الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


داء النبوة

ابراهيم هيبة

2009 / 12 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



لا ينعم مجتمع بشري بالسكينة والاستقرار إلا بقدر ما يفتقر إلى الأنبياء؛ في كل مرة تفتح فيها جريدة أو تشغل تلفازا، إلا ويطل عليك وجه آدمي كله رغبة وحماس في أن يعطيك دروسا فيما يجب وما لا يجب. إنه مهووس بفكرة ما، وهذا يكفي لكي ينغّص على الآخرين حياتهم. من خلال علاقاتي بالبشر، لم يسبق لي، ولو لمرة واحدة، أن التقيت إنسانا بدون ميول نبوية. كل فرد، أكان بقالا أم فيلسوفا، يزعم بأنه يمتلك تصورات واضحة عما يمكن أن يعنيه الخير أو الشر؛ وما إن تجلس إلى أحدهم حتى يعطيك الانطباع بأنه نبي مقموع، وبأن الآخرين مصابون بلعنة الحرمان من وصفاته حول السعادة الدنيوية أو الخلاص الأخروي. إنه يعتقد بأنه لمجرد كونه ثرثارا يجب الآخرين أن يسيروا خلفه.
مند موسى ونحن نرزح تحت عبئ النبوة. بدأت السخافة بعشر وصايا بسيطة لتتحول على مدى قرون من الزمن إلى أنساق ميتافيزيقية جبارة لا يوازيها في كثرتها الفاحشة إلا حالات فشلها الذريع في إيجاد حل لمشاكل الوضع الإنساني. من أين يأتي داء النبوة هذا؟ إنه يأتي من داء عميق: داء القيادة- الكل يريد أن يكون وصيّا على الكل.. ويأتي أيضا من التقدير المفرط للذات: كل واحد منا يتوهم بأن وجوده في هذا العالم ترتيب الهي أو ضرورة تاريخية، وبأنه ما جيء به إلى هذه الدنيا إلا رحمة بالعالمين. الإنسان لا يتحمل حياته الخاصة، لذلك يتملص منها بالتدخل في شؤون الآخرين. وبهذا نجعل من كل اجتماع بشري جحيما لا يطاق: كل واحد ينتظر دوره في أن يقترح شيئا أو يُصنّف شخصا. ماذا أقول، إن المرء يدفع الثمن غاليا عندما يرفض العيش في الصحراء.
من أين يأتي هذا الاكتساح من لدن الأنبياء لمجتمعاتنا؟ إنه يأتي من رفضنا لمحدودية الحياة- أي كونها لا تستطيع أن تعطي أكثر مما تملك- وقد يأتي أيضا من رغبتنا في بناء الفردوس هنا و الآن، أو من تعطش بعضنا للمجد واحتلال مركز الأشياء. الإنسان الذي يحترم نفسه، لا يتجاوز أبدا الحدود المشكِّلة لحياته الخاصة، لِمَ عليه أن يهتم لوضع الآخرين وهو لديه ما يكفي من العدم والعبث. إن النبل بمعناه العميق لا يوجد إلا عندما يتموضع المرء على هامش الوجود. والحق أنه لو كانت للإنسان صورة واضحة عن لا جدوى وجوده، وعرف بأن العالم يسير دائما نحو الأفضل عندما يحجم هو عن الانخراط فيه، لكانت الجنة قد تحققت على هذه الأرض.
في مقابل كل نبي يوجد نبي مضاد. لكل واحد طروحاته التي هي على النقيض التام من طروحات الآخر؛ هذا يبشر بالإنجيل وذاك بالقرآن وآخر بنهاية التاريخ، واللائحة تكاد لا تنتهي. كيف لرجل يتمتع بالتبصر ورجاحة العقل أن يعثر على ضالته في هذا الزخم من "الحقائق" التي يبشر بها الأنبياء؟ بمجرد ما تختار واحد منهم تثبت، على نحو لاشك فيه، انك لم تستوعب حقيقة ما يجري حولك. لا يأتي نبي إلى هذا العالم إلا وتزداد الأمور سوءا، ولا يغادره إلا بعد أن يثقل كاهله بالمزيد من الرموز والتعاليم، ويحقنه بجرعة أخرى من البؤس والمعاناة. تركة الأنبياء؟ حروب مقدسة، طوائف متناحرة، محاكم تفتيش، أشباه قضايا، أحقاد، وضغائن مضمرة- إنهم، باختصار، يتركون خلفهم- ويا لسخرية الأقدار- كل شروط الجحيم.
نحن لا ننفك نسير وراد هذا النبي أوذاك؛ والسبب في ذلك يعود إلى أنه قد مات فينا أشد ما يميزنا: الارتياب والقدرة على التهكم. والحق أنه لولا عمى القطيع وتعلقه المرضي بأكذوبة الخلاص لما قامت لنبي قائمة. مراجعة خفيفة للتاريخ البشري، بما فيه من السخافات السوداء والهزليات الدامية، تبين للمرء بأن كل رغبة في لعب دور المنقذ رغبة شاذة وتصرف غير ناضج للعقل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية كبيرة
صلاح محسن ( 2009 / 12 / 18 - 03:04 )
أحييك علي هذا المقال الرائع
داء النبوة ، ووباء التأله . هما غريزتان من الغرائز البدائية عند الانسان . وكلما قل الجهل وارتفع مستوي التعليم والوعي بأي مجتمع . كلما تراجعت حالات الاصابة بهما
شكرا لك


2 - المحبة
حازم ( 2009 / 12 / 18 - 06:14 )
نسافر جميعا في مركب واحد - ملحدين ومؤمنين مركب بدأ يضيق ويقترب من الغرق بمن فيه لن يكون ناجين ولن ينقذنا الا مجذاف بسيط وموجود في قلوب الجميع - المحبة للمركب والمسافرين - ليختار كل طريقه من اختار البقاء نحاوره بمحبة ومن اختار الرحيل نودعه بمحبة - محبتي للجميع


3 - نرغب بفردوس نتمتع به على الارض
ابو مودة ( 2009 / 12 / 18 - 11:37 )
تحياتي للكاتب ولجميع القراء والمعلقين
وصل عدد الانبياء حسب ما تؤكده الكتب الدينية للطوائفالاسلامية بالذات اكثر من 124 ألف نبي مرسل من السماء (غير ان هذا الرقم لم تؤكده مصادر القلم السري لمكتب العرش الالهي ) و اشهرهم هم عيسى وموسى ومحمد لوجود كتب ادعوا بأنها صادره من العرش الالهي وكل واحد منهم يكذب الاخر ويدعي بأنه اخر الانبياء واخرهم محمد الذي اكد بأنه خاتم الانبياء ولانبي من بعده واخرين امثال ابراهيم واسماعيل ونوح وسليمان وهود وصالح ولوط ابو المثليين وغيرهم كثيرون من مئات الانبياء والرسل وممن ضمتهم جمعية الانبياء والرسل و التي تأسست قبل فترة سحيقة من الزمن في منطقة الشرق الاوسط وللجمعية شهره واسعة وكبيرة تذكرها كتب الانبياء لكن اسماء الهيئة العامة تتغير من نبي الى اخر وكل نبي يدعي بأنه اخر الانبياء واخرهم نبي الامة الاسلامية اكثم ابن عبد اللات و الذي تغير اسمه للضرورة الشعرية عفوا لضرورة انتشار الدعوة الاسلامية بين اهل شبة الجزيرة العربية اذ اتهم بأن جاء بمعلومات كتابة القرأن من اساطير الاولين
وجميع الانبياء تقريبا لم ينجحوا بأيجاد الحلول لمجتمعاتهم ونسئلكم الدعاء


4 - ؟؟؟؟
huda al ali ( 2009 / 12 / 18 - 18:52 )
واخرهم نبي الامة الاسلامية اكثم ابن عبد اللات ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟!

اخر الافلام

.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا


.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية




.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟


.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة




.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي