الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أفكار حول خطاب الثقافة العراقية وحسن قراءة العالم

احمد ثامر جهاد

2004 / 6 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


( إن استحالة تقديم الوهم للناس تنتمي إلى نفس نوعية استحالة إعادة اكتشاف مستوى مطلق للحقيقة ..)
جان بودريار
( الصور الزائفة )
عبر حكم الأنظمة الشمولية العتيدة ، هناك ما يوازي إنجازاتها المدروسة في تحطيم الإنسان والقيم والمجتمع ، ألا وهو إنكارها الزائف للثقافة بوصفها قيمة تحررية مناهضة للطغيان ، وسعيها الأبدي لتحويل المعرفة الإنسانية إلى نسق كلياني أوحد ، يسمح لها بتمرير التشدد السياسي لعقيدة ما إلى مختلف الأنشطة والممارسات الثقافية . وحيث يشمل ذلك كل المجالات والمعاني الادراكية والأخلاقية والتعبيرية ، تخضع الثقافة كغيرها من الممارسات الواعية إلى مختلف صور الإرهاب والإنكار والتشويه والاعتقال ، وبأسلوب مراوغ يدعي التحديث الحزبي للأطر التقليدية التي تخالف أهداف الحزب ومرجعياته .
ورغم النجاحات الباهرة التي أحرزتها الأنظمة الشمولية في ميادين حروبها الدموية مع الأفراد والجماعات والمفاهيم والقيم ، لا تكتفي سلطة الحزب / الدولة بتبديل تلك الأطر والأشكال والممارسات المدنية ، إنما تجاهد لتدمير البنى الفاعلة في حياة الإنسان ، من خلال سعيها المغامر لتنفيذ مشروعها الأمثل في تهشيم الجوهر الإنساني المغاير وإلغائه . لذا عادة ما تضطر الثقافة تحت ضغط الأنظمة القمعية المغلقة إلى الهجرة -كما البشر - نحو ضفاف آمنة ، فتجرب حظها في حياة المنافي . تنزع بعض هويتها لتلبس جواز الانشقاق والمعارضة .
هكذا نرى أن الثقافة العراقية في عقود حياتها المريرة مع الدكتاتورية ، عانت ككل أشكال الحياة الأخرى من اضطهاد عنيف واستلاب قسري ، بسببه تعرضت هي ورموزها إلى حرمانات طويلة تركت ظلالها القاتمة على المشهد العراقي برمته . لكن من الإنصاف القول : أن الثقافة العراقية لم تكن ذات حظ وافر يوما ما منذ تأسيس الدولة العراقية حتى يومنا هذا ، إلا في فترات محدودة جدا ، انتعشت فيها لأسباب غير ثقافية غالبا . الأمر الذي جعل خطابها الإبداعي معزولا عن لحظاته التنويرية التي تفتحت هنا وهناك من دون أن يتاح لها النضج في أي مشروع معرفي مكتمل ذي تأثير بارز .
ولم يكن المثقف العراقي هو الآخر بمنأى عن هذه التشوهات التي طالت الحياة بسعتها ، خاصة حينما تورط في عقد شراكة ما مع برامج السلطة السياسية ، وهي المحترفة في لعبة تغير رقعة الشطرنج من حوله ليبدو مثقفنا ( الثوري ) و ( اللاثوري ) الذي قيل دوما انه ضحية أفكاره ، اشد المدافعين عن مشروعها ، بعد أن غادر خطابه الطليعي حقل المراهنة على نجاح الغايات الوطنية والتعددية الأيديولوجية وقضايا التحرر في معترك الأزمات العنيفة للحياة العراقية . وليس خافيا انه خلال مخاضات العقود الثلاثة الماضية ، كان البعض قد تصور ، فيما ادعى البعض الآخر ، إن السلطة هذه تمثل جلَّ طموحاته الثقافية ومبادئه السياسية ، بينما انقسم الجمع المتبقي بين مشارك صغير ومعارض هامشي . وقد تواصلت الإشكالية الثقافية تلك بألوان وأشكال متغايرة الخواص ، بين رياح مدٍ وجزر ، إلى أن ختمت أزمات السلطة السياسية وحروبها المأساوية على بقايا الصورة الإعلامية الخادعة التي بدا أنها تهشمت قبيل ذلك بسنوات في بشائر ثقافة ظل مشاكسة ، شكلت فيما بعد جزءا هاما من طبيعة الصراع الثقافي الذي على أيديها قد ترتسم في ثناياه صورة مستقبل الثقافة العراقية .
في حال أمعنا النظر في جانب آخر من جوانب المحنة العراقية التي خلفتها الحقبة الدكتاتورية على لائحة المعرفة الاجتماعية وثيقة الارتباط بالثقافة عامة ، سنجد أننا أمام إشكالية كبيرة تتمثل في الأمية المتفشية خلال عقود طويلة من التجهيل تسببت بانهيار قيمي واعتباري لكل ما يمت لقطاعات التعليم بصلة داخل صيرورة المجتمع العراقي . وفقا لذلك قد لا يمكننا الحديث عن أحوال الثقافة في مجتمع انحدرت فيه القيمة التعليمية والتربوية إلى أدنى مستوياتها بمعزل عن تشخيص العوائق التي تجعل اغلب المثقفين غير متخلين عن نخبويتهم بعد أن أضل خطابهم الثقافي علامات الطريق إلى وجدان الناس ، مكتفيا بمساحات فردية مغلقة ، أعدمت فيها مظاهر التواصل الإيجابي والتبادل الحر مع من يراد تمثيلهم في حقل الممارسة الثقافية .
ورغم المزاعم والشجون التي قد يثيرها الحديث عن انعدام الصلة الحميمة بين التثقيف والتعليم في العراق ، يبدو لنا أن ثمة فرصة سانحة لإعادة إنتاج وبث تاريخ الثقافة العراقية في المناهج التعليمية والتربوية عامة ، والتي كانت قد حفّظَت متلقيها بتلقين قسري أسماء كل شعراء الحزب والثورة ، من دون أن تعرف يوما أن في سمائها حشد بارز من أعلام الفكر والإبداع العراقي في شتى ميادين المعرفة والأدب والفن . ستحتاج الثقافة إلى أن تتفشى كما يتفشى الجهل ، قبل أن تتصف حياتنا بالعقم والخمول ، لا سيما وان الخطاب الثقافي العراقي يحاول في ضوء المتغيرات السياسية التي تعصف بحياتنا الآن ، أن يتلمس الطريق الموصلة إلى إقصاء كل أشكال الثقافة الحزبية سيئة الصيت ، مجربا منح ثقافة الحوار والشفافية الفكرية فرصة أن تحيا بعيدا عن شهوة الرقابة والانجراف وراء السلطة المتسترة تحت عناوين العنف الرمزي وآلياته المتحالفة . ولن يصبح متاحا ذلك من دون سعي العملية الثقافية الراهنة إلى امتلاك قدرا من الاستقلال والحرية ، يكون بوسعه إذكاء الإمكانيات المخلصة واستنفار طاقاتها الحقة في رسم سياسات جديدة تستند إلى جملة من الأسس والمعايير والمفاهيم المسؤولة عن إعطاء الثقافة هويتها التنويرية في مناخات تتطلع لقيام مجتمع مدني حديث ، بعيدا عن أية فروض أو برامج مؤسساتية تجعل من المثقف موظفا هامشيا يعتاش على نفقة الوزارة ، في الوقت الذي تتطلب الشفافية الثقافية هنا قدرا آخر من الممارسة المستقلة والفاعلة عبر اختيار الثقافة لمؤسساتها واتحاداتها ونقاباتها ومجالسها غير الاستهلاكية . ويمكنها فيما بعد أن تأخذ على عاتقها وبخبراتها الواسعة مهمة إعادة تعريف الجهاز المفاهيمي الملتبس لجملة علائق ووقائع لا تنفصل عن مجمل التحولات الجدلية المتلاحقة عن صور المثقف والسلطة والعالم . هكذا نستدل ،كأناس فاعلين ، إلى إيجاد روابط وآليات وطموحات غير طوباوية وسط الأفكار وبها ، حيث يكون علينا إدراك أن ( الأفكار تكتسب أهميتها لا من كونها تكشف عن الحقيقة ، أو عن الواقع الموضوعي ، بل من كونها تسهم في إنتاج الحقائق ) نفسها . لكن في الوقت عينه ليس من مصلحتنا اليوم إعادة إنتاج المشكلات والمصاعب في إطار صياغات فكرية استهلكت مرارا فيما خلقته لنفسها من مشاريع وأوهام شعاراتية ، فـ ( حيث عملت النخبة على توعية الجماهير ، ازدادت الأخيرة تبعية وهامشية ، وكيفما شُكلت أنظمة سياسية على يد النخب أو باسمها ، كانت هي الأسوأ . ومكمن العلة هنا ليس في الجماهير ولا في الواقع ، بل في ثنائية الطليعة والجماهير ، أو النخبة والعامة ، أو الحزب والأمة . إن مثل هذه الثنائيات تكشفت عن عيوبها وفقدت مصداقيتها كإطار للرؤية أو كأداة للعمل ..) . بمعنى آخر يلزمنا التفكير بإعادة بناء البيت العراقي وترتيبه ، بعناية شاملة تمسك بكل مكامن الخلل الواقعي الراهن ، وتعيد قراءة الصورة من الداخل ، من مقاعد الدراسة إلى كراسي الحكم ومن السوق الشعبي إلى البنى الاقتصادية ومن العادات إلى المفاهيم ، من دون أن يرتكن عملها هذا إلى التأكيد على تلميع إحدى غرف البيت ، بطريقة تسمح لها أن تبدو ديكورا خادعا يظهر سلامة البيت من زاوية مموهة . لذا ستكون عملية ترسيم خطاطة عراقية لطريقة إرساء دعائم المجتمع المدني مطلبا سياسيا واقتصاديا وثقافيا بقدر يتساوى في الأهمية ويتناغم في الهدف والإنجاز . خاصة ونحن نواجه انهيارات لا حد لها تطال اشد مفاصل حياتنا حساسية ، إلى الدرجة التي تجعل المشكل العراقي عصيا على التناول المفهومي . فبعد خلط سئ للأوراق ، جرى تشويش متعمد للعديد من المفاهيم : الوطن ، العدالة الحرية ، الهوية ، لدى مختلف الشرائح العراقية التي تكابد في صراعاتها الحالية للاعتراف بحق الآخر في أن يحيا داخل وطنه مستشعرا للمرة الأولى معنى أن يمتلك حقا في لوائح حقوق الإنسان العالمية .
أليس من مهام الثقافة بشكل عام ، بوصفها ركنا حيويا من أركان المجتمع المدني ، إشاعة مناخات عصرية منفتحة تسمح بالتعبير عن فرادة الآخر وتمايزه بعيدا عن النزعات الطائفية والأيديولوجية الضيقة ، ليكون بمستطاعها تبني ما يوائمها من المفاهيم المجتمعية داخل منظموتها المرنة على نحو تنويري يتيح للجميع ممارسة حقوقهم ويؤمن لهم ضفاف العيش بسلام ، طالما " إن الحرية في النهاية فضاء تداولي نسهم في خلقه أو توسيعه " بتعبير علي حرب .
لا شك أن الحداثة الثقافية إذا ما جرى تفعليها على أساس العلاقة بين عملية التحديث الاجتماعي من ناحية ، وبين التطور الثقافي من ناحية أخرى ، فإنها قادرة على إخضاع شؤون الحياة لضرورات النظام تحت ضغط التناغم مع آليات النمو الاقتصادي والإنجازات التنظيمية للدولة الحديثة ، مع الإشارة بالطبع أهمية تصور آخر يرى في الحداثة وما بعدها مشروعا استهلاكيا أو ( أنها الطريقة التي يحلم العالم فيها أن يصبح أمريكيا ) بوصف " ستيوارت هال ". وبوسعنا أن نرى كيف إن التزام الثقافة في البلدان الغربية اصبح وثيق الارتباط بنجاح مشروع التحديث في أتون الحياة الراهنة ، رغم الانتقادات التي يوجهها ( هابرماس ) لمشروع حداثة لم يكتمل ، اخترقته صراعات قوية ، ليصبح فيما بعد إحدى عقائد المحافظين . ورغم أن أمرا كهذا يحدث في مجتمعات تتسم بالنمو العقلاني والاستقرار النسبي والتوازن المؤسساتي على مختلف الصعد ، لكنه لن يكون سهلا بالنسبة لمجتمع يجهل مضار النمط الاستهلاكي لأنه لم يجرب بعد تذوق حسناته .
خلاصة القول ، أن جدارتنا في قراءة الحدث السياسي الراهن وهضم تداعياته وتفاعلاته الواقعة والمحتملة ، بطريقة كلية ، أوسع من التحزب والتحيز واقرب إلى الحوار الشفافية ، قد تؤهلنا في نتائجها المحصلة إلى استشراف مستقبل العراق الجديد في خطاب الثقافة والسوسيولوجيا والاقتصاد والسياسة . ذلك الخطاب الذي من أجل بلورة مواقفه الحقيقية غير المهادنة ، سيقتضي منا حسن قراءة العالم حولنا ، من زاوية عقلانية ، وثيقة الصلة بواقعية الحدث العراقي وراهنيته .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اجتهاد الألمان في العمل.. حقيقة أم صورة نمطية؟ | يوروماكس


.. كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير




.. ما معنى الانتقال الطاقي العادل وكيف تختلف فرص الدول العربية


.. إسرائيل .. استمرار سياسة الاغتيالات في لبنان




.. تفاؤل أميركي بـ-زخم جديد- في مفاوضات غزة.. و-حماس- تدرس رد ت