الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التقيتهما مرة واحدة

نقولا الزهر

2004 / 6 / 25
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


التقيتهما مرةً واحدة
(شمعةٌ لاتخافُ حريقَها
على ركامِ .......لهيبِها
ضمائمُ وردٍ قانٍ...
ينثرها أهلُ الأخدودِ الكبيرِ... في هذا العصرِ
وزنابقُ بيضاءْ ....
تحملُها الجداولُ الصغيرةُ التي تعرجُ طوالَ الليلْ...
إلى النهرِ
شمعةٌ... تحلمُ أن تتنزهَ (لاؤها) العالية ..في ساح ِالمدينة...
في كلِ مساءٍ... و صباح..
كي لا يغور العفنُ في التفاحْ ...
و يبقى السنونو بلا جناحْ ...
والحقولُ ...بلا أقاحْ ...
والسفينة... تذروها الرياحْ ....)
" من قصيدة لي عنوانها :حكاية كلمة صغيرة "
في الثالث والعشرين من نيسان من عام 1955 ، طلب رفيق مسؤول من أعضاء فرقتنا في ذلك اليوم أن نتواجد للمشاركة في موكب تشييع الشهيد عدنان المالكي. وقد كلِّفتُ في ذلك اليوم بحمل أحد الأكاليل المرسلة إلى موكب التشييع من الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان(اسم الحزب آنذاك). فأعطي أحد الشباب إكليلاً مكتوب على شارته السوداء: اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان، وشاب صغير آخر أعطي إكليلاً مكتوب على شارته السوداء الأمين العام للحزب خالد بكداش، وعلى الإكليل الثالث الذي حملته،أنا، كانت شارته البنفسجية تحمل اسم (الأستاذ فرج الله الحلو). لم يكن الاسم غريباً علي، فقد كان يتردد على أسماعي مذ كنت تلميذا صغيراً في مدرسة صيدنايا الابتدائية؛ وهو معروف لدى شيوعيي بلدتنا منذ تلك الأيام بأنه الأهم بين الشيوعيين اللبنانيين في تلك الحقبة.
وفي عام 1957 الذي أعقب العدوان الثلاثي على مصر (إنكلترا وفرنسا وإسرائيل)، أعلن وزير الخارجية الأمريكي (جون فوستر دالاس) مشروع (ايزنهاور) لسد الفراغ الناشئ عن انحسار نفوذ القوى الاستعمارية القديمة (الفرنسية والإنكليزية) من المنطقة، وتواترت في هذا العام المؤامرات الاستعمارية على سوريا لجرها إلى حلف بغداد، وحشدت تركيا جيوشها على طول الحدود الشمالية لسوريا للضغط عليها وثنيها عن مواصلة سيرها في خطها الوطني المعادي للاستعمار.
في خضم هذه الظروف السياسية الساخنة والمتوترة المحيطة بسوريا، ارتأى الحزب الشيوعي أن يتخذ بعض الاحتياطات فراح يطلب من أعضائه تنظيمَ تواجدٍ دوري على مكتب الحزب في المزرعة، ومنزل الأمين العام في حي ركن الدين، ومطبعة جريدة الحزب(النور) في حي باب توما. وكنت في تلك الفترة من الرفاق الذين أسهموا في حراسة المطبعة.
من المحررين الذين كانوا يترددون على الجريدة حوالي الساعة العاشرة مساءً في تلك الفترة فرج الله الحلو ونقولا شاوي وموريس صليبي ورفيق رضا وأحيانا خالد بكداش. وفي سهرةٍ من سهرات الحراسة هذه، وفي حوالي الساعة الثانية عشرة ليلاً لم يبق غيرنا من الشباب أنا وأبو جميل (عامل أحذية شيوعي من حي باب توما)، وفيما كنا نشرب الشاي ، إذا بالرفيق فرج الله يخرج من غرفة المحررين ويتوجه نحونا مباشرة، دعوناه على كأسٍ من الشاي فرحب بدعوتنا وجلس .
لم يتكلم في السياسة. سألنا عن أحوالنا؛ ويبدو أنه كان يعرف أبا جميل من قبل؛ سألني عن مدرستي وعن أهلي وأصولي؛ فتكلمت له عن صيدنايا وعن تاريخها وأديرتها وكنائسها، وكانت مناسبة لأساله عن مسقط رأسه فراح يتكلم على بلدته حصرايل (بالكنعانية مسكن الله) وعلى غاباتها وطبيعتها وارتفاعها وقربها من البحر. كان يتكلم عن بلدته كشاعر، ويبدو أنه كان يعشق لبنان حينما قال: زرت بلداناً جميلة جداً ولكني لم أر أجمل من لبنان...جلس معنا حوالي النصف ساعة ثم ودَّعنا ومضى كالنسيم......
لم أر مثل هذا التواضع أبداً ..... وكلما تذكرت هذا اللقاء البسيط الذي مضى عليه سبعة وأربعون عاماً أتذكر (مكسيم رودنسون)، في لقاء تلفزيوني وهو يروي ذكرياته عن لبنان الذي عاش فيه فترة طويلة وعن علاقاته مع الشيوعيين اللبنانيين والسوريين؛ ما يثير الانتباه في هذا اللقاء إسهابه في الكلام على فرج الله الحلو، فقد تكلم على روعة خصاله وأخلاقه وسلوكه وتواضعه؛ واعتبره، بما يمتلك من فكر ديموقراطي ومن مقدرة على الإصغاء للآخر وما يتسم به من حسٍ نقدي، مدرسة أخرى مختلفة تماماً عن مدرسة خالد بكداش التي كانت طاغية على حياة الحزب.
في اعتقادي، تلك السمات التي كان يتحلى بها فرج الله الحلو ربما قد أسهمت في أن يتعرض إلى اضطهاد كبير ضمن حزب يفتقد في داخله للتقاليد الديموقراطية، وتسيطر عليه عبادة الفرد سيطرة كاملة كما كان الحال سائداً في الكثير من الأحزاب الشيوعية، وفي ظل أمين عام مفوض فوق العادة ومطلق الصلاحية من (الرفاق السوفييت). وفي اعتقادي لم يكن أمام الرفيق الشهيد فرج الله الحلو خيارات كثيرة بعد موقفه المتحفظ على قرار التقسيم، ويبدو في النهاية أنه اختار قرار البقاء في الحزب على خيار طرده " بسطرين يكتبان في أسفل جريدة الحزب" أو خيار تقسيم الحزب . أو ربما رأى نفسه وحيداً غير قادرٍ على خوض معركة تكريس الحياة الديموقراطية داخله ففضل أن يبقى مناضلاً حزبياً بانتظار ظروف أخرى لخوض هذه المعركة. فضمن هذه الظروف يمكن تفهم خياره بأن يضحي بشيء من ذاته ويتقبل العقوبات التي فرضها عليه الأمين العام مثل (الإقامة الجبرية) و(إعادة تثقيف الذات) والتخلص من (سمات البرجوازي الصغير) وتسطير رسالة نقد ذاتي من نمط (رسالة سالم). طبعا حول تقديم (رسالة سالم) يبقى الأمر مختلفاً عليه فالبعض يلوم فرج الله على تقديم هذه الرسالة ، والبعض الآخر يعتبرها من التضحيات التي يقدم عليها في كثير من الأحيان رجال كبار إذا اقتضت الضرورة لصالح الشأن العام.
والحقيقة الأخرى التي يجب أن تضاف إلى تراث فرج الله الحلو الذي كان يعتبر في تلك الأيام زعيم الشيوعيين اللبنانيين أو (الأمين العام اللبناني للحزب)؛ هي المهمة التي تقبلها بكل صلابة من أجل إعادة تنظيم الحزب الشيوعي في سوريا في فترة القمع أثناء الوحدة، في الوقت الذي كان الكثير من كبار كوادر الحزب السوريين خارج سوريا. وفي الواقع يبقى من واجب الشهود الشيوعيين الذين عاشوا هذه المرحلة عن كثب، أن يكتبوا عنها لإيفاء هذا الرجل الكبير حقه.
وفي الواقع لا يوجد خلاف حول من ارتكب جريمة قتل فرج الله الحلو، ولكن الأسئلة تبقى مطروحة حول كيفية تسليمِه إلى (قيافا رئيس الكهنة)؟.. وإذا كان وراء هذا التسليم هنالك من يهوذا...أو أكثر من يهوذا...؟
وفي أواخر حزيران من عام 1959، وعندما انتهيت من امتحانات البكالوريا ذهبت إلى مدينة حلب لزيارة أخي الذي كان يعمل هناك في مديرية الصناعة؛ رافقته يوماً إلى عمله، وبالصدفة كان هناك رجل متوسط القامة يدخن بهدوء؛ هنا قال أخي: السيد (ألبير شدرفيان) مدير المرآب في الوزارة. أخي يزور حلب لأول مرة. هنا راح الرجل يخبرنا بألم شديد أن فرج الله الحلو قد استشهد تحت التعذيب وذوبت جثته بالآسيد. وهل يا ترى كان يعلم وهو يروي الحكاية أن بعد بضعة أشهر سوف يروون حكايته الشبيهة بحكاية(أبي فياض)؟؟.......
دمشق في 19/6/2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أنصار ترمب يشبهونه بنيسلون مانديلا أشهر سجين سياسي بالعالم


.. التوافق بين الإسلام السياسي واليسار.. لماذا وكيف؟ | #غرفة_ال




.. عصر النهضة الانجليزية:العلم والدين والعلمانية ويوتوبيا الوعي


.. ما الذي يجمع بين المرشد الإيراني وتنظيم القاعدة واليسار العا




.. شاهد: اشتباكات بين الشرطة ومتظاهرين يطالبون باستقالة رئيس وز