الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محامو الأموات

هشام محمد

2009 / 12 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يلومني أحد الأصدقاء لكوني أُكثِرُ من الحديث عن التاريخ والدين والموتى اكثر مما اتحدث عن قضايا العصر وهموم الإنسان اليومية. يقول لي: ما الفائدة من النبش في قبور الغابرين، وما العائد من فتح الجروح القديمة؟ أليست قضايا الفساد والتخلف والبطالة والجهل هي الأجدر بالنقاش بدلاً من الكلام عن الماضي؟ وردي على مقولته هو أن التفتيش في دفاتر الأمس، والتنبيش في قبور الموتى ليس بمضيعة للوقت، ولا هو بترف فكري. إن من لا يعرف حقيقة ما استدبر من امره لن يعرف ما هو مقبل عليه.



ملامة صاحبي لي لا تختلف عن ردة فعل الكثيرين ممن ينزعجون عندما يقرأون في مقالة، أو يستمعون إلى حديث، يجتريء على التابوهات، ويضع المقدس في ميزان النقد. صديقي يشبه الكثير ممن لا تجتذبه قضايا العصر ولا تعنيه هموم الإنسان الحياتية، ولكنه يضطر إلى استدعائها في كل مرة يسكب فيها الملح على جراح التاريخ. التذرع بقضايا الفساد والبطالة والطائفية والقبلية وما شابهها يعد بمثابة كلمة حق يراد بها باطل. كلما وضع المقدس على طاولة النقاش، تذكر هؤلاء أرقام البطالة المتنامية ومعدلات الفساد المتزايدة. ما سلوكهم هذا إلا نزعة دفاعية لحماية المقدس الطاهر، والحفاظ على التاريخ الباهر، وصيانة شخوصه الملائكية مما قد يخدش كل تلك العظمة ويشوه هذا الجمال. إن ردة فعلهم هذه لا تختلف في شيء عندما يقولون لك للحؤول دون تعرية ماضيهم: أين الوثائق والمراجع التي تدعم مزاعمك. فإذا وضعنا تلك الوثائق والمراجع بين ايديهم قالوا: هذا كذب وافتراء...تلك اسرائيليات! إنهم فقط لا يريدون المساس بعبادة الأسلاف. إنهم يخافون لو خسروا الماضي فلن يبقى لهم شيء يحيون به. فلا الحاضر ولا المستقبل يحمل بشائر تهفو لها النفس وترنو.



أراهن أن صديقي هذا، ومثله كثير منا، لا يملكون أمام تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والصحية، وأمام تزايد مؤشرات الفساد سوى الهمس بكلمات من وراء الأبواب المغلقة. اخشى أن اقول أنهم يتصرفون بلا مبالاة أمام هذا الفساد المستشري الذي ينخر في عظام مؤسسات الدولة. لا أرجو من هؤلاء البشر أن ينتفضوا على غلاء المعيشة وانسداد الفرص الوظيفية واختلاس المال العام ونهبه وفساد القضاء وتدهور الخدمات الطبية وما إلى ذلك. وكيف نرجو من طائفة من البشر اعتادوا ثقافة التواكل، وتلبسوا روح الاستسلام والخنوع، أن يثوروا على أوضاعهم البائسة وأحوالهم الهزيلة. لقد تحولت مجتمعاتنا إلى قطعان من الحيوانات الأخروية الشغوفة بالموت وما بعد الموت أكثر من اهتمامها بالحاضر وحياتها على وجه البسيطة.



قبل مدة كتب أهل أحد الأحياء في الرياض خطاباً نشرته جريدة يومية يطالبون فيها الحكومة ببناء مسجد جديد بالرغم من وجود سبعة مساجد كبرى في الحي! أهل الحي قلقون من عدم اكتظاظ الحي بمساجد، أكثرها كالزائدة الدودية، ولم تشغلهم أبداً سوء طرقات الحي ومستنقعاته الآسنة وكثرة شوارعه المحفورة لشهور طويلة. ومنذ اسابيع قليلة غرقت مدينة جده في مياه الأمطار. سقطت الأمطار حوالي ساعتين فمات ما يربو على المائة، وجرفت السيول مئات السيارات، وغرقت البيوت، وضاعت الأرواح والممتلكات. لو سقطت تلك الأمطار في أي مدينة في العالم لما حدث ما حدث. كانت أمطار جده كارثة بشرية فوق الوصف، وفضيحة إدارية ربما ستمر بلا عقاب. جاءت تلك الأمطار لتعري فساد ذمم المسؤولين، وتفضح سرقاتهم للمال العام بلا حياء ولا رادع. هل تعتقد أن أهل المدينة قد هبوا هبة رجل واحد، وطالبوا بمعاقبة المسؤولين؟ لا طبعاً. من يجرؤ على الكلام؟ ربما عدت هذه الكارثة من باب العقاب الآلهي. هذا بالطبع ما انتهى إليه المتدينون الذين يجدون في كل مآساة فرصة لتفريغ ما في نفوسهم من هلاوس دينية مرضية.



أهل المدينة لم يشعروا بألم جراء فقدان اعزاء لهم وضياع ممتلكاتهم. لقد شعروا فقط بالألم عندما خرج شاب سعودي في قناة (ال بي سي) اللبنانية ليتحدث عن ممارسته للزنا مع بنت الجيران. جن جنون بيوت كثيرة، وتدافعوا لرفع مئات الدعاوى أمام المحكمة لتوقيع اقصى العقوبة بهذا الشاب الأخرق. على ما يبدو فإن مفاهيم من نوع: الزنا..العرض..غشاء البنت..العار..خصوصية السعودية، بما تحمله تلك العبارات من ثقل ديني واجتماعي هي ما جعلت الدماء تفور في عروقهم وتغلي. أما أن تفقد أهلك ومالك وعقارك فهذا لا يستدعي في أحسن الأحوال سوى ترديد: حسبنا الله ونعم الوكيل!



وباعتقادي أن جزءاً كبيراً من الضجة التي صاحبت مقتل مروة الشربيني في المانيا يعود إلى مسألة الحجاب. لا أحد يتحدث عن مقتلها دون أن يفك ارتباطها بقطعة القماش تلك. اجزم لو أن من قتلت كانت لا ترتدي الحجاب لما ثارت ثائرة المصريين وبقية المسلمين. إن جزءاً كبيراً من التعاطف مع تلك المغدورة يعود إلى الحجاب بما له من ثقل تاريخي ومركزية دينية لا غنى للمسلمة عنه في زمننا هذا.



ما الذي أرمي إليه من استحضار تلك الوقائع؟ أريد القول أن الناس لا يحركها إلا الدين بطقوسه ورموزه وحكاياته وخرافاته ووعده ووعيده. عندما يطالبني صديقي بعدم الخوض في الماضي لانتفاء الفائدة منه فإن القصد منه هو حماية هذا الماضي من أي تهديد. ذاك الماضي ليس برفات وخيط رماد. إنه حي وحاضر ومتجلي فينا. اجزم أن اكثرنا على استعدادا للخروج في مظاهرة لو قيل لهم إنَّ رجلاً ما من بلاد منزوية على الخريطة قد تناول بالفحش الحميراء عائشة بنت أبي بكر. إنهم على اتم الاستعداد للخروج وللصراخ ولإشعال الحرائق وإلقاء الحجارة والمطالبة بالمقاطعة الاقتصادية دفاعاً عن الأموات. هل سمعتم مرة أن السعوديين خاصة والعرب عامة قد خرجوا في مظاهرة يطالبون فيها بمحاكمة وزير فاسد أو بتحسين أداء خدمات الصحة أو التعليم؟ لا تسعفني ذاكرتي بشيء سوى آيات شيطانية..رسوم النبي الكاريكتورية..الحجاب في فرنسا...تدنيس القرآن في غوانتينامو..مقتل مروة المحجبة..وحظر المآذن في سويسرا..والقائمة تطول. أترى؟ ما من من مرة يزبد فيها ويرعد العربي / المسلم إلا وكانت الرموز الدينية هي من توقظه من رقاده. وحتى يأتي قرار أو منتج أمريكي أو أوروبي يستفز مشاعر المسلمين ويشعلها...نتمنى لهم أحلاماً سعيدة!











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كيف لي أن أصفك
مايسترو ( 2009 / 12 / 28 - 13:36 )
لا يمكنني مطلقاً أن أصف بالكلمات، الكلمات التي تخطها أيها الكبير، وليته كان لدينا عدد محدود من الرجال الذين يحملون أفكارك، حينها أعتقد اننا سنكون في ألف خير، ورغم أنك تطيل الغيبة علينا، ولا تطل علينا سوى بين الفينة والأخرى، إلا أنك تعوض غيابك في استخراجك لدرر قل نظيرها، في محاربة خرافات وأساطير وهذيان الأديان، ويا سيدي فقد صدقت في كل كلمة خطتها يدك في هذا المقال المبدع، لكن يا سيدي هذه الأمة ماتت منذ 1400 سنة، ولا أمل في تستفيق ولن تستفيق ولن يحرك ضميرها سوى الأمور التي ذكرتها حضرتك ، والتي دائماً ما تتعلق بالأديان وخرافاتها.


2 - الكاتب الهمام
أبو لهب المصرى ( 2009 / 12 / 28 - 13:51 )
شكرا لك أيها الكاتب المحترم ... لك كل التحية على المقال الرائع
أنا خايف يرفعوا عليك قضية ... علشان القضية إللى أنت طرحتها !!!
كل سنة وأنت طيب


3 - سعدت بمروركم
هشام محمد ( 2009 / 12 / 28 - 15:00 )
عزيزي مايسترو أنا دوماً مدين لك بكلماتك وتشجيعك. اتمنى أن أكون عند حسن الظن دوما. عزيزي الجميل أبو لهب اشكرك على اختيارك لهذا اللقب فقد أعدت الاعتبار لشخصية جرى تشويهها كثير. ممكن ترفع علي قضية فكل شيء جائز في بلد العجائب.

تحياتي أيها الأعزاء ودمتم بألف خير


4 - شكرا
عبدالعزيز ( 2009 / 12 / 28 - 15:30 )
شكرا عزيزي هشام ...لم استطع التعليق على الموضوع فقد تكلمت بما كنت اريده .. شكرا مرة ثانيه.


5 - الخطر
ag ( 2009 / 12 / 28 - 15:53 )
سئل فلكي عما سيأتي به المستقبل، فقال دونما تردد : سيهلك الصغار، ستهلك القطط والطيور والازهار. ستحرق البيوت والكتب والرايات. ستحرق مقاعد المدارس والصور التذكارية. سيمحو النابالم الضحكات واللغة العربية والسنابل. ستهدم المستشفيات. ستهدم المصانع. ستهدم الحدائق. ستسير النساء في الشوارع دون ملاآت
ولما نشرت تلك النبوءة مفصلة في كتاب، اتفق المخلصون للوطن على استنكار ما سيحل بالمرأة، وتنادوا الى التضحية بالنفس والنفيس لدرء ذلك الخطر البشع - زكريا تامر
تحياتي لكم جميعا

اخر الافلام

.. الأردن في مواجهة الخطر الإيراني الذي يهدد سيادته عبر-الإخوان


.. مخططات إيرانية لتهريب السلاح إلى تنظيم الإخوان في الأردن| #ا




.. 138-Al-Baqarah


.. المقاومة الإسلامية في العراق تدخل مسيرات جديدة تمتاز بالتقني




.. صباح العربية | في مصر.. وزارة الأوقاف تقرر منع تصوير الجنائز