الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السيف و اليقين

ابراهيم هيبة

2009 / 12 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كل فكرة في حد ذاتها هي ضرب من الخيال أو التجريد أو على الأقل يجب أن تبقى كذلك. لكن الإنسان عندما يقع تحت إغراء فكرة ما، تجده يغذيها بكل مشاعره وأحاسيسه، ويسخِّر لها كل طاقاته البلاغية والشعرية، فيحولها على إثر ذلك من كونها مجرد انطباع إلى نسق ميتافيزيقي متكامل تقام له المعاهد والمعابد، وتحميه مراكز المخابرات والشرطة. والحق أن الإنسان كائن وثني بالطبيعة؛ فهو لا ينفك يؤله أي شيء يخرج من بين يديه؛ وحتى عندما يكون علمانيا فإن هذا الإنسان لا يقطع البتة مع ميوله التأليهية: عشقه للأحلام والأساطير يدفعه دائما إلى إضفاء صفة الإطلاق والألوهية على أي شيء يحظى باهتمامه؛ بل يمكن القول بأن هذا العشق هو المحرك الحقيقي للتاريخ الذي، بدوره هو ألآخر، ليس سوى تعاقبا زمنيا لمختلف أنماط التأهيل والوثنية.
ميل الإنسان إلى عبادة أشيائه وأفكاره هو المسؤول عن كل الجرائم التي وقعت على مر التاريخ: فمن يعبد عجلا أو إلهاً ما يدعو الآخرين إلى عبادته أيضا؛ ومن يرفض الانصياع لدعوته، ما عليه إلى أن يستعد لمواجهة حرب مقدسة قادمة. هكذا هو الشخص المتطرف، إنه يتماهى مع عقيدته إلى الحد الذي لن يترك فيه أي مسافة بينه وبينها؛ بل إنه لا يكاد يرى أي شيء خارجها. بالنسبة له، ينقسم العالم إلى معسكرين: معسكر الإخوة في العقيدة ومعسكر الشيطان. دوغمائيته تطرد عنه كل شك وتجعله لا يتردد في قتل الآخرين أو في قتل نفسه؛ إنه في كلتا الحالتين إما مستبد وإما شهيد ـ إذن فهو خطير.
كل عقيدة هي مقدمة نظرية للرعب والفظاعة. وإجراءات كالحرق أو الرجم أو الإعدام بالمقصلة لم نلجأ إليها لأننا وحشيون أو ظلاميون، بل لأننا وثوقيون. كل من يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة هو بالضرورة شخص اضطهادي وغير متسامح؛ وفي كل مرة يلتقي فيها تصوره بتصور آخر مضاد، يسيل الدم. ولأنه لا يقبل بالطابع النسبي للرؤى والأفكار، فإن ذلك يجعله يرى في التسامح والحوار ضربا من التساهل والتهاون في إحقاق الحق وتأدية الواجب.
المتطرفون هم محركو التاريخ؛ و كل شعب لا يرى في نفسه شعبا مختارا لن يترك أبدا بصماته على أرضية التاريخ. هل يمكن تصور العصور الوسطى بدون حروب دينية أو محاكم تفتيش؟ وكيف كان للقرن العشرين أن يكون ممكنا بدون مجنون كهتلر أو ديكتاتور كستالين؟ لا تتسامح الشعوب فيما بينها إلى بسبب توازن الرعب؛ أمّا الأديان فلا يعترف بعضها بالبعض إلاّ بعدما ينهكها العراك. والحق أن كل ديانة لا تقوم إلاّ على خراب ديانة أخرى؛ المسيحية، مثلا، لم تزدهر إلا على حساب الفلسفة اليونانية والوثنية الرومانية؛ أما البروتستانت وباقي الطوائف الأخرى فلم يجدوا لهم مكانا في العالم الحديث إلا بعد أن شاخت البابوية وأصيبت بالتعب والإنهاك. عندما تتبنى ميتافيزيقيا دينية أو سياسية قيم الحب والسلام تنهار قواها على الفور؛ فبُعدها الإنساني يولِّد الانشقاقات الداخلية، ويسمح بتكاثر المرتدين والهراطقة، كما يعطي فرصة لاندساس الأعداء. مكيافيللي على حق: "ثمة أمان كثير في أن يخشاك الناس من أن يحبوك." إن النظم السياسية والدينية لا تستمر في الوجود إلى بقدر ما تفرز من الرعب والخشية؛ وما دامت تلجأ إلى الإقصاء والاضطهاد واللاتسامح والعقاب، فهذا دليل على أنها مازالت قوية. أما عندما تتبنى هذه النظم فلسفة الحوار وتسعى إلى بناء جسور التفاهم والصداقة مع العدو والمختلف، فإن ذلك إيذان ببداية عصر انحطاطها. إنها نفس القصة القديمة: كل إله لا نُمَثَّلُ أو نُقتل من أجله هو إله ميت أو بالأحرى هو إله يقع على هامش مجرى الأحداث.
لكل لاهوت مقصلته؛ وكلما كان هذا اللاهوت قويا كلما كان وحشيا. والأنظمة لا تفرض نفسها بالمنطق وقوة الحجة، بل بعدد الضحايا الذين تهشم رؤوسهم أو تحرقهم أو تزج بهم في السجون. إن الشراسة هي ما يعبّد الطريق أمام كل أمة تتقدم في التاريخ. ولكن مراجعة دقيقة لهذا الأخير تؤكد بأن كل أحداثه لا تنبع إلا من تعصب البشر لقناعاتهم ومن التقدير المفرط الذي يولونه لنظمهم الدينية والسياسية؛ عندما أسمع أحدهم يتحدث عن "نهضة الأمة" أو"إحياء الماضي المجيد" أو يستعمل كلمة"نحن" ـ أبتعد عنه قدر ما أستطيع. إنني لا أرى فيه إلا ديكتاتورا مؤجَّلا أو جلادا ينتظر فرصته.
في الواقع، عندما يفقد الإنسان مَلَكَة الشك يقع في شباك أول إله أو شيطان يقابله على الطريق: الشعور بالضجر والرغبة في التشويق، الذي تفرزه أحداث التاريخ، يدفعان المرء إلى التحمس لأي فكرة قد تدغدغ أنانيته، أو قد تنسيه محنة الحياة عبر الإيحاء له بعالم مثالي متواجد في الماضي أو في المستقبل. وكلما اشتدت وطأة الحياة على المرء، كلما ازداد تعصبه للمبدأ الذي يؤمن به. لذلك، لا يجب أبدا أن نبحث عن طريق للحوار مع كل شخص يؤلِّه عقيدته: إنه مأخوذ بجاذبية عوالم أخرى— إذن فهو لا يرى ولا يسمع.
كل متطرف هو عابد وثن؛ تعصبه لفكرته يحوِّلها إلى إله، ويحوله هو إلى قاتل ضمني؛ وفي الحقيقة، لا توجد في التاريخ ولو مهزلة دامية واحدة لم ترتكب باسم إله ما. وإذا كان هذا الإله يسمى تارة بالحقيقة وتارة أخرى بالتنوير أو العدالة، فإن النتيجة تكون دائما واحدة: خراب ودمار، أشلاء ودماء. شخصيا، أشعر بالأمان أمام عمدة مدينة فاسد أكثر منه بالقرب من شخص يتعصب لمبدأ ما؛ بل إنني أرى بأنه لكي يكتسب المرء مناعة ضد داء التطرف وأمراض الحياة، عليه أن يفتح، بين الحين والآخر، كتب السوفسطائيين؛ فهم على الأقل كانوا صريحين مع أنفسهم ومع الآخرين: لم يكونوا يدرِّسون "الحكمة" إلا من أجل جني المال. و أمّا الحقيقة فلم تكن تعني لهم إلا بناءا من الدهاء والصور البلاغية. و ماذا عن الفضيلة؟ إنها ليست من تخصصهم؛ يجدر بك أن تبحث عنها في كتب أفلاطون أو تلميذه أرسطو.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ارفع القبعة !
ادريس ( 2009 / 12 / 27 - 21:22 )
مقالة رائعة ,شكرا السيد الكاتب , واصل

اخر الافلام

.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا


.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية




.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟


.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة




.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي