الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل عرف البابليون الفلسفة؟

حسين الهنداوي

2009 / 12 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


هل عرف السومريون والبابليون والاشوريون الفلسفة؟ وأين وما هي فلسفتهم في المجالات الجوهرية التقليدية للفلسفة كالميتافيزيقيا والطبيعة والمنطق والاخلاق والسياسة؟ ثم كيف نفهم شبه اجماع مؤرخي الفلسفة في الغرب والشرق على القول بوجود "معجزة اغريقية" في ولادة الفلسفة واعتبار كل ذلك الفكر السومري والبابلي والاشوري والمصري والفينيقي الضخم الذي سبقها مجرد "حدس اسطوري" وبالتالي لا مكان له في تاريخ العقل المنطقي؟
هذا ما اردت ان اجادل فيه هنا طامحا، دون تعصب وابتسار ومع بعض المغامرة، الى تقديم اجابة غير تقليدية على اسئلة تقليدية جدا. فمنذ ان كانت الحضارة الاغريقية القديمة على قيد الحياة بعد، اي قبل التاريخ الميلادي بقرون، وبعض المؤرخين الاغريق والرومان يرجعون أصول الفلسفة الى ما قبل الحضارة الاغريقية، اي الى من يسمونهم "البرابرة"، كما فعل ديوجينس اللايرئي في مقدمة كتابه "حياة الفلاسفة" عندما تحدث عن الوجود القديم شبه الاسطوري للفلسفة في بلاد ما بين النهرين واحتمال ان تكون منبعها الاول بعد ان لاحظ ان ما بينها وبين جزر اليونان، مهد الفلسفة الاغريقية، من تماس واتصال يجعل من المتعذر ان ينكر المرء صلة القرابة الفكرية بين مقولة اول فيلسوف اغريقي، طاليس، التي ارجعت اصل كل وجود الى الماء، وبين مطلع ملحمة الخلق البابلية (الاينوماايليتش) التي كتبت قبل ذلك بقرون. وتكفي نصوص كهذه على اية حال كما كتب مؤرخ الفلسفة الفرنسي ايميل برهييه "لتبيّن ان طاليس لم يكن مبتدع نظرية فلسفية مبتكرة في نشأة الكون".

لا شك، أن نمط الفكر المعبر عنه قصصياً، اي عبر تمثلات دينية او اسطورية، يحد من الطاقة المفهومية للفكرة الفلسفية. إلا أن ماهيتها الجوهرية تظل، مع ذلك، حاضرة بقوة فيها بالقدر الذي تنجح أن تؤسس، في الذهن، علاقة وثيقة بين العياني والميتافيزيقي، علاقة لا تقتصر على لحظة ما في الماضي، إنما تمتد، بمعنى أو آخر، لتشمل المستقبل أيضاً، بغض النظر عن وضوح مضامينها، وقوة صياغاتها، وأبعاد استعمالاتها اللاهوتية والأيديولوجية المحتملة.
ونحن نرى ان جوهر القضايا الفلسفية هو ذاته في كل الازمنة التاريخية التي نعرفها ولا جديد تحت الشمس في كل الثقافات في هذا الشأن ايضا.
وبالتالي، وبما ان الاسئلة الفلسفية الكبرى على الاقل التي طرحها سقراط او افلاطون وارسطو لا تكاد تختلف عن تلك التي واجهها بعد اكثر من الف سنة الفارابي وابن سينا وابن رشد بل حتى بعد الفي سنة ديكارت او هيغل، لا نجد سببا عقليا يمنعنا من الاعتقاد بان الاسئلة الفلسفية التي تصدى لها المفكرون السومريون او البابليون او المصريون القدامى هي تماما نفس تلك التي تصدت لها بعد فترة مماثلة الفلسفة الاغريقية او الرومانية او المسيحية في القرون الوسطى.
بالطبع لا يجوز لنا ان نسقط فكر زمن لاحق على فكر زمن سبقه. الا ان المفكر البابلي لا يمكن ان يكون خرافيا وساذجا في مجال الاسئلة الوجودية الكبرى، وعبقريا ومبدعا في العلوم النظرية الاخرى التي، وهذه مفارقة كبيرة اخرى، يتم الاعتراف له بالسبق والعبقرية وبالفضل على الاغريق والرومان والغربيين جميعا. كما ان اللغة البابلية وادواتها التي نجحت في استقبال ونقل مفاهيم دقيقة ومعقدة في الفلك والرياضيات والترقيم الدقيق ومبادئ قضائية دقيقة لا يفهم برأينا ان تكون عاجزة عن حمل مضامين فلسفية او نظرية مجردة كي يضطر المفكر او رجل العلم الى اللجوء للتعبيرات الخرافية والحكايات الاسطورية لأيصالها.

من هنا اعتقادنا الجازم بان ما وصلنا من ملاحم ومدونات السومريين والبابليين والاشوريين لا يمثل الا نزرا يسيرا من نصوصهم الفكرية والعقلية يكاد يقتصر على الجزء الذي سمحت به وحافظت عليه السلطات الرسمية للدولة التي وجد في مكتباتها (مكتبة اشور بانيبال مثلا) وهذا يفسر ان جميع الملاحم والتراتيل التي بلغتنا تتمحور حول تمجيد ديانات الملوك والعقائد الرسمية للدولة دون الفكر الفلسفي الحر والنقدي بالضرورة والذي قد نعثر عليه يوماً.

ومع ذلك، فان معرفتنا الحالية بالفكر البابلي على نواقصها مهمة، وتسمح لنا بذاتها ان نقول بأن هناك منظورات فلسفية بابلية حول نشأتي الكونين الميتافيريقي والملموس وحول مصيريهما. وهذه المنظورات لا تتضمن فقط مادة فلسفية مؤسسة على استنتاجات تأملية منظمة وتطرح نفسها منطقية كنسق وكمضمون، ومنسجمة اعظم الانسجام مع خصوصية اسئلتها ذاتها، انما تبدو تلك المضامين الفلسفية مستهدفة بذاتها من قبل مؤلفين صرنا، وهذه قضية مهمة جدا، نعرف اسماء عدد من المتأخرين منهم كأحيقار الحكيم (Ahiqar) بل بينهم من يكشف، مثل بيروس البابلي (Berosus)، وديوجين البابلي (Diogenes of Babylon) عن وشائج قديمة ومتينة بين الفلسفات البابلية والاغريقية تسمح بفرضية ولادة اللاحقة منهما في رحم الاولى برغم يقيننا بأن مشكلة الاصول الاولى للفلسفة هي المسألة الاقدم والاعقد في تاريخ الفلسفة كله بل قد تظل العصية الحل ابدا بين مسائله.

لا أهمية علمية على الاطلاق اذن لرأي المؤرخين الذين جعلوا من طاليس الملطي (642-546 ق. م.) بمثابة الفيلسوف الاول، على اساس انه مبتدع اول محاولة عقلية لتفسير نشأة الكون لقوله ان الماء هو المادة الاولى والجوهر الاوحد الذي تتكون منه الاشياء، ما دام السومريون والبابليون كانوا قد كتبوا هذه الفكرة بوضوح قبله بألف عام واكثر حيث نص اللوح الاول مما يعرف بـ"ملحمة الخلق" (اينوما ايليتش) على انه في البدء لم يكن الا "آپسو" (المياه المتحركة = الفعل "بالقوة") و"تيامات" (مياه المحيط = الوجود "بالقوة") متحدين ماء واحدا (هيولى)، ولم يكن بعد وجود، ولم تكن بعد آلهة ، ولم تكن بعد مصائر".
وهذه الفكرة البابلية، في نظرنا وضمن تأويلنا، فكرة تأسيسية رائدة في تاريخ المنظور الجدلي ومثقلة بالمضامين الفلسفية الممكنة، تماما كما هو مفعم بالمضامين العبقرية الفلسفية نص سومري عن خلق الانسان بعنوان «أتراخاسيس»، أي «الحكيم الخالق»، قادنا تفسيرنا له الى فرز جملة أفكار جوهرية متبلورة سلفا برغم الاسلوب القصصي في طرحها، أبرزها القول بوجود مكون إلهي في الإنسان، يميزه عن كافة الموجودات الملموسة الأخرى. وهذا المكوّن، الذي يتحدد بانه «موهبة من الآلهة»، هو في جوهره العميق «عقل»، وتعبر عنه بشكل صريح وأكيد الضرورة المنطقية لظهور الانسان في الوجود كنتيجة لوحدة مفهومين كلاهما روحي هما "الذات" او "الشخصية" الآتية من دم الاله "كينغو"، و"طين طاهر مقدس كان محفوظا لدى اله الحكمة أيا" دون غيره.
ذلك المكون الالهي في البشر (اي العقل) سيجعل (في ملحمة جلجامش) حتى البغي تتباهى به كبشر على الموجودات الاخرى عندما ستبشّر رمز القوة الحيوانية المارد انكيدو بعد اتحاده الجسدي بها "صرت تحوز على الحكمة يا انكيدو واصبحت مثل اله".

من هنا تتأتى في رأينا، جوهرية علاقة لا تفتأ النصوص الدينية والفكرية البابلية، بمعنى كل الفكر العراقي المدون باللغة المسمارية، من تأكيدها في كل شأن روحي بين الانسان الملموس كعقل جزئي وبين العالم الالهي كعقل مطلق مرموز اليه بأله الحكمة والفكر والمعرفة السومري انكي (أيا عند البابليين) خالق الانسان ومانحه العقل وحاميه على الدوام حتى من المكر الالهي بالتدبير والذكاء وليس بالقوة والغدر ابدا.

والفلسفة البابلية ترى ان «الله محرك التاريخ»، وإن الغائية الجوهرية للتاريخ الإنساني، هي غائية ميتافيزيقية، اي مفارقة للعالم الملموس وتتمثل في تنفيذ خطط الالهة، كما ان مبدأ «من الموت تولد الحياة»، أساسي فيها حيث إن "دم" ذات إله متمرد، هو ما يعطي الحياة الإنسانية دفقة الوجود. وهنا نتلمس أيضاً جنين مفهوم إيجابية الشر وضرورته استطراداً، لأن ذلك الفعل السلبي يأخذ هنا طابعاً إيجابياً بحد ذاته. وهناك، علاوة على كل ما سبق، تأسيس بدئي فذ لمفهوم «الجدل»، يعبر عنه مبدأ الصراع، أو التناقض في سيرورة التاريخ الكوني، إذ إن البشر مصنوعون، كما يرى المفكر السومري والبابلي، من دم إله متمرد ومتمرس بالنزاع من اجل "الحرية", الغائية الميتافيزيقية لكن التاريخية ايضا الامر الذي يضعنا وجها لوجه امام تراث عميق وضخم في الفكر السياسي والاخلاقي والنفسي لا زال في حالته الخام بعد.

هذه الافكار وسواها تؤكد بما لا يقبل الشك بان هناك فلسفة بل فلسفات بابلية تحتاج الى من ينقب عنها بين الانقاض، ويتمثل مضمونها الجوهري بشكل عام، في مبدأ "وحدة النظام والقدرة والعقل"، وهي وحدة مطلقة تعبر عن وحدة السماء والفضاء والارض ويرمز لها بوحدة الثالوث الالهي المقدس (آنو وانليل وانكي) الحاضرة قبل وبعد الوجود، وفي الانسان ايضا. وهي وحدة لا تناقض فيها انما متكاملة في حيويتها السرمدية. اما التعددية والكثرة الواضحتان بل المفرطتان اللتان تدل عليها اسماء الالهة الواردة في النصوص فهما غالبا ظاهريتان برأينا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما شكل المقاربة الأمريكية للدفع باتفاق سياسي لإنهاء الحرب في


.. خلافات معلنة بين بايدن ونتنياهو.. ما تأثيرها على الانتخابات




.. واحات جنوب المغرب -الساحرة- مهددة بالزوال!! • فرانس 24 / FRA


.. السفينة الأميركية -ساغامور- تحمل أولى شحنات المساعدات من قبر




.. #متداول.. مستوطنون يقطعون الطريق بالحجارة أمام شاحنات المساع