الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشهيد عاشقا للحياة

خالد صبيح

2004 / 6 / 25
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


لا يكتسب معنى الاستشهاد وقيمته من صورته المباشرة كواقعة مادية تتمثل بالتضحية بالنفس وإنما يكتسب أهميته ودوره من خلال المعاني الإنسانية العميقة التي يرتبط بها هذا الفعل .
فالاستشهاد ليس هدفا لذاته تحقق ألذات به تعاليها الخاص وإنما معبرا ومدخلا لخلق عالم مغاير تتجسد فيه قيم إنسانية تنطلق بالأساس، وتعاير نفسها، من قيمة مطلقة جوهرية تضع في مركزها الإنسان باعتباره مخلوقا وجد على هذه الأرض ليعيش الحياة ويهنئ بها لا ان يحولها إلى أداة لتحقيق أفكار أو أوهام. والحياة التي يحياها الإنسان على الارض هي حياته الحقيقية التي وجد من اجل أن يبنيها ويترك أثره بها وعليها وليست معبرا أو ممرا قاتما ومكروها لعالم فردوسي غامض مليء بالوعود. وهنا يتجسد المعنى العميق لخيار التضحية بالنفس كوسيلة ليست مطلوبة لذاتها وانما من اجل بناء الحياة واحترامها كقيمة. وإذا كان، في معيار ما، لا ينبغي التضحية بالحياة من اجل الأفكار لأن الافكار تتغير فان القيم التي تثوي في الأفكار وتشكل نسغها وخلفيتها ومرجعية ثابتة لها تستحق التضحية من اجلها إذا ما فرضت عملية صراع الأفكار والقيم والمصائر هذه التضحية، من غير أن يعني هذا الدعوة للموت المجاني واستهداف التضحية لذاتها. ونحن ندرك من خلال استقراء تجربة البشرية التاريخية أنه لولا تضحيات البشر بأنفسهم عبر التاريخ لما تحقق في مسار تاريخ البشرية كم القيم السائد في حضارتنا الان والذي رفع ولايزال يعلي من شان وقيمة الانسان والذي ساعده على تنظيم حياته وعلاقاته بأخيه الإنسان وبالمجتمع ووجه طاقاته وإبداعاته من اجل خدمة البشرية والحياة.
والشهادة اختيار صعب لكنه اختيار واع، وهي تأتي على خلفية حب الحياة وحب الإنسان وانتصار لقضاياه على الأرض وهذا ماكان عليه حال كل شهداء الحركات التحررية في العالم ولاسيما اليساريين منهم اذ انهم كانوا مفعمين بحب الحياة والإنسان ورهنوا أرواحهم ومصائرهم من اجل الدفاع عن قضايا مجتمعاتهم وحرية إنسانها. على العكس مما يقوم به المتطرفون المتعصبون الذين يتحولون إلى عبيد لفكرة أو غاية ما ورائية، وهذا ماكان عليه النازيون حينما اتبعوا وتبنوا العنف كمكون أساسي في ثقافتهم المتعصبة فحولوا الإنسان وحياته إلى عبد ورهينة لفكرة رومانسية غامضة تمجد قائد وقيم استعلائية وحاقدة وكذلك هو حال المتطرفين في الحركات الدينية ولاسيما (الإسلاموية) منها والذين تحول الموت عندهم إلى هدف مطلق للوصول عبره إلى جنة وهمية. وهم برسمهم لهذه الصورة لموقف التضحية وبممارساتهم العدمية قد حرفوا وشوهوا معنى الاستشهاد والتضحية بتحويلهم إياه إلى حالة انتحار مجاني وعشوائي يحركه الحقد، ولايمكن ان يبرره أن أسبابه مشروعة. فالطريقة التي يعبرون بها عن احتجاجهم، من تفجيرهم لانفسهم واختطافهم ونحرهم للرهائن، والتي يدفع ثمنها غالبا أناس أبرياء، تعكس حالة حقد اسود تدفع إلى الظن إن ما يكمن خلفها ويحركها ليس فقط موقف احتجاج اجتماعي غاضب وإنما حالة نفسية مرضية.
قالت إحدى الفتيات الشيشانيات من اللاتي شاركن في عملية مسرح موسكو مخاطبة الرهائن:
صدقونا! إننا نحب الموت أكثر من حبكم للحياة.
تأملوا في هذا القول! اهذا موقف إنسان يمكنه أن يحترم حياة الآخرين وإنسانيتهم؟
قد يكون الغضب واليأس هما السببان الكامنان وراء هذا الموقف والقناعة لكن لايمكن لهما باي حال من الاحوال ان يبررا طبيعة رد الفعل وأهدافه التي تقصد الإيذاء بأي شكل كان حتى وان طال غير المذنبين.
والإنسان السوي بطبيعته يخشى ويتجنب الموت غريزيا. كما يفترض بان يكون قبول التضحية بالنفس، لأجل اكتساب شرعيته وجدواه، مقرونا بأهداف ومطامح تبتعد عن حدود الإنسان الفرد وترتبط بحقوق وطن أو شعب أو بقضايا كبرى وليست جزعا فرديا يتحول إلى سلوك انتقامي وليس نضالي. وينبغي الانتباه هنا إلى أن السياسي أو المناضل لا يجب له أن يمتنع عن أية وسيلة مشروعة أخلاقيا وعقليا قد توصله إلى أهدافه. فالمناضل رغم استعداده لقبول التضحية بنفسه من اجل القيم التي يؤمن بها ويعمل من اجلها إلا انه يلجا إلى كل الوسائل السلمية الممكنة لتحقيق أهدافه والتي تجنبه وتجنب الآخرين الموت أو الأذى. وهذا ما فعله الحسين بن علي بن أبي طالب حينما فاوضه عمر بن سعد، فقد كان عندها على استعداد للرجوع عن أمره بعدما تبينت له الصورة على حقيقتها والعودة من حيث أتى مجنبا نفسه مصيرا لا يخشاه، كما أثبتت الوقائع اللاحقة، ولكنه لا يسعى إليه مجانا. لكن خصومه حينما سعوا لإذلاله بارساله الى يزيد بن معاوية لمبايعته، حينها وقف وقفته الشجاعة ولم يبال بالموت وخاض المعركة التي فرضت عليه ولم يتنازل رغم إدراكه لانعدام توازن القوى بينه وبين خصومه. وفي هذا مثل إنساني عظيم على فهم معنى الشهادة والموقف منها. وهكذا هو حال كل مناضلي الحركات التحررية في العالم. فعدا الموقف الواضح من مسالة التضحية ومن أن المناضل السياسي هو إنسان سوي ويقبل على الحياة ويعيشها بصورة طبيعية ولا يتمنى الموت ويتشهاه كما يضج الإسلامويون في إفراط وتطرف بطلبهم وتمنيهم للشهادة،
فقد كان اليساريون يحددون عدوهم بطريقة واضحة فاصلين وبدقة بين المجرم كشخص معني بالجريمة وبين المواطن البريء أو المتورط قسرا وبغير إرادة. ومن عايش أو عرف عن قرب حركة الأنصار الشيوعيين المعارضة للنظام ألبعثي التي نشطت في ثمانينات القرن الماضي في مناطق كردستان شمال العراق يعرف كيف كان الأنصار الشيوعيون حريصين جدا على أن لا يؤذوا الجنود العراقيين ولا يوجهوا إليهم أية ضربة ولايستهدفونهم إلا في حالات الاضطرار فقط وهذا يعكس الموقف الإنساني النبيل لهؤلاء المناضلين الذين عرفوا عبر تاريخهم بالتضحية، فرغم العنف الذي وجه ضدهم والذي مارسوه هم انفسهم ضد السلطة الفاشية اضطرارا، وبمبررات موضوعية، إلا ان احتقان الظلم والعنف ضدهم لم يتحول عندهم إلى حالة من الحقد التي لا تفرق بين المذنب والبريء، ولم يغيب وعيهم كمناضلين يضعون الإنسان في مركز اهتمامهم لأنهم يعتبرونه، ببساط، اثمن رأسمال.
كما لم يعرف عن مناضلي حركات اليسار عبر تاريخها موقفا عدميا من الحياة. وكان موقفهم التضحوي مصطبغ دائما بحب الحياة وليس هروبا ويأسا منها أو كرها لها. ولم يعرف عنهم كذلك مزجهم الرائع بين حب الحياة والاستعداد والقدرة على التضحية بالنفس من اجل الآخرين وحسب، بل عرفت عنهم رباطة الجأش والمنطقية في الموقف حتى في أصعب الظروف وأقساها. فقد اشتهر موقف ارنستو شي جيفارا، المضحي بالمناصب ووجاهة السلطة، حين تم اسره بعد إصابته بجروح في معركته الاخيرة ، بالإضافة إلى نوبة الربو الحادة التي شلت حركته، انه بصق في وجه جلاديه قبل أن يعدموه ويسلبوا أشياءه الشخصية- قلمه، أزرار قميصه- كذكرى لرجل رائع يعترف ببطولته أعداءه قبل أصدقاءه. وقبل هذه الواقعة كان التاريخ قد قدم لنا واقعة مماثلة مع القائد الشيوعي البطل .فيروى عنه انه بعد ان اعتقله البعثيون في انقلابهم الفاشي الأسود في عام 1963 وعذبوه بوحشية ( قلع عينه ورش الملح على جروحه ودفع حادلة ثقيلة على رجليه وتكسيرها) انه حين تقدم إليه المجرم( تحسين معلة) في محاولة للعبة سياسية قذرة طالبا منه التفاوض وفتح حوار، قد أجابه، رغم صعوبة الموقف ووحشيته وعدميته، برباطة جاش وثقة:
وهل يمكن الحديث والحوار معكم في مثل هذه الظروف.
وان القتلة بعدما فارق الحياة من شدة التعذيب ومن غير أن يتنازل ويقدم لهم ماارادوا قد تسابقوا للاحتفاظ باشياءه الشخصية الصغيرة كتذكارات تبرهن اعترافهم بشجاعته وبطولته.
وهاهي التجارب التاريخية بعد مسير تاريخي طويل ومنوع في نضال حركات اليسار تثبت لنا الفروق الجوهرية بين المناضل اليساري باني الحياة وبين الانتحاري ألعدمي هادم وكاره الحياة. ومن يراجع التجارب التاريخية لاسيما في منطقتنا سيتذكر بلا شك الهيئة الجذابة التي كان عليها المناضل اليساري برومانسيته الثورية وسلوكه الإنساني واهتماماته العميقة والمتنوعة وتطلعاته الواسعة والحاضنة للهم الإنساني باجمعه. وحين نقارنها، وستكون المقارنة ذات نتائج حاسمة، مع صورة ذوي الوجوه الغاضبة والمكفهرة والرؤى المعتمة ومحدودية الفكر والأفكار السوداء والسلوكيات المليئة بكراهية العنصر البشري واحتقاره التي يتلبس بها ( مناضلوا) المرحلة الحالية من (الاسلامويين) الذين صاروا اقرب للقتلة منهم للسياسيين. سنكتشف فارقا كبيرا وواضحا كالفارق بين الحياة بعنفوانها وجمالها وبين كآبة الموت وسوداويته.
فطوبى لمناضلي اليسار ملح الأرض وعنفوانها.


السويد
23-06-2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا.. اتهامات بتنفيذ عمليات تطهير اجتماعي ضد الفقراء والمش


.. محمد نبيل بنعبد الله ضيف برنامج نقطة الى السطر




.. فرنسا: تعليق جلسة بالبرلمان بعد رفع نائبة يسارية العلم الفلس


.. استطلاعات الرأي في الانتخابات الأوروبية ترجح فوز قوائم أقصى




.. استطلاعات تشير إلى فوز لأحزاب أقصى اليمين واليمين المتطرف