الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يسوع والحسين المصلحون في مواجهة المفسدين

علي محمد البهادلي

2009 / 12 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



قبل اللحظة الأولى التي أخبر بها الله الملائكة ( بعزمه ) على إيجاد خليفة له في الأرض يعمرها ويملؤها بالخير والصلاح ، كان هناك تخطيط إلهي يستهدف حماية الخلافة البشرية من الانحراف والعدول عن الطريق الذي يريده الله لها ، فعندما اعترض الملائكة وقالوا : (( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك )) أجابهم المولى تبارك وتعالى : (( إني أعلم ما لا تعلمون )) فعلى الرغم من إحاطة التجربة البشرية بالمخاطر والتهديدات ، إلا أنه قد جعل أول خليفة له على الأرض إنساناً نبياً ، فإذا ما اكتنف التجربة بعض الإخفاق ، فإن النبي يقوم بعملية إصلاح الخلل وإزالة الفساد ؛ لأنه معصوم عن الخطأ والزلل .

وهكذا كانت مسيرة البشرية تسير نحو التكامل والرقي واقعة تحت أنظار المصلحين من الأنبياء والمرسلين ، ولكن الله لم يرضَ للبشرية أن تتخذ جانب الصمت والسلبية تجاه الإفساد الذي يقوم به المجرمون ، فكون الإنسان صالحاً لا يمنحه بطاقة البراءة مما يحصل ، فإذا أراد الله سبحانه أن يهلك قوماً ما لإفسادهم في الأرض وتلاعبهم بالقيم المبادئ الإنسانية وارتكابهم شتى المفاسد كالتطفيف والغش والسرقة والقتل .... فإن الصالحين سوف يشملهم العذاب ، فواجب الأمة أن تنبري للدفاع عن القيم النبيلة والوقوف بوجه الفساد ، قال الله تعالى (( وما كان ربك ليهلك القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون )) ولم يقل " صالحون " فصمام الأمان من الهلاك هو عملية الإصلاح ، ولا يُتصوَّر أن الهلاك يكون دائماً بشكل إعجازي ، أي ينزل الله صاعقة أو ريحاً صرصراً أو طوفاناً ، لا بل إن المفسدين يحملون معهم الظروف الموضوعية لهلاك أنفسهم ومجتمعهم ، فمثلاً لو أراد مجتمع ما أن يتلاعب بالفطرة الإلهية ويشرع تشريعات مخالفة لها كتشريع الزواج المثلي ـ على سبل المثال ـ فإن هذا المجتمع حتماً سيتعرض إلى كوارث ربما تودي به إلى انقراض الجنس البشري ، وكذا لو تفشت الرشوة في مجتمع ما ، فإن البنى التحتية لنهوضه وتنميته سوف تنهار ، مما يؤدي إلى توقف عجلة التقدم والتنمية فيه ، وتسود فيه مختلف الممارسات التي تعرقل مسيرة الحياة العملية ، ولا يحتاج إلى إنزال عذاب وهلاك من السماء فنتائج هذه الممارسات هي بحد ذاتها هلاك وعذاب طبيعي ليس غيبياً .

نحن هذه الأيام نعيش ذكرى ولادة يسوع المسيح ، وذكرى استشهاد الإمام الحسين وهاتان الذكريان نستلهم منهما الدروس والعبر ؛ لكون هاتين الشخصيتين عاشتا في مجتمعين اكتنفت رسالة الأنبياء فيهما بعض التحريف والعدول بهما عن طريق الرشاد ، فيسوع المسيح عاش في البيئة اليهودية التي عاصرت الكثير من أنبياء بني إسرائيل ، لكن هذه الأمة " الإسرائيلية " لم تحتفظ بمواريث أنبيائها وحرفت الكلم عن مواضعه وتمسكت بقشور الشريعة ، أما الأمور المهمة التي تسعى الشريعة لإقامتها كالعدل والأمانة والصدق فقد ابتعدت عنها كثيراً ، لذا كان لزاماً أن ينبري شخص مصلح يصحح مسيرة الرسالة التي قادها أنبياء بني إسرائيل ، وكان يسوع هو ذلك الشخص ، فصدح بأعلى صوته مخاطباً وموبخاً علماء الشريعة المزيفين من فريسيين وكتبة : (( الويل لكم أيُُّها الكتبة والفرِّيسيون المراؤون ! فإنَّكم تؤدّون حتى عشور النعنع والشبثِّ والكمّون ، وقد أهملتم أهمَّ ما في الشريعة : العدل والرحمة والأمانة 0كان يجب أن تفعلوا هذه ولا تغفلوا تلك ! أيُّها العميان ! الويل لكم أيُّها الكتبة والفرِّيسيون المراؤون ! فإنَّكم تنظفون الكأس من الخارج ، ولكنَّهما من الداخل ممتلئتان بما كسبتم بالنهب والطمع ! أيُّها الفرِّيسي الأعمى نظِّف أوَّلاً داخل الكأس ليصير خارجها أيضاً نظيفاً ! )) وقال يذمُّ رؤساء الشريعة ( اليهود) : (( يلتهمون بيوت الأرامل ، ويتذرعون بإطالة الصلوات ، هؤلاء ستنزل بهم دينونة أقسى )) وعندما دخل الهيكل ، طرد الباعة والصيارفة منه ، وعلَّمهم قائلاً(( أما كُتِب أنَّ بيتي للصلاة يُدعى عند جميع الأمم ؟ أما أنتم فقد جعلتموه مغارة لصوص )) وقال واصفاً رؤساء الشريعة : (( يحزمون أحمالاً ثقيلة لا تُطاق ، ويضعونها على أكتاف الناس ، ولكنَّهم لا يريدون أن يحركوها بطرف الإصبع )) 0هذه الثورة اليسوعية على متقمصي لباس الشريعة قد أثمرت ثمرتها وجعلت من الناس يثورون على التقاليد اليهودية البعيدة عن روح الشريعة ، فما كان من المفسدين إلا التربص به وصلبه ـ حسب الرواية الإنجيلية ـ محتسباً صابراً غير متضعضع ولا مستسلم لإرادة المستكبرين المفسدين .

إن التجربة الإسلامية أشبهت تلك التجربة التي قادها أنبياء بني إسرائيل ، فبعد رحيل خاتم النبيين (ص) وما جرى بعده وتسلم بني أمية للسلطة ، فإن قيادة الأمة الإسلامية ـ المفترض أنها حاملة لمشعل الرسالة الإلهية إلى أرجاء العالم ـ أصبحت في يد أعدائها ، فمعاوية بن أبي سفيان هو وأبوه من ألد أعداء الدعوة الإسلامية ، وقام في فترة حكمه بتغيير الكثير من الأحكام والسنن الإسلامية ، وقد عقد معه الإمام الحسن هدنة ؛ لحقن دماء المسلمين كانت ملزمة أن يتسلم الإمام الحسن الخلافة من بعد معاوية ومن بعد الإمام الحسن الإمام الحسين ، لكن معاوية خرق بنود الهدنة وجعل ولاية العهد لابنه يزيد الذي لا يمتلك أدنى مؤهلات الإنسان السوي فضلاً عن مؤهلات قيادة التجربة الإسلامية ، فهو معروف باللهو وارتكاب الموبقات ، لذا عندما توفي معاوية وتولى يزيد الخلافة أبى أبو الأحرار الإمام الحسين أن يبايعه وقال : (( مثلي لا يبايع مثله )) وعندما سُئِل عن سبب خروجه قال (( لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً إنما خرجت لطلب الإصلاح )) فخروجه ضد يزيد لم يكن من أجل عداوة شخصية أو أحقاد قبلية أو عائلية ـ كما توهم البعض ـ وليس من أجل مكاسب سياسية يريد من خلالها أن يتسنم السلطة ولا طمعاً بمقدرات الأمة ، ولم يخرج مفسداً ولا طالباً لحصول قلاقل في المجتمع الإسلامي ، إنما خرج لتقويم الاعوجاج واجتثاث الفساد من جذوره ، الفساد الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي ، وذلك لا يكون إلا بالانتفاضة والوقوف بوجه المفسدين لهدِّ أركان حكمهم وزلزلة الأرض من تحت أقدامهم ، استجابة لدعوة جده رسول الله (ص) : (( من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ولم يغير عليه بقول أو فعل كان حقاً على الله أن يدخله معه جهنم )) ، وما أروع مقولته البارعة(( إني أعوذ بربي وربكم أن ترجمون وأعوذ بربي وربكم من كل متكبرٍ لا يؤمن بيوم الحساب )) فالاستعاذة بالله والتبرؤ من المتكبرين المتغطرسين الذين لا يرجون أن ينالهم حساب الله في السماء وهم في الوقت نفسه غافلون عما تخبئه الأيام من انتفاضة للمظلومين في الأرض الذين لا بد لهم أن يقيمون فيها ميزاناً للحساب ، فيأخذون لأنفسهم النصف من الظالمين ، ويسقون الظالمين كأس الذل والهوان .

النتيجة الحتمية لترك الإصلاح هو تولى المفسدين في الأرض أمور الناس والتلاعب بأرواحهم وممتلكاتهم، ولا يفيد الندم ولا التأسف ولا الدعاء بعد هذا ؛ لأن الله حذر الإنسان من هذه العاقبة المؤلمة (( وإذا أردْنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمرناها تدميراً )) فالله لم يأمر المترفين بالإفساد ، وإنما أمهلهم وترك لهم حرية اتخاذ القرارات سواء بالسلب أو بالإيجاب مع تأكيده تشريعياً أنه لا يحب الفساد ، وأنه لا يفلح الظالمون ، وأنه يجب على كل إنسان عاقل بالغ إذا رأى منكراً فعليه تغييره (( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر )) ، ولكن المشيئة التكوينية شيء آخر .

هاتان الثورتان " اليسوعية والحسينية " يجب أن تكونا منطلقاً وملهماً لكلِّ المستضعفين والمحرومين في أرجاء العالم ، للثورة على الظلم والفساد وتغيير مجرى الأحداث لصالحهم ، فالسكوت على الواقع الفاسد والتغاضي عن حالات الظلم ومظاهر الانحراف هو إعانة للمستكبرين والفاسدين للتشبث بمواقع القرار السياسي والاقتصادي بل وحتى الديني ، وهذا ما يؤدي إلى التخلف والاستبداد وسيادة قيم العبودية وانتصار الباطل .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بشر عاديين
منذر السوري ( 2009 / 12 / 29 - 10:07 )
يسوع والحسين كل منهما كان يسعى لمصلحته و مجده الشخصي,
لا اصلاح ولا بطيخ


2 - ليس بجديد على اهل الشام مثل هذا التعليق
احمد العراقي ( 2009 / 12 / 29 - 15:23 )
ليس بجديد على اهل الشام مثل هذا التعليق فقد عودنا الامويين واتباعهم على مثل هكذا مخالفات في الاراء فهم يؤلهون الرؤساء والزعماء منطلقين من مبدا لايجوز الخروج على ولي امر المسلمين حتى وان كان ظالما او مفسدا ويقللون من شان العظماء مدافعين عن الفاسدين


3 - اذا كان السكوت من فضة فالكلام من ذهب
سركون البابلي ( 2009 / 12 / 30 - 08:20 )
لايستطيع المسلم حين يتحدث عن الفساد الذي فيه الا ان يحشر المسيحية او اليهودية واذا ذكر شيئا ايجابيا عنها الا ووضع السم في العسل على سبيل المثال في هذه المقالة الخربوطية
لكن هذه الأمة - الإسرائيلية - لم تحتفظ بمواريث أنبيائها وحرفت الكلم عن مواضعه وتمسكت بقشور الشريعة ، أما الأمور المهمة التي تسعى الشريعة لإقامتها كالعدل والأمانة
والصدق فقد ابتعدت عنها كثيرا
0هذه الثورة اليسوعية على متقمصي لباس الشريعة قد أثمرت ثمرتها وجعلت من الناس يثورون على التقاليد اليهودية البعيدة عن روح الشريعة ، فما كان من المفسدين إلا التربص به وصلبه ـ حسب الرواية الإنجيلية ـ محتسباً صابراً غير متضعضع ولا مستسلم لإرادة المستكبرين المفسدين .
ً

اخر الافلام

.. إليكم مواعيد القداسات في أسبوع الآلام للمسيحيين الذين يتّبعو


.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم




.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله


.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط




.. 102-Al-Baqarah