الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بعيداً عن القطيع

ابراهيم هيبة

2009 / 12 / 31
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أنا كائن وحيد بالطبيعة. و أما عندما أكون برفقة نظرائي من البشر، فإن إحساسي بالوحدة يصبح إحساسا مضاعفا. في كل مرة انخرط في حوار مع احدهم يتولد لدي الإحساس بالأسى على كوني لا أعيش في الصحراء أو كوني لا أتمتع بسكون الجمادات. حضور الآخرين لا يخلق من حولي إلا الفراغ والإحساس بالتفاهة المطلقة. هم يحبون المال ويتعلقون بالمجد ويقدسون السلطة، أنا اكره المال وأزدري المجد وأتفادى كل أشكال السلطة. لا يمكنني أبدا أن أحب المال، فتحصيل آخر فلس يتطلب حدا أدنى من العهر والتزلف. وأما بالنسبة للمجد والسلطة، فإنني لم ارغب يوما في أن أكون الرجل الأول في أي مجمع ديني أو سياسي؛ فلكي يكون المرء نبيا أو زعيما سيتطلب منه ذلك الكثير من الغرور و جنون العظمة. ولكي يحكم رجل جماعة من عشر رجال لابد له من أن يهشم رؤوس ثلاثة منهم، وأما إذا أراد أحدنا أن يقدم نفسه كقدوة حسنة أو مثال أخلاقي فلا بد من أن تكون له الجرأة على أن يبصق -من حين لآخر- في وجوه الذين من حوله.
حكم ، قيادة، إرشاد، هاكم نماذجا لبعض الكلمات التي تملأني قرفا وتقززا. باختصار لا أريد أي شيء من الكون أو من البشر، أريد فقط أن أكون وحيدا ومهمّشا؛ وإذا كانت هناك من وظيفة أكرهها على وجه الأرض فهي وظيفة أن أكون إلها.
كيف تعرف بأنك على حق؟— المعيار بسيط للغاية: عندما تتعارض شكوكك وهواجسك مع يقينيات القطيع. والحقيقة لم تكن أبدا ظاهرة جماهيرية، كما أن العوام لا يستسيغون إلا ما هو مبتذل وسطحي ورخيص. وإذا كان هناك من شيء أتحسر عليه فهو تلك الساعات التي قضيتها برفقة نظرائي من البشر؛ لو حدث أنني كنت قد كرست كل تلك الساعات للاستبطان و التأمل لكنت الآن اقرب إلى الحقيقة أكثر من أي وقت مضى.
كل واحد منا يولد بقدر من الطهارة والبراءة، لكن الخوف من الوحدة والضجر يدفعان المرء دائما إلى الارتماء في أحضان الجموع- والنتيجة هي فقدان البراءة الأصلية، مع ما يتبعه من فساد وتورط وضلال. لم يسبق لي أبدا أن التقيت بإنسان يتحمَّل عزلته؛ فالكل يفعل المستحيل للالتحاق بأي مجمع بشري ما؟ قد يكون هذا المجمع شلة من الأصدقاء، أو حزبا سياسيا، أو طائفة دينية، أو حتى عصابة إجرامية. في الواقع، على المرء ألا يكرس وقته لشيء آخر غير ذاته، فالواحد منا لا يدخل في حوار عميق مع الحقيقة إلا عندما يكون بمنأى عن صخب العالم وضجيج العوام.
لا تتراءى لي الدلالة الحقيقية للأشياء إلا عندما أكون خارج دائرة الوجود البشري. عندما أكون في جولة مسائية على شاطئ البحر، أو أتمشى بلا هدف في ارض جرداء، ابدأ في مراجعة كل القيم البشرية واحدة تلو الأخرى : كل ما هو عظيم في أعين القطيع يغدو تافها وسطحيا أمام الصمت الأبدي للصخور والحركة التلقائية للأمواج. وكلما فكرت في وضعي بين الأشياء، في تصوراتي للعالم، وفي الأحكام التي يطلقها علي الآخرون، أقول لنفسي: "فيماذا تهمني استقامة هذا العالم أو اعوجاجه؟ ولماذا يجب أن أكثرت لأراء البشر فيّ ؟ إذا كانوا ينظرون إلي كعدمي أو كمجذِّف، فما الذي ستغيره أحكامهم تلك؟ أو ليس كل شيء يأخذ مساره المحتوم؟ و هذه الشجرة الواقفة هناك مند عقود، ما الذي يمكن أن يجمعها ببني البشر وأحكامهم القيمية ؟ و هذه الصخور المتكئة هنا منذ ملايين السنين، في ماذا يمكن أن تهمها قيم المجد والنجاح والشرف؟" في الحقيقة، لا وجود للحكمة إلا بجوار الجمادات، صمتها السرمدي وموقفها اللاإكثراتي من حركة العالم يفضحان بلبلة المدن ، ويظهران ضجيج المجتمعات كضجيج مجاني ومن أجل لا شيء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ضرورة الإحتكاك مع الأخر
خولة العمراوي ( 2010 / 12 / 24 - 11:32 )
قد نجد في البعد عن الأخرين المتعة والاسترخاء وأيضا قد نفقد لبراءة الأصلية في وجودهم,لكن في هده الحياة لن تستطيع فعل أي شئ الا بالإحتكاك مع الغير.
لدى فكرة الإبتعاد عن الأخر هي بمثابة حلم يصعب تحقيقه.


تلميدة من مؤسسة سيدي عبد الرحمان

مراكش

اخر الافلام

.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا


.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية




.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟


.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة




.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي