، وجماعة علماء السنة في عموم الهند ، وأهل الحديث والجماعة الإسلامية ، ومجلس علماء المسلمين ، ومجلس مللي إسلام ، وهيئة أئمة المساجد ، والمجلس الهندي لقانون الأحوال الشخصية للمسلمين وقرروا عقد لقاء مع أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) الذي كان بدوره يزور مومباي بُعيد المجزرة الإرهابية ، وقد صرح احد زعماء الجماعات الإسلامية بقوله : (( توصلنا إلى نتيجة مفادها أن الشيوعيين هم السياسيين العلمانيين الحقيقيين الوحيدين في هذا البلد ))، يتضح من هذا اللقاء ، وأسلوب المجاملة من رجل دين مسلم للشيوعيين والعلمانيين دون اعتراض زملائه الحضور ، بأنه مستوى راق في تقدير المواقف ، فقد وجد هؤلاء أن المصلحة الوطنية ، واستقرار الهند والحفاظ على أرواح مواطنيهم تقتضى الوحدة الوطنية في التصدي لمظاهر الإرهاب أينما كان مصدرها ، ومحاولة من قبلهم لتبرئة الدين من التورط في أي عمل إرهابي ، وبالتالي جاء هذا اللقاء بين رجال الدين المسلمين وقيادات الحزب الشيوعي الهندي ( الماركسي ) للتنديد الجماعي ضد العنف باسم ألإسلام ، وهي محاولة ذكية لإنقاذ الدين وتبرئته من تهم الإرهاب ، وهذا ما ذهب إليه رجل الدين العراقي السيد إياد جمال الدين الذي قال: (( أن دعوتي للعلمانية ترتكز على إنقاذ الدين من جبروت الدولة )) ، هذا إلى جانب ألأهمية الكبيرة لتصريحات الشيخ أحمد بدر الدين حسون الحائز على درجة الدكتوراه العالمية من الأزهر بدرجة امتياز في الفقه الشافعي، ورئيس المجلس الأعلى للإفتاء في سوريا أثناء محاضرته في البرلمان الألماني بأن : (( العلمانية ليست ضد الدين – وقال - أنا مسلم علماني(( ، وأضاف قائلاً : (( أنا سعيد لوجودي في أحضان الديمقراطية التي تبدو شفافة هنا )) وأكد بأنه : (( لم يجد أي تعارض بين الدين والعلمانية ، والعلمانية ليست ضد الدين ، فهي تعطي لكل إنسان كرامته وحقوقه )) ، والمعروف عن الدكتور حسون أنة وريث والده وجده في التفقه بالفقه السني الشافعي ، ونجد في سوريا هذا البلد ذو التوجه المدني لنظامه السياسي منذ نشأته وجود حوالي ( 35 ) مركزا ومعهدا لتدريس الفقه السني الشافعي ، غير المراكز الأخرى لجميع الديانات والعقائد .

إن محاولات التوفيق بين الأفكار الغربية والإسلامية من خلال ربط الشورى بالديمقراطية ، كما فعل الطهطاوي وغيره من المفكرين ورجال الدين الإسلامي ، يعود لتأثير الأفكار العلمانية الغربية على القيم الإسلامية ، التي نلاحظها بوضوح في جميع الدول العربية والإسلامية الخاضعة لحماية عسكرية واقتصادية وثقافية غربية علمانية ، أو اشتراكية سابقاً ، ونجد هذه الدول تفاخر بطاقاتها العلمية المؤهلة في الدول الغربية العلمانية ، ويتمنى مواطنيها النموذج الغربي في الحياة العامة ، وتحت مسميات حركات الإصلاح الديمقراطي تتبع معظم هذه الأنظمة العربية والإسلامية مظاهر النهج الديمقراطي الغربي ، كما نلاحظ جميع الشعوب العربية والإسلامية تنادي بحقوق الإنسان التي تستمد قيمها من الإعلان العلمي لحقوق الإنسان ، كوثيقة جرى اعتمادها أساسا لدى الشعوب والأنظمة العلمانية الغربية ، ثم نجد غالبية القيادات السياسية الإسلامية وغير الإسلامية تجد ملاذها في الدول الغربية العلمانية هرباً من استبداد وبطش أنظمتها ، كذلك يحاول معظم المفكرين والكتاب والأنظمة العربية والإسلامية الاستناد لمرتكزات الديمقراطية وإرجاعها للشورى بطريقة عفوية لتغييب حقيقة أن الديمقراطية هي نتاج صراع بين العلمانية والفكر الديني ، ولا شان للشورى بنظم الحكم الديمقراطية ، التي نشأت أساسا في الغرب على خلفية الصراعات الدموية ، وترافقت مع ثورات وتحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية كبيرة منذ أوائل القرن الثامن عشر ومطلع القرن العشرين ، حتى اؤلئك المجددين في دولة الخلافة الإسلامية بنوا محاولاتهم على اقتباس التجربة الفرنسية الديمقراطية ، كما فعل الوالي العثماني مدحت باشا ، عندما نقل التجربة العلمانية الفرنسية التي توافقت ورغبة السلطان عبد الحميد الثاني ، وأدخل القوانين الغربية على نظم الدولة الإسلامية العثمانية، ورفع لواء التحديث والانفتاح على القيم الغربية التي تعارضت مع كونه خليفة المسلمين المستند في حكمه لنظرية الحق الإلهي ، وقد يكون سبب هذا التخبط الفكري مجارات الحركة العلمانية القومية في تركيا التي هددت بسقوط الخلافة العثمانية ، وقيام تركيا العلمانية بقيادة مصطفى كمال اتاتورك عام 1924م .
لقد كانت العلمانية ضرورة تاريخية للشعوب الأوربية جراء الحروب الدينية الطاحنة ، واستغلال الكنيسة للدين في محاربة الاكتشافات العلمية وحرق مكتشفيها من العلماء ، عندما ساد أوربا عصر الظلام بعد انتشار ( محاكم التفتيش ) وتحويل البلدان الأوربية الى مقاطعات تحكم بنظم إقطاعية ، لهذا السبب راجت العلمانية مع نهاية الحروب الدينية وتوقيع صلح وستفاليا - الذي أنهى الحروب الدينية في أوربا عام 1648م، وبداية ظهور الدولة القومية العلمانية الحديثة .
العلمانية ثورة دينية على الدين :
منذ مطلع القرن الرابع عشر شهدت الكنيسة الكاثوليكية تحولات نوعية في الصراع الديني ، عندما برزت فكرت الإصلاح الديني التي بدأت بحركة ( جون ويكلف - 1324-1384م) في إنكلترا ، و(جون هوس - 1369-1415م) في التشيك، وقد تمكنت الكنيسة البابوية القضاء عليها في مهدها واتهامها بالهرطقة، فتم حرق (هوس ) وإخراج جثة (ويكلف) من قبره وحرقها ، ثم ظهرت حركة ( الاعتراض - بروتستانت ) التي تزعمها الراهب الألماني مارتن لوثر حينما أعلن اعتراضاته على السلطة البابوية ، وممارسات المجالس الكنيسة الكاثوليكية ، وأطلق اعتراضاته هذه في (31 / 10/1517 ) والتي شملت 95 اعتراضاً ، شكلت فيما بعد برنامجه الإصلاحي ، وأعلن رفضه لعملية بيع صكوك الغُفران ، وقام بتعليق برنامجه الإصلاحي على باب كنيسة الحصن الكاثوليكية في مدينة ( فيتنبرج ) الألمانية ، لذا يعتبر يوم (31 أكتوبر 1517 ) بداية حركة ( العلمنة ) والصحوة والإصلاح العالمي .
ولد مارتن لوثر بمقاطعة (إيسليبن ) شمالي ألمانيا في ( 10 نوفمبر 1483 )، وتوفي في ( 18 فبراير 1546) ، وهو احد ابرز الكهنة الذين نادوا بالإصلاح الديني ، وأسسوا مذهب الاعتراض أو الاحتجاج المسيحي ( البروتستانت ) ، وقد تطورت حركة الاحتجاج هذه الى معارضة شملت أوربا بأسرها، بعد أن تحولت الى رفض شامل لصكوك الغفران الكنائسية ، حتى أن الكنيسة أعلنت خروجه على التعاليم المسيحية المقدسة ، واتهم بالهرطقة التي تعني الحكم بحرقه ، مما دفعه على الهرب وطلب الحماية من أمير سكسونيا، الذي رحب به واحتضنه وقام بدعمه في توسيع نطاق معركته ضد تعاليم الكنيسة وسلطة البابا ، ونادى بالمساواة بين رجال الدين اللاهوت المسيحي (الإكليروس) وبين عامة الناس ، وقال أن الإنسان العادي لا يختلف إطلاقا عن رجل الدين في الحقوق والواجبات ، وله كامل الحق في تفسير الإنجيل كما لرجل الدين .
إن هذه الدعوة التي أطلقها مارتن لوثر بمساواة الإنسان العادي برجل الدين في الحقوق ، وفي تفسيره الإنجيل كانت الشرارة التي ألهبت مشاعر الفلاحين الألمان وشعوب الإمبراطورية الرومانية المقدسة ، ودفعتهم للثورة ( ثورة الفلاحين أو حرب الفلاحين ) عندما كشف لهم حقيقة وضعهم، وألغى التعاليم المقدسة لرجال الدين ، وجعلهم متساوون مع عامة الناس ، مما دفع الفلاحين الخروج على الكنيسة في ثورة اكتسحت ألمانيا وسويسرا والنمسا ، وبلغت ذروتها عام 1525 عندما زحف ما يقارب 300.000 مقاتل من الفلاحين على الأديرة والكنائس وقاموا بحرقها ، وقد بلغت من العنف الدموي بحيث أجبرت مارتن لوثر على وقفها ، وكان من نتائجها اللاحقة صلح (وستفاليا ) بعد ما يقارب المائة عام على دعوة مارتن لوثر .

صلح وستفاليا:
بعد ثمانون عاماً من الحروب الدينية التي شملت أوربا ، وطحنت شعوبها من اجل التحرر من سيطرة رجال الدين ، وتعاليم الكنيسة المقدسة ومحاكم التفتيش ، ( الهرطقة أو الزندقة - Heretic ) والكفر ، وامتدادا لثورة الفلاحين وإعلان مارتن لوثر احتجاجه ومعارضته للتعاليم البابوية الكاثوليكية المقدسة ، تم التوقيع على صلح ( وستفاليا ) في 30 يناير 1648 و24 أكتوبر 1648 ، وقد أنهت هذه المعاهدات حروب الأعوام الثمانين ، وحروب الأعوام الثلاثين المسيحية بين الشعوب الأوربية ، ووضعت حداً لسطة الكنيسة المقدسة، التي تنازلت بموجبها عن املاكها ، ولم تعد البابوية قوة سياسية ذات شأن يذكر ، وبعد أن تراجع وأنهار شأن رجال الدين المسيحي لدى هذه الشعوب ، أصبحت العلمانية المنهج الراسخ للشعوب ألأوربية قاطبة ، ومنذ عام 1648 قامت معظم الدول الأوربية بتطبيق سياسة الفصل بين الدين والدولة بصورة رسمية .
لقد راكمت العلمانية تجربتها ، وشغلت المفكرين والعلماء ، وأنتجت العديد من المدارس الفلسفية ، وقد اتسع مجالها الفلسفي مع ( جورج جاكوب هوليك - George Jacobb Holyoak ) ، الذي عاش في انجلترا في الفترة 1817-1906 ، وكان من الطائفة الدينية : ( اللا أدرية أو الأغنوستية Agnosticism ) التي تؤمن أن القيم الدينية الحقيقية لا يمكن تحديدها ، وينظرون للذات ألإلهية أنها من المواضيع الغامضة ، ويؤمنون باستحالة التعرف على وجود الله ، أو التوصل لهذا الإيمان ضمن شروط الحياة الإنسانية، من خلال إيمانهم بنفي وجود يقين ديني أو الحادي ، وقد أنقلب جورج جاكوب على عقيدته الدينية هذه عندما آمن بالعلمانية، وأصبح احد أهم مفكريها وأسس: ( الجمعية العلمانية في لندن )، ومن آرائه التأكيد أن العلمانية تقف على الحياد بين الدين والإلحاد ، وفي فرنسا كان: ( فيرديناند بويسون-1841ـ 1932 ) احد ابرز مفكري العلمانية الذي ترك بصمات واضحة على الثورة الفرنسية ، وقد نادى بإقصاء رجال الدين عن الدولة، كما نادى بإلغاء المضمون الديني في التعليم والقانون ، وعن الحياة العامة .
العلمانية في خلاصتها الفلسفية حسب نظريات وآراء مفكريها هي النتيجة النهائية لحق الإنسان في التفكير الحر ، وحقه في الاعتقاد كيفما يشاء ، وحقه في الاختلاف حول جميع الموضوعات العقائدية والسياسية ، وله أن يعتقد بنفسه ويؤمن بما يريد ، فالعلمانية هي ثورة على الدولة الدينية ، نشأت وتطورت في أوربا كنتاج للتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي هيأت لقيام الثورات التي اجتاحت القارة الأوربية ، والأمريكية والكندية والأسترالية ، وتزحف بقوة نحو اكتساح القارتين الأسيوية والأفريقية .
إن الحديث عن نشأت أو مراحل تطور العلمانية في المنطقة العربية ، يكون مقروناً بفرضية نهاية الدولة الدينية التي تمثلت حينها في الخلافة العثمانية ، التي تتضح معالمها مع بدء فكرة انفصال العرب عن الدولة العثمانية ، وقيام الدول العربية المدنية التي تقف بين الواقع الاجتماعي العربي وخصوصياته الدينية ، والمنهج العلماني الذي تعزز خلال الثورات القومية العربية ، وصولاً لمراحل نهوض الفكر القومي العربي ، ومن الأهمية الإشارة بأن الدولة المدنية تختلف في خصوصياتها عن الدولة العلمانية ، وعلى هذه الخلفية سنقف عند نهاية الدولة أو الخلافة الإسلامية العثمانية ومراحلها وأسبابها .
نهاية الدولة العثمانية :
قد تكون معركة (فينا) التي بدأت في ( 12 سبتمبر 1683 ) بداية للتراجعات والهزائم التي أصابت الخلافة العثمانية ، فبعد الحصار الذي فرضته القوات العثمانية علي العاصمة النمساوية لمدة 60 يوماً ، انهزمت جيوش الصدر الأعظم ( قرة مصطفى ) قائد الجيوش العثمانية أمام القوات المتحالفة : ( النمساوية ، البولندية ، الألمانية ) بقيادة ملك بولندا ( يوحنا الثالث ) ، والتي وضعت حدا لطموحات الدولة العثمانية للتوسع نحو العمق الأوربي ، واحتلال الإمبراطورية النمساوية ، هذا الطموح أو الحلم العثماني كان قديماً منذ حكم السلطان سليمان القانوني بن السلطان سليم الأول ، الذي تولى الحكم في ( 22 سبتمبر 1520) ، عندما حاصر فينا قبل ( 150 ) عاماً من معركة فينا ، وتمكن في ( 11 سبتمبر 1526 ) السيطرة على العاصمة المجرية ( بودبست ) وجعل المجر التي أصبحت (مجرستان) إحدى الولايات العثمانية في شرق أوربا ، وفي عام 1683 حاصر الأتراك فيينا للمرة الثانية ، ثم جرت محاولة ثالثة في عام 1686 ، ولكن الجيوش العثمانية انهزمت أمام الجيوش الأوربية ، وتم القضاء على سيطرة العثمانيين في المجر وتحرير عاصمتها ( بودبست ) .
لقد شكلت هزيمة الجيوش العثمانية في الحرب النمساوية بداية لانحلال وضعف الخلافة العثمانية ، مكنت الجيوش الأوربية المتحالفة من إعادة الأجزاء التي سيطرت عليها الخلافة العثمانية ، وقد توالت تلك الهزائم التي حسمت بهزيمة الجيش العثماني في معركة ( نافارين ) بأثينا ، وكانت معاهدة: ( كارلوفيتز Carlovitz ) التي وقعتها الدولة العثمانية في ( 26 / 1 / 1699) مع ( آل هابسبورغ ) بمثابة الهزيمة الكبرى في تاريخ العثمانيين ، عندما تخلت بموجبها عن جميع مقاطعاتها في هنغارية والأراضي المحيطة بها ، وهي أول هزيمة واستسلام لدولة الخلافة الإسلامية العثمانية ، بعد حربهم وهزيمتهم أمام جيوش تيمورلنك عام (1402م) ، وكانت بمثابة معاهدة صلح المهزوم التي أجبرت الخلافة العثمانية على توقيع معاهدة صلح مذلة مع روسيا القيصرية عام( 1700) قدمت بموجبها تنازلات هامة لروسيا في البحر الأسود ، وشجعت الأطماع الروسية على إعلان الحرب التي استمرت لعامين ( 1711- 1713 ) وانتهت بهزيمة الدولة العثمانية والخضوع لاتفاقية ( عام 1713 ) مع روسيا لخمسة وعشرون عاماً ، حصلت روسيا بموجبها على امتيازات كبيرة توغلت على إثرها في عمق الأراضي الخاضعة لسيطرة الدولة العثمانية، كما شهدت السنوات (1724-1747) حروب شرسة بين الجيوش الأفغانية والفارسية مع الدولة العثمانية ، وكان لهزيمة الجيوش العثمانية وانتصارات نادرشاه على العثمانيين أثرا في إشعال ثورة شعبية في اسطنبول عام (1730) وتمرد الفرقة ألإنكشارية في الجيش التركي ، التي أطاحت بالصدر الأعظم بعد قتله، وخلع السلطان أحمد الثالث .
معركة نافارين :

معركة ( نافارين ) جنوبي اليونان ، التي وقعت في 20 أكتوبر سنة 1827م بين الجيوش الإسلامية ضد أساطيل الدول الأوربية المتحالفة مع اليونان :( فرنسا ، بريطانيا وروسيا) شكلت نقطة التحول الحاسمة في تاريخ الخلافة العثمانية الإسلامية ، عندما أخذت في الانهيار جراء الهزائم المتلاحقة ، وسبباً مباشراً لاحتلال فرنسا الجزائر عام ( 1830 ) وتونس عام: (1881)
واستقلال اليونان عن الدولة العثمانية ، وكانت واحدة من المعارك البحرية المصيرية التي غيرت مجرى التاريخ ، ومواقع الكثير من القوى المتصارعة ، بعد أن جرى تحطيم الأسطول العثماني والأسطول الجزائري ، وشكلت مرحلة استعمارية غربية جديدة للولايات والممالك الإسلامية العثمانية ، كذلك جرى تحطيم الأسطول المصري بقيادة إبراهيم باشا الابن الأكبر لمحمد علي باشا ،وبنتيجتها خسرت مصر حوالي ثلاثين ألف جندي، وفقدت معظم أسطولها البحري بعد الضربة القاضية التي أنزلها التحالف الأوروبي بالأسطول المصري والعثماني في موقعة ( نفارين ) البحرية عام(1827م)، وتراجع محمد علي باشا والي مصر عن الاستمرار في مهاجمة الأوروبيين، عندما أمر بعودة بقايا الأسطول المصري المحطم إلى الإسكندرية، والانسحاب من المعارك ، وترك الدولة العثمانية لتواجه مصيرها في مواجهة الدول الأوروبية لوحدها ، لذا كان هزيمة العثمانيين وإخراجهم نهائيا من أوروبا محتماً .

محمد علي من تاجر تبغ الى مؤسس دولة مدنية :

محمد علي باشا : ( 1805 – 1848) اليوناني من أصل ألباني ، كان تاجر تبغ ( الدخان ) شاءت الصدف أن يحكم مصر في الفترة ما بين (9/7/1805- 1/9/1848) ، ويرثها لأبنائه وأحفاده ، كان آخرهم الملك فاروق بن الملك فؤاد الأول بن الخديوي إسماعيل بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا ملك مملكة مصر والسودان ، وكان الملك فاروق آخر ملوك الأسرة العلوية .
إن محمد علي الذي حكم مصر ووصف بالحداثة والمدنية ، والملك الذي نقل الحضارة الغربية الى مصر ، والذي شجع القوى العلمانية المصرية والعربية كان أمياً ، ولا يجيد العربية إطلاقاً ، وهي حالة تجعلنا نقف أمامها كظاهرة غريبة لبعض الشعوب العربية التي تقبل بحكم الأجنبي ، ولم تجد فيما يجعلها ترفض شخصاً جاءت به الصدف أن يتوج ملكاً على مصر أو غيرها من البلاد العربية كمحمد على باشا ، الذي جاءت به مصادفة غزو نابليون الأراضي المصرية ، وهزيمة الجيوش العثمانية بعد احتلاله القاهرة ، حينها كان محمد علي خارج السلك العسكري ، ولكن الظروف شاءت أن يكون متطوعاً في كتيبة مدينة ( قولة ) مسقط رأسه ، وهي مدينة ساحلية يونانية صغيرة تتبع الدولة العثمانية ، وتم نقل هذه الكتيبة بحرا الى ساحل أبو قير بالإسكندرية في مارس عام 1801 .
إن المصادفة التاريخية وحدها التي جعلت محمد علي بطلا قومياً ، وسبباً لدخوله التاريخ بعد معركة الرحمانية التي أجبرت الفرنسيين على الانسحاب دون مقاومة لأسباب غير معروفة ، وتقديراً لشجاعته جرت ترقيته إلى رتبة بكباشي ثم رتبة لواء ، خلالها شهدت مصر صراعات مصيرية على النفوذ بين فرنسا وانجلترا وهولندا واسبانيا ، أُجبرت بريطانيا على توقيع معاهدة الصلح في 27 مارس سنة 1802 ، التي عرفت بمعاهدة صلح ( أميان - AMIENS ) من شروطها جلاء الإنجليز عن مصر ، ومن جهة أخرى كانت تدور معارك شرسة بين المماليك والأتراك للسيطرة على مصر .
لقد استغل محمد علي ثورة الشعب ضد المماليك في مارس عام 1804 م ، كمحاولة للوصول إلى قمة السلطة ، وانضم لثورة المصريين في القاهرة عام 1805 ضد العثمانيين ، بقيادة نقيب الأشراف عمر مكرم ضد الوالي العثماني خورشيد باشا ، وبسقوطه أعلنوا تنصيب محمد علي واليًا على مصر في 13 مايو سنة 1805، نتيجة لخطا في الموقف السياسي ، عندما حاول الوالي العثماني خورشيد باشا إبعاد محمد علي عن الأراضي المصرية بأمر سلطاني من الباب العالي ( قصر السلاطين العثمانيين ومقر حكمهم في تركيا ) الى جده وتقليده ولايتها ( حكمها ) ، الأمر الذي جعل الشعب المصري وزعمائه وعلمائه الخروج على السلطان العثماني ، وإعلان الثورة التي أطاحت بالوالي العثماني خورشيد باشا ، وتعيين محمد على واليا على مصر ، هكذا تولي محمد على باشا حكم مصر نزولا عند رغبة شعبها ، الذين لم يجدوا مصرياً واحدا لحكمهم بدل من تاجر التبغ اليوناني الألباني الأصل محمد على ، والذي أصبح من حيث لا يحلم سلطاناً على مصر ، وصار من مجرد جندي متطوع في إحدى الكتائب العسكرية العثمانية الى محمد على باشا سلطان مصر وبلاد الشام والحجاز والسودان وأوغندا ، وأجزاء من الحبشة واليونان ، حتى كاد أن يقضي تماماً على الخلافة العثمانية والدخول في مرحلة جديدة من الصراع لإقامة الدولة القومية العلمانية بعد المذبحة التاريخية الشهيرة التي عرفت بمذبحة المماليك عام 1811، والقضاء على الجيوش الإنكشارية العثمانية .

الحرب على الدولة العثمانية :
لقد ساءت العلاقات بين السلطان العثماني محمود الثاني ومحمد علي باشا بعد إعلانه الانسحاب من المعارك والانفصال عن الجيوش العثمانية ، مما يعني الخروج عن طاعة الخلافة العثمانية ، وعملت الدول الأوروبية على إذكاء روح هذا العداء ، فكانت فرنسا تشجع محمد علي باشا على إعلان الاستقلال التام عن الدولة العثمانية، والمناداة بأن الخلافة من حق العرب أولا، أما الإنجليز فقد انحازوا مع الخلافة العثمانية ضد محمد علي باشا ، فكانوا ينقلون إلى السلطان العثماني رغبة محمد علي في الاستقلال، ووضعوا أساطيلهم الحربية في خدمة الدولة العثمانية لاستخدامها ضد مصر ، لأنهم يجدون في مصر القوية تهديدا لطرق تجارتهم في المحيط الهندي والمتوسط .
لقد بلغت الدولة العثمانية في أواخر القرن الثامن عشر أسوأ حالاتها ضعفا وانحلالا، رغم المحاولات الإصلاحية لإنقاذها وتخطي محنها ، ولكن وضعها السياسي كان ينحدر نحو الانهيار التام ، والذي بدأ منذ عهد السلطان احمد الثالث (1703-1730) ، وبعده السلطان محمود الثاني الذي حاول أن يعيد للدولة العثمانية مكانتها، لكن الأحداث الدولية لم تساعده، وأنهكته الحروب مع روسيا، وشغلته حروبه مع محمد علي باشا ، وقد توفى السلطان محمود بداء السل في ( 2 / 7 / 1839) وخلفه السلطان عبد المجيد باشا.
كان محمد علي باشا متأثرا ومعجباً بالنمط الفرنسي في بناء الدولة العلمانية الحديثة ، ولهذه الغاية كان يبعث بأبناء الشعب المصري لتلقي العلوم في باريس ، ومن بينهم رجال الدين مثل الشيخ رفاعة الطهطاوي ، وقد وجد لبناء الدولة القومية العلمانية ضرورة القضاء على الخلافة العثمانية الإسلامية ، وأدرك حينها أهمية بناء جيش قومي مصري تمهيدا لإقامة الدولة العلمانية ، وهي من العوامل الهامة جدا في انهيار الدولة العثمانية ، وبروز بوادر الفكر القومي العلماني العربي ، لهذه الأسباب قاد محمد على وابنه إبراهيم الجيش المصري – السوداني وآلاف المتطوعين حملته العسكرية للاستيلاء على بلاد الشام ، ودخل حرباً ضارية ضد السلطان العثماني، تمكنت القوات المصرية بقيادة محمد علي وابنه إبراهيم هزيمة قوات الخلافة العثمانية الإسلامية عام 1833 ، والزحف نحو العاصمة التركية اسطنبول ، ولكن روسيا وبريطانيا وفرنسا تصدوا لجيوش محمد علي ، وقاموا بحماية سلطان الخلافة الإسلامية العثمانية بعد أن استنجد بجيوش هذه الدول العلمانية ، والذي أصبح فيما بعد يعرف بسلطان ( الرجل المريض ) ويقصد بها الدولة العثمانية التي أوشكت على نهايتها ، وتقاسم نفوذها بين تلك الدول الأوربية ، التي تصدت لجيش محمد علي باشا بهدف المحافظة على تركة الخلافة العثمانية ، وحماتها الى حين تقاسمها بعد القضاء التام على الخلافة العثمانية الإسلامية ، وقد اضطر محمد علي باشا الانسحاب مكتفياً بسيطرته على سوريا وجزيرة كريت، بعد فشل محاولته الثانية والثالثة للسيطرة على مركز الخلافة العثمانية الإسلامية عام 1839، عندما تصدت له تلك الدول ذاتها وأجبرته على التراجع ، أخيرا قرر تجهيز قوات عسكرية إضافية لمهاجمة مركز الخلافة الإسلامية في اسطنبول للمرة الرابعة ، ولكنه توفى عام 1849 قبل تحقيق أهدافه .
الأوضاع العامة أواخر القرن التاسع عشر :

أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بدأت الإمبراطورية العثمانية في الأفول ، وأخذت تتلاشى في أطرافها بعد أن احتلت فرنسا موريتانيا عام (1903) ، واحتلت إسبانيا المغرب عام : ( 1912)، كذلك إيطاليا التي احتلت ليبيا عام: (1911) واستمر وجودها الاستعماري حتى منتصف الحرب العالمية الثانية حينما تقاسمت النفوذ فيها كل من بريطانيا وفرنسا حتى عام 1951 إذ عمت الفوضى والاضطرابات جميع الولايات العثمانية ، بما فيها عاصمة الخلافة الإسلامية العثمانية ، وكان العالم يمر بمرحلة تحولات جديدة في تاريخ البشرية ، من خلال الثورات الاجتماعية التي عمت العالم ، وبروز دول صناعية جديدة مثل ألمانيا وإيطاليا ، وأمريكا ، وروسيا ، إضافة للإمبراطورية البريطانية ، وقد توجهت أنظار هذه الدول الغربية نحو الرجل المريض ( الخلافة الإسلامية العثمانية ) لتمزيقها وتقسيم ولاياتها ( التقسيم العالمي لمناطق النفوذ ) لذا كانت الحرب العالمية الأولى محتمة ، وكان المثقفون الأتراك والعرب يدركون بأن السيطرة التركية على العالم الإسلامي لم تعد مقبولة ، خلالها تشكلت أول نواة تنظيمية علمانية بين العرب والأتراك في الكلية الحربية ، من الضباط الساخطين على الحكم العثماني ، وكانوا متأثرين بالنمط الألماني في التفكير ومنهج الحياة السياسية ،الذي نقله الضباط الألمان الذين كانوا يدرسون هؤلاء الضباط في الجيش التركي ، وكانوا ينظرون لهم باحترام وإعجاب من حيث الانضباط الشديد في العمل والتفكير الجاد واحترام الإنسان ، ووجد هؤلاء الضباط أنفسهم معادين للدولة العثمانية ، ويطمحون للنموذج الغربي والحكم الديمقراطي المدني ، خاصة النمط القومي الألماني ، والعلمانية الفرنسية .
لقد شكل هذا الخليط من الأفكار القومية والعلمانية الغربية أول نواة تنظيمية في الجيش التركي ( العثماني ) ضمت خليط من العرب والأتراك ، منهم على سبيل المثال مؤسس الدولة التركية الحديثة (مصطفى كمال أتاتورك ) ونورى السعيد ، وجعفر العسكري، وعزيز المصري مهندس ثورة يوليو بقيادة عبدا لناصر ، كان هؤلاء أعضاء في (جمعية الوطن) التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك عام 1906م واندمجت فيما بعد مع جمعية ( الاتحاد والترقي ) التي قادت ثورة 27 إبريل عام 1909م وإسقاط السلطان العثماني عبد الحميد باشا ، وتعيين السلطان محمد الخامس ، واعلآن تركيا دولة علماني ديمقراطية قومية .
لقد كانت ثورة 27 ابريل التركية نهاية للخلافة الإسلامية العثمانية ، ونقطة التحول من دولة الخلافة الإسلامية الى تأسيس الدولة التركية القومية العلمانية ، التي أخذت بمنهج إحياء القومية الطورانية التركية ، والفصل بين الدين والدولة في نظام الحكم ( المبدأ العلماني ) ، ومن خلال هذا التطور التاريخي نجد أن الأتراك اخذوا بمبدأ الدمج بين القومية الطورانية التركية متأثرين بالفكر الألماني مع العلمانية الغربية ، وضمن هذا السياق نستنج الخلفية التاريخية للفكر القومي العربي ، بعد حل (جمعية الإخاء العربي العثماني) في 2 / 7 / 1908 لتحل مكانها الجمعية الاتحادية.
إن عملية التتريك الجبري التي مارسها نظام جمعية الاتحاد والترقي ضد العرب ، أدى إلى ردود فعل عنيفة لدى العرب ، وقاموا بإنشاء الجمعيات السرية والعلنية التي حملت لواء القومية العربية ، والدعوة لفصل الأقاليم العربية عن الدولة التركية ، كذلك برزت الدعوة للحكم الذاتي ، وان يكون للعرب إدارة أمورهم الداخلية من تعليم واقتصاد وثقافة ، ومشاركة الدولة العثمانية في الأمور الخارجية كالدفاع وغيرها ، وكانت الجمعية العلمية السورية التي تأسست عام 1857م أول جمعية تتبني العلمانية القومية في المشرق العربي ، لذا كان مؤسسيها خليط من المسلمين والمسحيين ، مثل الشاعر إبراهيم اليازجي الذي ألقى قصيدته المشهورة في يوم افتتاح المؤتمر التأسيسي للجمعية ، مجد فيها العلمانية القومية العربية ، وأصبحت هذه القصيدة النشيد القومي العربي ، وقد كسبت تلك الجمعية اعتراف الحكومة التركية عام ( 1868 ) ، وفي عام 1875ا تأسست: (جمعية بيروت السرية ) ، التي تأثرت بأفكار وقيم الثورة الفرنسية ، وقد حددت مطالبها في بيان صدر بتاريخ ( 31 / ديسمبر / 1880 ) من بينها : استقلال سوريا ولبنان ، الاعتراف الرسمي باللغة العربية ، ووقف تجنيد العرب في الحروب التركية ، وقد أثار هذا البيان غضب السلطان عبدا لحميد باشا عندما أصدر أوامره بوقف نشاطها العلني ، وهي مرحلة أخرى أجبرت العلمانيين العرب إتباع النشاط السياسي السري ، إضافة لبعض الجمعيات السياسية والأدبية الأخرى مثل الجمعية الوطنية العربية التي تأسست في باريس عام 1895 .
الهجرة إلي أمريكا وفرنسا ومصر :
نتيجة لتدهور الأوضاع السياسية ، هاجر عدد من العلمانيين العرب من بلاد الشام الى باريس والقاهرة ، وبعض بلدان أمريكا اللاتينية ، التي وجدوا فيها مجالا واسعاً لبدأ مرحلة جديدة من النضال العلماني ، من خلال تأسيس منابر إعلامية ثقافية فكرية وأدبية هامة في تاريخ العلمانيين العرب ، وتركوا أثارًا تدل على ذوقهم الأدبي وحسهم الوطني والقومي الرفيع ، ومن هؤلاء الشاعر القروي رشيد سليم الخوري ، والأديب إلياس طعمه ، ومن فلسطين سعيد جرجس العيسى ، والشاعر جاك صبري شماس ، ومنهم الكتّاب والشعراء الذين أسسوا لأدب المهجر مثل العالم الأديب اللبناني الأصل أمين فارس وأنطوان الريحاني الذي كان من عمالقة الأدب العربي ، كذلك جبران خليل جبران ، وإيليا أبو ماضي ، وميخائيل نعيمة ، وميشيل معلوف، ورشيد ألخوري، وشفيق معلوف ، وإلياس فرحات.
إن هؤلاء المفكرين والأدباء والمثقفين العلمانيين العرب هم الذين أسسوا لأدب المهجر الوطني ، وكانت لأعمالهم الأدبية والفكرية الطابع الوطني الذي قامت عليه الدعوات الوطنية اللاحقة في الأدب العربي ، وكان للعلمانيين العرب الفضل في تأسيس أهم المنابر الإعلامية والثقافية والفكرية في العالم العربي ، أبرزهم الأخوين بشارة وسليم تقلا مؤسسي صحيفة الأهرام المصرية في ( 5 أغسطس 1876 ) وهم من قرية كفر شيما بلبنان ، وكان للمفكرين والمثقفين العلمانيين العرب الذين هاجروا الى فرنسا ومصر الفضل في تأسيس عدد من الصحف والمجلات الثقافية التي تصدر لغاية اليوم ، وعلى سبيل المثال صحيفة الضياء التي أسسها إبراهيم اليازجي ، كذلك فارس نمر الذي أسس صحيفة المقطم اليومية ، إضافة لمجلة المقطم الشهرية ، وجورجي زيدان صاحب دار الهلال المشهورة ، كذلك جاء من الشام كل من أديب اسحق الذي أشرف وترأس إدارة ( صحيفة مصر) وسليم نقاش (مدير إدارة صحيفة التجارة) ، وبالرغم من انتمائهم في الأصل للطائفة المسيحية كانا على صلة مباشرة مع جمال الدين الأفغاني كمستشارين في حياته اليومية ومواقفه السياسية ، إضافة لهذا هناك شخصية نسائية علمانية عربية فريدة في تاريخ العلمانية العربية من حيث قوة الشخصية ، والرأي الحر ، والثقافة المتحضرة ، علينا الوقوف أمامها مطولاً هي ( فاطمة محمد محيي الدين اليوسف ) ولدت عام 1897 بمدينة طرابلس بلبنان ، إنها ( روز اليوسف ) والدة إحسان عبدا لقدوس ، ونجمة مسرح ( رمسيس ) للفنان المصري الكبير المرحوم يوسف وهبي ، ورائدة الصحافة المصرية ، فهي أول امرأة علمانية تملك مجلة سياسية ثقافية فكرية في العالم العربي ، ذلك عندما أصدرت العدد الأول من مجلة روز اليوسف في ( 26 / 10 / 1925 )، كما أصدرت مجلة الرقيب ومجلة صدى الحق ، ومجلة الشرق الأدنى ، إضافة لمجلة مصر حرة ، كما تزعمت حزب الوفد المصري الذي تعرض لانتقادات شديدة بحجة سيطرة امرأة علمانية على الحزب ، وقد رد على هذه الانتقادات الزعيم الوطني المصري مصطفى النحاس باشا (1879 ـ 1965( زعيم حزب الوفد المصري بأن : (( الحزب يفخر بروز اليوسف )) ، هذا إضافة للشخصية العلمانية السورية نجيب عازوري الذي أسس (جمعية عصبة الوطن العربي) في باريس عام 1904 ، والتي نشرت أهدافها في تحرير بلاد الشام والعراق من سيطرة الدولة العثمانية ، وبعد عام قام بنشر كتابه: ((يقظة الأمة العربية)) باللغة الفرنسية ، وأصدر مجلة (الاستقلال العربي) عام 1907.
لقد استمر هذا الوضع حتى مطلع القرن العشرين ، عندما أعلن تأسيس عدد من الجمعيات السياسية والثقافية العلمانية مثل: (رابطة الوطن العربي ) في باريس عام 1904 ، كان ابرز شخصياتها السيد نجيب عازوري ، وجمعية النهضة العربية ، التي تأسست في دمشق عام 1906 ، وجمعية الأخاء العربي - العثماني ، تأسست عام 1908 في الأستانة بتركيا من الطلبة العرب والأتراك - (الآستانة – هي القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية ، وقد تم تغيير اسمها في عام 1930 الى – إسلام بول – عندما صارت عاصمة للدولة التركية ثم الى اسطنبول ) - و( جمعية المنتدى الأدبي ) في اسطنبول من مثقفين قوميين وعلمانيين عرب ، ثم أعلن في عام 1912 تأسيس ( حزب اللامركزية ) في القاهرة ، من شخصيات عربية قومية علمانية ، كان هذا الحزب يهدف بدرجة أساسية الانفصال عن الدولة العثمانية ، وإقامة حكومات عربية مستقل ، ولتحقيق هذا الهدف رفع الحزب شعار ( اللامركزية العثمانية ) ، وبالمقابل نشطت عدة جمعيات علمانية سرية مثل ( الجمعية القحطانية ) التي أسسها عزيز المصري، وكان أحد الضباط البارزين في الجيش العثماني ، ومن أعضاء جمعية الاتحاد والترقي ، واشترك في ثورة عام ( 1908- 1909 ) ضد السلطان عبدا لحميد ، وكان أستاذا في كلية الأركان الحربية العثمانية ،وقد تأثرت هذه الجمعية بالفكر القومي الألماني ، وأخذت من الإمبراطورية النمساوية نموذجها في الحكم ، حيث كان شعارها ( دولة عثمانية ذات تاجين – عربي تركي ) مثل الإمبراطورية النمساوية (النمسا مع المجر) ، إضافة ( لجمعية العهد ) التي تأسست عام 1913 وكان معظم مؤسسيها من العسكريين ، باستثناء احد ابرز شخصياتها (عادل ارسلان ) كان مدنياً ، خلالها كان العالم على أعتاب مرحلة جديد من الصراع حيث الحرب العالمية الأولى .

أن الأوضاع السياسية ومحاولات التتريك كانت السبب المباشر لنهوض الشعوب العربية ، التي أعلنت تمردها ورفضها لمبدأ التتريك ، وبدأت المطالبة باللامركزية والانفصال عن الدولة التركية ، خلالها أخذت تتشكل النواة الأولى لبعض التجمعات العلمانية ذات الميول القومية العربية ، ففي عام 1913 دعا الشاعر السوري الكبير خليل مردم بك عدد من السياسيين والمثقفين السورين في بيته بدمشق لتكريم عز الدين بن أمين شيخ السروجية، وهو عز الدين علم الدين التنوخي ، وقد تحول هذا التكريم الى حفل سياسي قومي ، عندما قرر المجتمعون وجوب جمع شمل العرب والمطالبة بحقوقهم كأمّة لها كيانها التاريخي ، ويلاحظ في هذا التحرك تطابقه مع الفترة التاريخية للنهوض القومي التركي ( 1913 ) التي شكلت مرحلة رد فعل قومي عربي من خلال قيام العديد من الجمعيات والأندية القومية العربية ، التي تكونت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ، وكانت تدعوا لبعض ألأفكار العلمانية القومية العربية والنهضة العربية ، وأكثرها وضوحاً كانت الجمعية العربية الفتاة التي تأسست عام 1909 من الطلاب العرب الدارسين في باريس، وجاءت ردا على حزب تركيا الفتاة ، وهي التي دعت للمؤتمر القومي العربي بباريس عام 1913.
إن هذه التطورات والظروف السياسية تشير للدور المحوري للعلمانيين العرب في سياق الوعي العلماني القومي العربي ، الذي برز في مواقف وبرامج هؤلاء العلمانيون العرب، ممن شاركوا في السجال العلماني القومي بين العرب والأتراك، وقاموا بتأسيس الأحزاب والجمعيات العلمانية ذات الميول العلمانية القومية العربية ، وقد كان للجمعية العربية الفتاة تأثيرا قوياً على المسارات اللاحقة للتيارات العلمانية العربية ، والمساهمة الفعالة في دعم وبلورة ملامح الثورة العربية الكبرى عام 1916 التي قادها الشريف حسين .
الجمعية العربية الفتاة :
إن أهمية هذه الجمعية يكمن في نجاحها عقد المؤتمر العربي في باريس خلال الفترة: ( 18- 23 /6/1913 ) بمشاركة كبيرة من المفكرين والسياسيين العلمانيين والقوميين العرب، فلقد حضر المؤتمر مندوبين عن لبنان وسوريا والعراق وفلسطين، ومراقبين من مصر.
أنتخب المؤتمر لجنة لإدارة جلساته برئاسة عبدالحميد الزهراوي، وتمت الموافقة على جدول أعمال المؤتمر الذي تضمن :
أولا : حقوق العرب في الإمبراطورية العثمانية .
ثانياً : مقاومة الاحتلال الأجنبي – العثماني - للأرض العربية .
ثالثاً : المطالبة بالحكم الذاتي للبلدان العربية .
رابعاً: هجرة العرب من والى بلاد الشام.
لقد كان هذا المؤتمر نقطة التحول باتجاه تأطير الفكر العلماني والتوجه القومي ، حيث برزت لأول مرة في أطار تنظيمي ، تيارات تنادي بالانتماء العربي وليس الإسلامي ، والانفصال عن دولة الخلافة العثمانية الإسلامية ، كذلك تبلورت الأفكار القومية بوضوح ، إضافة لبروز تيار قومي معادي للإمبريالية الغربية ، التي وجدوا فيها الخطر الحقيقي على الولايات العربية العثمانية ، حيث أن بعض الدول الأوروبية قد احتلت بالفعل عدداً من الأقاليم العربية مثل ليبيا وتونس والجزائر ، وقد جرت مناقشات في هذا المؤتمر حول توجه الامبريالية الأوربية لتقاسم الأقاليم العربية ، أو ما يعرف بالتركة العثمانية ، وظهر تيار آخر كان يجد في بقاء الأقاليم العربية في إطار الإمبراطورية العثمانية هو السبيل الأفضل لحمايتها من الاستعمار الغربي ، ومن خلال هذه التوجهات اقر المؤتمر ، أن تحقيق المطامح القومية العربية توجب إجراء إصلاحات في نظام الحكم التركي ( العثماني ) وتحويله إلى نظام لا مركزي ، لأن ذلك سوف يحقق طموحات العرب والأتراك من خلال معادلة غريبة تجسدت في الاعتقاد أن بقاء الأقاليم العربية تحت السيطرة التركية سيحقق المطامح العربية في التطور والازدهار ، وبالمقابل يحقق الطموحات التركية في الإبقاء على الإمبراطورية العثمانية .
لقد انتهى المؤتمر بمجموعة قرارات عكست بوضوح الأجواء والتوجهات العامة التي سادت مناقشاته ، ومن هذه القرارات مطالبة الدولة التركية ( الخلافة العثمانية ) السماح للعرب بالمشاركة في الحكم ، وضمان حقوقهم السياسية ، والسماح للولايات والأقاليم العربية بالحكم الذاتي ، واعتبار اللغة العربية لغة رسمية في مجلس النواب العثماني الى جانب اللغة التركية ، وأن تكون الخدمة العسكرية في الولايات العربية محلية إلا في حالة الضرورة القصوى ، كما ناقش المؤتمر لائحة بيروت ، وهي اللائحة التي تقدمت بها جمعية بيروت الإصلاحية للوالي العثماني ، وتضمنت مجموعة مطالب أهل بيروت ، وكانت لائحة بيروت التي صادق عليها المؤتمر بالإجماع تتضمن مطلبين تخص ولاية بيروت ، وهي توسيع سلطة المجالس العمومية ، وتعيين مستشارين ، كما طالب المؤتمر الحكومة العثمانية تحسين مالية متصرفية لبنان ، وخرج المؤتمر ببعض المواقف التي ألحقت بقراراته ، وهي أن على الأعضاء المنتمين إلى لجان الإصلاح العربية عليهم أن يمتنعوا عن قبول أي منصب كان في الحكومة العثمانية في حالة رفض هذه الحكومة قرارات المؤتمر العربي ، واعتبار هذه القرارات بمثابة البرنامج السياسي لجميع أعضاء المؤتمر ، ولن يتم مساعدة أي مرشح عن العرب في الانتخابات التشريعية إذا لم تكن هذه القرارات ضمن برنامجه .
لائحة بيروت :
لا بد من توضيح بعض المحطات التاريخية الهامة ضمن السياق التاريخي للحركة العلمانية ، من هذه المحطات التاريخية الهامة في مجرى النضالات القومية العلمانية ( لائحة بيروت ) فما هي لائحة بيروت هذه التي اقرها المؤتمر العربي الأول بالإجماع ، وللوقوف على الخلفية التاريخية لهذه اللائحة نعود لمصادرها التاريخية التي بدأت منذ عام1912 عندما عقد اجتماع تحضيري لعدد من كبار شخصيات بيروت ، وبعد سلسلة من الاجتماعات والمشاورات أعلن عن تشكيل ( جمعية بيروت الإصلاحية ) واعتمدت برنامج عمل تضمن مطالبة السلطنة العثمانية بانتخاب مجلس لولاية بيروت من 24 عضوا ثم عدل الى 84 عضوا ، كذلك طرحوا مطالب تتعلق بالضرائب وإصلاح أحوال أهل بيروت .
لقد تطور عمل الجمعية عندما حولت برنامجها الى دستور شامل ، كانت تهدف من خلاله إضعاف السلطة المركزية العثمانية بهدف نيل ولاية بيروت استقلالها والانفصال عن الدولة العثمانية ، مما جعلها في صراع مع الوالي التركي ( العثماني ) ادهم بك الذي عزل بعد استيلاء الإتحادين الأتراك على السلطة العثمانية ، وتعيين حازم بك الذي أعلن حل ( جمعية بيروت الإصلاحية ) في أوائل مارس 1913 ، كما أمر بإقفال مقراتها وأنديتها ، وردا على هذا الإجراء أعلنت بيروت الإضراب وإقفال المحلات يوم 12 ابريل 1913، كما أعلن الأهالي تضامنهم مع الجمعية ، وقد حذر الوالي العثماني أهالي بيروت من التعاطف مع العلمانيين ، ولكنه اضطر للرضوخ أمام مطالب جمعية بيروت الإصلاحية ، وجرى إطلاق سراح جميع المعتقلين ، الأمر الذي أدى الى فك ذلك الإضراب التاريخي للحركة العلمانية العربية في مهدها ، ففي الرابع عشر من ابريل 1913.أعلنت قيادة الجمعية فك الإضراب ، والنضال من اجل تحقيق تلك المطالب التي تضمنها برنامج الجمعية ، ومن ثم دستورها الذي أصبح يعرف ( بلائحة بيروت ) التي عرضت على المؤتمر القومي بباريس عام 1913.

العلمانيون العرب خلال العالمية الأولى:
لقد حسمت الخلافة العثمانية موقفها عندما أعلنت دخولها الحرب العالمية الأولى في ( 30 أكتوبر 1914) الى جانب ألمانيا والنمسا ، ووجدت القوى العلمانية القومية العربية فرصتها في انشغال تركيا بالحرب العالمية لإعلان انفصال الأقاليم العربية عن تركيا ، خاصة أقاليم بلاد الشام ، وبالمقابل وجدت السلطات التركية في هذه التحركات العربية خطرا يهدد وجودها ، ومناطق نفوذها في تلك الأقاليم العربية ، لذا لجأت لسياسة القوة والقمع والإرهاب ضد الوطنيين العرب ، وجاءت بشخصية داغستانية قائدا للجيش العثماني الرابع في سوريا لتبدأ مرحلة جديد من الصراع العربي التركي .
احمد جمال باشا ( السفاح ):
لقد شكل تعيين القائد التركي الداغستاني ( احمد جمال باشا ) الملقب بالسفاح والياً على سوريا بعد الحرب العالمية الأولى ( 1914- 1918 ) ، مرحلة أخرى في الصراع بين العلمانيين العرب مع أركان الدولة التركية التي اتبعت سياسة التتريك في الأقاليم العربية ، حيث كان جمال باشا ( السفاح ) احد زعماء ( جمعية تركيا الفتاة ) ومن ثم ( جمعية الإتحاد والترقي ) من اشد المتعصبين للقومية الطورانية المعادية للعرب، وهو أبرز شخصية في تاريخ إسقاط السلطان العثماني عبدالحميد باشا.
إن تعين جمال باشا السفاح والياً على سورية جاءت بردود فعل عربية غاضبة ، حيث وجدوا فيه سيطرة عثمانية بثوب جديد تحت راية قومية تركية ممثلة بجمعية ( الإتحاد والترقي ) التركية ، وقد حاول جمال باشا ( السفاح ) تخفيف ردود الفعل هذه بإتباع سياسة المهادنة عندما ألغى خطبته الشهيرة بالنادي الشرقي بدمشق قال فيها : (( يجب عليكم يا أبناء العرب أن تحيوا مكارم أخلاق العرب ومجدهم، منذ شروق أنوار الديانة الأحمدية، أحيوا شهامة العرب وآدابهم حتى التي وجدت قبل الإسلام، ودافعوا عنها بكل قواكم ، واعملوا على ترقية العرب والعربية، جددوا مدنيتكم، قوموا قناعاتكم، كونوا رجالا كاملين )) ، ولكن هذه السياسة سرعان ما انهارت أمام طبائع الاستبداد التي كتبها ( الكواكبي ) عندما أمر بتنصيب المشانق ، وإعدام عشرات العلمانيين من أبناء سوريا الطبيعية ، وبدأ بسياسة التتريك لجميع الشعوب الخاضعة للسلطان التركي ، والقضاء على ثقافاتها ولغاتها القومية ، خاصة اللغة والثقافة العربية ، وفرض رقابة شاملة على الصحف والمجلات العربية ، وبدأ يحاصر المفكرين والمثقفين العرب من العلمانيين ، وأمر بحل الكتائب العسكرية العربية في الجيش العثماني .
كان العامل الثاني للنهوض العلماني القومي العربي الجرائم البشعة التي ارتكبها جمال باشا السفاح بحق المناضلين العرب من دعاة العلمانية القومية العربية ، بعد هزيمته في الحملة العسكرية على مصر في (2 / 2 / 1915) عندما كان قائدا للجيش الرابع في سورية عام 1915 ، والذي أصبح الحاكم المطلق على بلاد الشام كلها ، وأمر باعتقال زعماء الجمعيات العلمانية والثقافية العربية ، وتنصيب المشانق لصفوة المناضلين العلمانيين العرب ، عندما أمر بإعدام سبعة مناضلين علمانيين عرب شنقاً في ساحة المرجة بدمشق ، وفي الساعة السادسة من صباح يوم السادس من مايو ( أيار) عام 1916 نفذ حكم الإعدام شنقاً بأربعة عشر مناضلا من القيادات العلمانية في ساحة البرج ببيروت ، وهي ذاتها ساحة الشهداء وبعد مقتل الرئيس رفيق الحريري أصبحت ساحة الحرية ، كان بين هؤلاء المناضلين العرب رئيس المؤتمر القومي العربي الذي عقد بباريس عبدالحميد الزهراوي ، والأمير عارف الشهابي من لبنان ، وكان بينهم واحدا من ابرز مصادر الفكر العلماني العربي ومندوب بيروت في المؤتمر القومي العربي احمد بن حسن بن محي الدين طيارة احد مؤسسي جمعية بيروت الإصلاحية ، وصاحب جريدتي الإتحاد ، وجريدة الإصلاح لاحقاً، بتهمة التواطؤ والعمالة للفرنسيين ، ومن بين الذين تم شنقهم الأمير عمر الجزائري (حفيد الأمير عبدالقادر الجزائري الذي قاوم الاستعمار الفرنسي سبعة عشر عامًا - 1832-1847- وألحق به هزائم كبيرة ، وأجبره على عقد معاهدات الصلح مثل معاهدة – ديميشال - نسبة للجنرال الفرنسي ديميشال - في 26 فبراير 1834، ومعاهدة التافنة ) ، إضافة لشخصيات علمانية وطنية من فلسطين مثل( علي عمر النشاشيبي ) من القدس ، ومحمد الشنطي من يافا ، ولا تزال ذكرى هؤلاء المناضلين راسخة في وجدان أبناء الشام ، ويعبرون عنها في أهزوجة شعبية مؤثرة : ( زينوا المرجة ... والمرجة لينا ... الخ ) وهناك من حرف كلماتها بعض الشئ على وزن : ( زينوا الساحة ... والساحة لينا .. الخ ) والمقصود بها ساحة البرج ببيروت ( ساحة الحرية ).
إن هذه المجزرة بحق الوطنيين العلمانيين العرب تحولت إلي نقمة عارمة ، وكانت بداية للنهوض القومي العلماني العربي ، عندما أصبحت جثث هؤلاء الشهداء الأبطال المعلقة في ساحات دمشق وبيروت أفضل أشكال الدعاية الثورية والدعوة للثورة التي انطلقت أولى شراراتها من ( القابون ) إحدى قرى ضواحي دمشق ، حيث كان الأمير فيصل بن الشريف الحسين في مزرعة آل البكري مكان إقامته عندما نادى (( الفرس الشقراء )) التي انتظرت الأمة العربية طويلاً .
الفرس الشقراء والثورة العربية الكبرى :
الفرس الشقراء حادثة غيرت تاريخ العلاقات العربية الإسلامية أو بالأحرى العلاقات العربية بالخلافة العثمانية ، وهي نتيجة منطقية لتراكم حقب من الصراع بين الدولة العثمانية مع محيطها العربي ، وبروز واقع عالمي جديد من خلال الثورات والتحولات الديمقراطية في أوربا ، ونهوض الفكر القومي العلماني والاشتراكي الذي ساد العالم ، وأصبحت الخلافة العثمانية تُشًبًهٌ بالرجل المريض ، كذلك ترافق النهوض القومي العربي ، مع التحولات القومية الشوفينية داخل مقر الخلافة العثمانية ( تركيا ) وسيطرة ( جمعية الإتحاد والترقي ) ذات النزعة القومية الطورانية ( التركية ) على مقاليد الحكم في تركيا وعدد من الولايات العثمانية ، كان ذلك سبباً مباشرا لتراكم الشعور القومي العربي ، وكانت تحتاج الى شرارة لتفجيرها في ثورة عربية قومية ، من هنا جاءت كلمة السر : (الفرس الشقراء ) التي أطلقها الأمير فيصل لبدء إعلان الثورة العربية الكبرى في (5/ 6 / 1916 ) حسب البيان الذي نشر في صحيفة القبلة التي كانت تصدر بمكة ، فبينما كان الأمير فيصل بن الشريف الحسين يتناول الفطور مع مضيفيه بمزرعة آل البكري في غوطة دمشق ، جاءهم مبعوث ليبلغهم نبأ إعدام المناضلين العرب ، وقدم لهم العدد الخاص من جريدة الشرق ، التي نقلت تفاصيل عملية الإعدام ، فكان حدثاً فاجعا ، جعلت الأمير فيصل ينزع عقاله ويدوسه بقدمه صارخاً : (( طاب الموت يا عرب )) عندها قرر العودة للحجاز وبشكل سري ، ومن الحجاز أطلق نداء الثورة العربية الكبرى ، عندما عمم برقيته الشهيرة: (( أرسلوا الفرس الشقراء)) أي ( أعلنوا الثورة ) وبدأت الثورة العربية الكبرى ، وحدادا على أرواح هؤلاء المناضلين عمت موجة غضب في بلاد الشام والعراق لدى عامة الناس بتنكيس العقال ( الكوفية ) ( ميله لمقدمة الرأس ) كتعبير عن أمر جلل الى حين الثأر لهؤلاء الأبطال من الوطنيين العلمانيين العرب الذين تم شنقهم في ساحة البرج ( ساحة الشهداء – ساحة الحرية ) ببيروت وساحة المرجة بدمشق ، خلالها أعلن الزعيم الوطني سلطان الأطرش إبن قائد ثورة جبل العرب الذي أعدمه العثمانيين عام 1911 انضمامه للثورة العربية الكبرى والقتال تحت رايتها التي رفعها فوق مبنى بلدية دمشق بساحة المرجة ، عندما دخلها محررا مع قواته قبل دخول جيوش الثورة العربية عام 1918 ، واخذ ينشد (( زينوا ألمرجه ... والمرجة لينا ... )) مع زغاريد النساء الدمشقيات ، وهتافات الشعب السوري بدخول الثوار ساحة المرجة ، ورفع العلم العربي ، وكان سلطان الأطرش أول من رفع علم (الثورة العربية) في سماء سوريا ، وقد منحه الشريف فيصل بن الحسين لقب ألأمير عام 1916، كما منحه أيضاً رتبة فريق في الجيش العربي ، كذلك أعلن الزعيم الوطني صالح العلي قائد الثورة في شمال سوريا ( الساحل السوري ) انضمامه للثورة العربية الكبرى ، والقتال تحت رايتها ( العلم العربي )، كما انضم للثورة العربية الشاعر الوطني فخري البارودي صاحب نشيد الوطن :
بلاد العرب أوطاني...من الشـامِ لبغدان... ومن نجد إلى يمـنٍ ...الى مصـر فتطوانِ فـلا حـد يباعدنا ... ولا ديـن يفـرقنا... لسان الضاد يجمعنا... بغـسان وعـدنانِ
وكان من الشعراء البارزين في الجمعية العربية الفتاة ، وقد اشترك في الثورة العربية الكبرى ثم في الجيش العربي برتبة ملازم .
الملك فيصل قائد جيوش الثورة العربية الكبرى :

الملك فيصل : هو فيصل بن الحسين بن علي ، والده كبير أشراف مكة ، وحاكم الحجاز: ( 1916-1924 ) ، ولد بمكة المكرمة: ( 20/5/ 1885) وتوفي في: ( 8/ 9 / 1933 ) بكانتون برن في سويسرا مسموماً حسب قول بعض المؤرخين .
في عام 1915 قام بزيارة دمشق وأعلن انضمامه للجمعية (العربية الفتاة) كما أقسم على دعمها وولائه لمبادئها ، وكان قائدا لجيوش الثورة العربية الكبرى التي أسسها والده الشريف حسين بن علي ضد الدولة العثمانية عام 1916
في صبيحة يوم الاثنين: ( 5 / 6 / 1916 ) أعلن بدأ انطلاقة الثورة العربية الكبرى وإعلان الحرب على الدولة العثمانية ، التي حقق فيها انتصارا على الجيوش العثمانية ، وبنتيجتها توج ملكاً على سوريا بالاتفاق مع الحركة الوطنية السورية عام 1918 ، كما توج ملكاً على العراق باستفتاء شعبي ، وبدعم من الحركة الوطنية العراقية ، وتأييد من قيادة ثورة العشرين ، بعد هزيمته أمام القوات الفرنسية واستشهاد المناضل يوسف العظمة وزير دفاعه مع رفاقه في معركة ميسلون التاريخية ، خلالها كان يعقد في القاهرة مؤتمرا ( 1920 ) لترتيب الوضع السياسي في العراق إثر ثورة العشرين في العراق ضد الاستعمار البريطاني ، وأعلن عن تشكيل المجلس التأسيسي لزعماء العراق وشخصياته السياسية ، الذين توافقوا فيما بينهم على تنصيب فيصل بن الشريف حسين ملكاً على العراق بتاريخ: ( 23/8/1921 ) ، وقد استمر حكمه حتى عام 1933 ، خلالها أبرم معاهدة عام 1930 أقرت بريطانيا بموجبها استقلال العراق ، وإنهاء الانتداب البريطاني العسكري من الأراضي العراقية .
لقد انتهت الخلافة العثمانية بعد سقوط حكم السلطان عبد الحميد الثاني ، الذي اجبر أن يعلن بأن السلطنة العثمانية دولة دستورية ، وقيام الثورة التركية بقياده جمعية (تركيا الفتاة ) التي انتهجت مبدأ التتريك منذ عام 1908 ، واحتقار الشعوب غير التركية ، واعتبارها شعوب متآمرة تسببت في انهيار الإمبراطورية العثمانية وإضعاف الدولة التركية ، وتشكلت جمعية تركيا الفتاة أو الأتراك الشباب من مجاميع قومية تؤمن بضرورة إحياء الطورانية التركية ، وشعارها الذئب الأخضر ، وهي امتداد للثورة الدستورية الثانية في عام 1889 ،كما سيطرة على جمعية الإتحاد والترقي عند قيامها في 1906 التي أصدرت صحيفتها مشورت ، تدعو للثورة الديمقراطية والإصلاح ، وقيام حكومة دستورية ، وكانت الجمعية خليطا من أجناس وأديان مختلفة الغلبة كانت للأتراك، والعسكريون الذين استغلوا الأحداث الدموية في الأعوام ( 1905 - 1908 ) لانتزاع الحكم ، حيث أكملت الجمعية تنظيم صفوفها داخل الجيش منذ عام 1907 ، وبدأت تستعد لإعلان الثورة - الانقلاب العسكري – على السلطان عبدا لحميد الثاني ، الذي اجبر في الخامس والعشرين من يوليو عام 1908 على إعادة دستور 1876 وأجريت الانتخابات لأول مجلس نيابي ، وقد حاول السلطان عبد الحميد الثاني في الثالث عشر من أبريل عام 1909 القيام بثورة مضادة، ولكن الجيش التركي الموالى لجمعية الاتحاد والترقي تصدى له ، وقام بالزحف الى العاصمة التركية والسيطرة عليها ، وإعادة نفوذ جمعية الاتحاد والترقي ، وخلع السلطان عبد الحميد الثاني، وتم نفيه وتنصيب أخاه محمد رشاد سلطانا باسم محمد الخامس في السابع عشر من أبريل عام 1909 ، وبذلك أصبحت السيطرة المطلقة في الدولة لجمعية الاتحاد والترقي التي حافظت على حكم الإمبراطورية العثمانية من خلال حكم البشوات الثلاثة المنتمين لجمعية تركيا الفتاة منذ عام 1913 حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وزوال الدولة العثمانية التي أعلنت هزيمتها في الحرب العالمية الأولى ، ووقعت معاهدة استسلامها في 30 / 10 / 1918 مع الحلفاء ، وبذلك انتهى وجود الخلافة الإسلامية العثمانية في الولايات العربية ، بعد أن جرى تقاسم النفوذ الاستعماري في المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية بموجب اتفاقية ( سايكس بيكو ) التي وقعت عام 1916 ، وقد كشف نصوصها الإتحاد السوفيتي بعد سقوط الحكم القيصري في روسيا ، وكان ذلك بمثابة إعلان وفاة الرجل المريض ( الخلافة الإسلامية العثمانية ) لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الصراع .
لقد تم تقسيم الإمبراطورية العثمانية بموجب تلك الاتفاقية ، بحيث حصلت روسيا على القسطنطينية (إسطنبول) وسيطرت على ضفتي البوسفور ومساحات كبيرة بشرق الأناضول في المناطق المحاذية للحدود الروسية التركية، وبموجب هذه الاتفاقية جرى تقسيم النفوذ بين فرنسا وبريطانيا على النحو التالي :
المنطقة ( 1 ) :

تشمل أجزاء من فلسطين منها مدينة القدس وتدار دوليا .
المنطقة ( 2 ):
تضم جنوب العراق : ( بغداد والبصرة ) و تحكمها انكلترا مباشرة.
المنطقة (3):
منطقة النفوذ الفرنسي تمتد من الساحل السوري حتى الناقورة والى جبل لبنان وكيلكيليا ( قلقيليا ) وأجزاء أخرى من فلسطين تحت إدارة خاصة ، ووضع ميناء الاسكندرونة تحت إدارة دولية ، واعتباره ميناءا حرا .
المنطقة ( 4 ) :
المناطق الداخلية السورية، وشمالي العراق مع الموصل وكركوك تحت إشراف فرنسا.
المنطقة ( 5 ) :
تضم الأردن وبادية الشام ، والعراق الأوسط، تشرف عليها بريطانيا.
إن هذه التطورات والأحداث تجعلنا نقف على حقيقة هامة في التاريخ العربي ، حيث التحول الجذري في التفكير والاعتقاد عند العرب منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين من خلال الانحياز الكامل للفكر العلماني القومي العربي ، والانفصال التام عن المحور الإسلامي ، ووقوف العرب الى جانب الحلفاء الغربيين الغير مسلمين ضد ( الخلافة العثمانية المسلمة ) وهي مرحلة هامة في بلورة الفكر القومي العلماني ، والعمل على أساس القومية العربية ، وقيام كيانات عربية مستقلة عن المراكز الإسلامية للدولة العثمانية ، ومما يؤكد هذه الحقيقة قيام جمال باشا ( السفاح ) يإقتحام السفارة الفرنسية في كل من بيروت ودمشق وضبط وثائق تتعلق بعلاقات واتصالات زعماء الجمعيات والأحزاب السياسية العربية بفرنسا ، التي حملت التأكيد على استقلال أقاليم بلاد الشام عن الدولة العثمانيين .

ملامح الدولة القومية :علم ونشيد :

بعد قيام الدولة المدنية التركية ، وانهيار دولة الخلافة العثمانية التي أعلنت هزيمتها في الحرب العالمية الأولى ، ووقعت معاهدة استسلامها في 30 / 10 / 1918 مع الحلفاء انتهى وجود الخلافة الإسلامية العثمانية في الولايات العربية ، وبذلك انتهت الوشائج الإسلامية التاريخية للأمم الغير التركية ، التي فقدت مبررات خضوعها لمنظومة الدولة الإسلامية العثمانية ، ولم تعد القيم والمبادئ الإسلامية تشكل الرابط التاريخي للشعوب الإسلامية ، أو المبرر الديني لخضوعها للحكم العثماني ، وفي هذا السياق التاريخي تبلورت فكرة قيام الكيانات السياسية العربية كنتيجة حتمية لانهيار الدولة العثمانية ، بعد أن وجد العرب في الدولة القومية التركية مرحلة استعمارية جديدة شكلت حالة انتقالية أخرى في الصراع القومي العربي التركي ، وكانت سبباً مباشرا للنهوض القومي العربي ، برزت خلالها الجمعيات العلمانية والقومية العربية التي أنتجت ثقافتها المعاصرة في الحرية والاستقلال والوشائج القومية العربية ، وضرورة الانفصال وإقامة الدولة العربية ، كان بدايتها تصميم العلم العربي ، والنشيد القومي ( نشيد العلم ) كنتيجة منطقية لتراكم المشاعر القومية العربية المعادية للخلافة الإسلامية العثمانية ، وتوجهاً مبدئياً للجمعيات ذات التوجه القومي العلماني بضرورة الانفصال عن الدولة الإسلامية ، وإقامة الكيان أو الكيانات السياسية العربية المستقلة ، وتجسيدا لهذه المشاعر القومية العربية التراكميةً ، بدأت تتبلور التصورات القومية العربيةً للكيانات السياسية العربية المستقلة ، والانفصال عن الدولة التركية ، وقد جسد المنتدى الأدبي العربي الذي تأسس في اسطنبول عام 1909 تصميم الراية القومية العربية التي تألفت من اللون الأبيض والأسود والأخضر والأحمر كتعبير حي لما جاء في قصيدة الشاعر العراقي صفي الدين الحلي (1276 – 1349م ) التي تبدأ بهذه الأبيات :
((سلي الرماح العَوالي عن معالينا
واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا
يـــــــا يــــــوم وقعـــــــة زوراءِ العــــــراق وقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد
دِنــــــــا الأعــــــــــادي كمـــــــــا كــــانــــــــــــــــــــوا يـــــــــدينــــونــــــــــا ))
وينتهي بهذه الأبيات التي جسدت الرمزية التاريخية للعلم العربي:
(( بِيض صَنائعنا سود وقائعنا
خـضرٌ مـرابعـــنا حمرٌ مواضينا ))
ثم قررت الجمعية العربية الفتاة تبني هذه الفكرة عندما أعلنت في مارس عام 1914 اعتماد العلم العربي بألوانه الأبيض والأسود والأخضر والأحمر التي عبرت عن مراحل تطور الدولة الإسلامية منذ قيام الدولة الأموية باعتمادها الراية البيضاء ، ثم الدولة العباسية التي حملت الراية السوداء ، كذلك الدولة الفاطمية التي أخذت بالراية الخضراء .
لقد تطورت فكرة الدولة القومية العربية من مجرد علم ، ونشيد إلي واقع وثورة ، عندما قرر الشريف عبدالله بن الحسين الانضمام للجمعية العربية الفتاة عام 1915 ، وحمل الراية العربية الى والده الشريف الحسين بن علي قائد الثورة العربية الكبرى في الحجاز ، الذي أعلن اعتماد العلم العربي ابتداءا من فجر التاسع من يونيو عام 1917 راية للثورة العربية الكبرى وقد صدر بيان رسمي بهذا الخصوص نشر بجريدة القبلة التي كانت تصدر من مكة ، وذلك بمناسبة الذكرى الأولى للثورة العربية الكبرى – في هذا الصدد أشير أن بعض جماعات القوميين العرب في منطقة الخليج اعتمدوا اليوم ذاته – التاسع من يونيو – لانطلاقة ثورتهم قبل حوالي أربعون عاماً - ) .

لقد بدأت ملامح الدولة المدنية العربية تتبلور منذ عام 1916 ، عندما انتصرت قوات الثورة العربية الكبرى التي بلغ قوامها ما يقارب ( 000 .70 ) ألف مقاتل معظمهم متطوعين عرب من بلاد الشام في أولى معاركها ضد القوات العثمانية بجدة في 13 يوليو 1916، وإعلان سيطرتها على مكة ، والزحف نحو البحر الأحمر باتجاه اليمن، وقد تمت السيطرة على الطائف في سبتمبر عام 1917 ، ووصلت الى ميناء العقبة ، وتحرير شرقي الأردن ، ودخل الشريف فيصل بن الحسين دمشق على رأس جيوش الثورة العربية الكبرى في صباح يوم الثاني من أكتوبر عام 1918 ورفع في سمائها العلم العربي ، ومنها الى حلب وحماة ، وبيروت وطرابلس وصور وصيدا ، التي رفعت رايات الثورة العربية الكبرى ، وتأكيدا على الهوية القومية العلمانية للدولة العربية الموعودة قال الأمير في فيصل مخاطباً الشعب السوري واللبناني: ((الدين لله والوطن للجميع)) وقال ((نحن عرب قبل موسى وعيسى ومحمد)) .
إن يوم الخامس من أكتوبر عام 1918 يصادف إعلان قيام أول دولة مدنية قومية عربية، ففي صبيحة هذا اليوم أعلن الأمير فيصل بن الشريف حسين بن علي في أول بيان تاريخي عقب تحرير دمشق عن قيام أول دولة عربية في سورية على أساس الانتماء الوطني والقومي ، وأعلن تشكيل أول حكومة عسكرية برئاسة اللواء علي رضا ألركابي ، ورفع العلم العربي في سماء سوريا الطبيعية ، مع هتافات الشعب السوري الذي ردد نشيد العلم العربي لأول مرة (( يا علمي .. يا علمي يا علم العرب أشرقي واخفقي في الأفق الأزرق يا علم... من دماء الشهداء .. من جراح الكبرياء .. عشت للمجد سماء ... يا علم ... يا علمي يا علم العرب... )) ، ولكن هذه الأوضاع لم تستمر طويلاً بعد قرار المؤتمر الوطني السوري في الثامن من مارس 1920 إعلان استقلال سوريا الطبيعية ، وتتويج الشريف فيصل بن الحسين ملكاً على سورية بناءا على رغبة وإرادة الشعب السوري، كما أعلن عن تشكيل لجنة لوضع مشروع القانون الأساسي ( الدستور ) الذي اقر بأن نظام الحكم ملكي دستوري ، ولكن هذه الحكومة لم تدوم طويلا عندما احتلت فرنسا الأراضي السورية ووجهت إنذارا للملك فيصل بن الحسين الذي استنجد بالشعب السوري لقتال الفرنسيين لتحرير دمشق ، وقد لبى النداء آلاف السوريين للدفاع عن وطنهم ، وجرت المواجهة القتالية في ميسلون صباح يوم 24 يوليو عام 1920 في معركة غير متكافئة استشهد فيها وزير الحربية السوري يوسف العظمة وآلاف الجنود والمتطوعين السوريين ، وسقطت دمشق أمام القوات الفرنسية .
أن سقوط دمشق أمام القوات الفرنسية كانت النهاية المؤلمة لأول تجربة عربية في إقامة الدولة العلمانية المدنية ، وبداية مرحلة استعمارية فرنسية بريطانية شجعت على إقامة الدويلات العربية الإقطاعية ، ذات الطبيعة الرجعية ، عندما أعلنت أواخر عام 1920 تأسيس دولة دمشق ، ودولة حلب ، ودولة العلويين ، ودولة لبنان ، ودولة جبل الدروز عام 1921، كذلك شجع البريطانيون تمزيق اليمن والسودان وشبه الجزيرة العربية الى دويلات ، لقد جرى تمزيق الوطن العربي من مشرقه الى مغربه ، كما يجري اليوم محاولات تمزيق العراق الى دويلات طائفية واثنيه حسب المواقع الإستراتيجية والنفطية .

تحريف الوعي السياسي العربي:

مع سقوط الدولة المدنية القومية بدأت تظهر بوادر الفكر الشيوعي ، عندما تأسست أولى الحلقات الماركسية التي تحولت الى أحزاب شيوعية عربية ، وبرز نشاطها وسط الجمعيات العمالية والحرفية ، ووسط الفلاحين منذ عشرينات القرن الماضي كحلقات ماركسية ، وقد أعلن تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني والمصري واللبناني السوري خلال الأعوام ( 1919- 1924 ) .
لقد استمر هذا الوضع حتى أوائل الخمسينات من قرن العشرين ، عندما شهدت البلدان العربية موجة الانقلابات العسكرية المنظمة ، وبرزت حركة القوميين العرب التي غيرت طبيعية القيم والمفاهيم السياسية العربية ، وجرى تحريف الوعي السياسي العربي ، من خلال الترويج لتلك الانقلابات العسكرية بأنها ثورات وطنية ذات أبعاد اجتماعية ، منذ أن بدأ أول انقلاب عسكري في مصر عام 1952 ، ثم السودان والعراق عام 1958 ، وفي عام 1961 شهدت سوريا انقلابا عسكرياً ، ثم اليمن عام 1962 وليبيا عام 1969، وفي هذا الصدد تشير بعض المصادر إن هذا التسلسل التاريخي للانقلابات العسكرية كان مخططاً من الدوائر الغربية ، لمنع المد الشيوعي ، وتجنب إمكانية سيطرتهم على أنظمة الحكم في بعض البلدان العربية ، ويلاحظ ذلك عندما شاعت في معظم البلدان العربية عبارة ( الخطر الشيوعي ) التي روجتها الأنظمة العربية حتى أواخر السبعينات من القرن الماضي للتأثير على الرأي العام الشعبي بهدف التعبئة ضد الشيوعيين ، وقد نجحت في تجنيد بعض الجماعات الإسلامية للقتال الى جانب القوات الأمريكية في أفغانستان ضد الإتحاد السوفيتي .
إن هذه الأوضاع أفرزت ظاهرة جديدة في التاريخ السياسي العربي المعاصر ، عندما نشطت الجامعة الأمريكية في بيروت بفتح المجال واسعاً أمام التيارات القومية للنشاط السياسي وسط طلبتها ،وسمحت لجمعية العروة الوثقى بالنشاط وإصدار مجلتها ( العروة ) علناً ، وكان هاني الهندي احد أعضاء هيئة تحريرها ، خلالها برزت حركة القوميين العرب التي اتصفت بأسلوب المؤامرة في العمل الحزبي ، وحصر الثقة التنظيمية في إطار نخبوي ، حيث كانت قيادة داخلية سرية من أربع إفراد ضمن مجموعة الثمانية ، ومن هنا شاع مصطلح (( عصابة الأربعة )) التي راجت وسط التيار القومي العربي ، وقد رافق هذا السلوك جميع مراحل وامتدادات حركة القوميين العرب حتى بعد أن تحولت للماركسية ، الى جانب حركة القوميين العرب ، والبعثيين ، كانت الحركة الناصرية بزعامة الرئيس جمال عبدالناصر ، الذي دعا للاشتراكية العربية ، وأسس حزب طليعة الاشتراكيين ، وكان من ابرز المراجع الفكرية لحركة القوميين العرب قسطنطين زريق الى جانب ساطع ألحصري .
قد يطول الحديث عن هذه المرحلة ولا بد من البحث التحليلي العميق لمختلف مراحلها وخلفيات ، باعتبارها فترة هامة في التاريخ العربي ، أدت لانتكاسات سياسية في الفكر السياسي العربي ، وغيبت مفهوم الدولة العربية المدنية ، من خلال الترويج القومي لدور الزعامات العسكرية الفاشلة في التاريخ السياسي ، والتي اتسمت بتغييب مفهوم الإطار العام لطبيعة الدولة المدنية ، والتركيز على القيم العسكرية ، ونلاحظ ذلك من خلال تتبع البنية التنظيمية لحركة القوميين العرب التي رفعت شعارات مثل (( الثأر – الحديد والنار)) وسيطرة قيم الاستبداد ومنع الحريات ، ولا بد من إعادة كتابة هذا التاريخ بموضوعية وتجرد بعيدا عن الإسقاطات الشخصية.



التحول من القومية الى الماركسية
لقد عانت يعض التيارات العلمانية العربية ، خاصة التيار القومي العربي ( القوميون العرب ) ، أو المثقفون ذوي النزعة القومية من فراغ فكري في نظرتهم للكون وللطبيعة ، والخلق والحياة وتطور الإنسان ، حيث كانت ثقافتهم في الأساس تقف على خلفية التراث الديني ( النظرة المثالية للتطور ) والتي تم مزجها بأفكار قومية ، مصدرها الفكر القومي الأوربي أو التركي ، لذا كان الحل في الانتقال التدريجي ،ً وبصورة مشوهة للعقائد المادية ، وبالدرجة الأساسية للاشتراكية التي قاموا بتشويه أصولها بتخريجه مغايرة ومشوهة تحت مسمى الاشتراكية العربية ؟؟!! ، واخذوا في البحث عن الجذر التاريخي لهذه الاشتراكية العربية، وقد وجدوها في الصحابي أبوذر الغفاري وغيره من مراجع الأدب العربي ، ولكن هذه الاشتراكية العربية التي صنعها الزعيم جمال عبدالناصر من خلال تشكيل فريق عمل حزبي ( سري ) تحت مسمي ( طليعة الاشتراكيين ) لم ترشدهم لكثير من الأسئلة حول الوجود والكون وتطور السياق التاريخي للاقتصاد والتاريخ ، لذا كان ضرورياً الأخذ بمبادئ ( المادية التاريخية والمادية الجدلية ) مستقاة ليس من مصادرها الحقيقية ، وإنما من خليط عجيب من الأفكار والمصادر ، عندما جرى الخلط بين القومية والمادية بالماوية والتروتسكية وغيرهم ، وبدؤا بطباعة كراسات للحلقات الحزبية التي كانت تثقف على خلفية قومية ( القوميين العرب ) الممزوجة بآراء ماركسية ماوية ، وأصبحوا أكثر تعصباً من الشيوعيين في مسألة الحتمية التاريخية والثورة المستمرة والطابع العسكري ( العنف الثوري أو حرب العصابات ) في التحولات التاريخية للمجتمعات ، لهذا كانت الكتب الفيتنامية والكوبية والكمبودية جزءا هاماً من حلقاتهم التثقيفية ( خاصة كتب ليذوان القائد العسكري الفيتنامي ) كذلك آمنوا بالوحدة العربية القسرية ، التي يجب أن تتحقق بالحديد والدم ، وهو شعار ( بسمارك ) في توحيد ألمانيا وفي مفهومه للقومية العسكرية ، وكان بسمارك مستشارا للرايخ الألماني عند تأسيسه عام ( 1871 ) ، لذا كان اسم ( بسمارك ) يتردد في أدبيات القوميين العرب كنموذج يستشهد به في تحقيقه للوحدة الألمانية بالقوة وفق شعاره: ( تحقيق الوحدة بالحديد والدم ) .
تناقضات القوميين العرب عند احتلال الكويت:
إن الاعتقاد بفكرة بسمارك حول الوحدة القسرية ،التي شعارها ( الحديد والدم ) هي التي جعلتهم منحازين بالكامل الى جانب العراق في احتلاله للكويت . وتشبيه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ببسمارك العرب، ألأمر الذي ادخل التيار القومي العربي في خلافات حادة ، كان نتيجتها الانقسامات الداخلية بين مؤيد ومعارض لاحتلال العراق للكويت ، وقد انعكس ذلك بقوة على التيار القومي العربي في بلادنا البحرين ، عندما شهدت الجبهة الشعبية في البحرين حالة انقسام تنظيمي بين مؤيد ورافض للاحتلال العراقي للكويت .
الغريب في الأمر أن هذا الموقف كان انتقائيا ويحمل جوانب انتهازية ، عندما عارضنا في الجبهة الشعبية في البحرين الحرب اليمنية التي قادها الرئيس علي عبدالله صالح من اجل وحدة اليمن بين شطريه بإعتبار اليمن الجنوبي بؤرة للقوميين الماركسيين العرب، وفي الوقت ذاته كان بعضنا مؤيداً بقوة الإحتلال العراقي للكويت .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - mira
mira-palermo-roma ( 2012 / 1 / 29 - 17:55 )
شكرا على هذه المعلومات

اخر الافلام

.. الناخبون العرب واليهود.. هل يغيرون نتيجة الانتخابات الآميركي


.. الرياض تستضيف اجتماعا لدعم حل الدولتين وتعلن عن قمة عربية إس




.. إقامة حفل تخريج لجنود الاحتلال عند حائط البراق بمحيط المسجد


.. 119-Al-Aanaam




.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية في لبنان تكبح قدرات الاحتلال