الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثلاث حكايات من مخيم جنين

عامر راشد

2004 / 6 / 25
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


إلـى معتقـلي أبو غريب، إلى كـــل من ذاقـوا
طعم الذل والمهانة في زمن التغريب العربي

من يهب الشهداء حفرة

غفا إبراهيم . أ . ح على إسفلت شارع المخيم الضيق ، كانت إغفاءته الأخيرة، تمددت إلى جانبه بندقية كلاشنكوف بلا حراك وقد لفظت آخر طلقاتها، لم يعد بمقدورها الرد على طلقات القناص الإسرائيلي الذي راح يعكر صفو إغفاءة إبراهيم .
إبراهيم الذي كان قد عبر قبل أشهر قليلة عام لجوئه الأربعين لم يكن يتذمر من واقع بؤس وشقاء ظلل بسواده جل أيام حياته، كان يخرج كل مساء ليقف في أعلى السفح الذي توسده المخيم منذ خمسة وخمسين عاماً، ينظر نحو بحر من الأضواء يغمر الساحل الفلسطيني المغتصب، تفتح ذاكرة الأجداد أبوابها .
كان إبراهيم يحلم ببيت يأوي إليه مساء مع زوجته و أطفاله الخمسة، وهو الذي يعيش في كراج بناية أرضي تبرع به له أحد الأصدقاء، لقد قسم الأمتار التي لا تتجاوز الـ (35 ) متراً إلى غرفة للمعيشة والنوم وإلى منتفعات، كان يحرص أن يقضي أولاده ساعات طويلة في الشارع نهاراً حتى لا تفتك بهم رطوبة هذا الجحر الذي لم تزره الشمس يوماً .
يوم اجتاح الجنود الإسرائيليون مخيم جنين كان إبراهيم من أوائل من حملوا السلاح دفاعاً عن المخيم . يقول جار له:
لم يتردد إبراهيم لحظة واحدة، فوجئنا به يحمل بندقية، لكن شيئاً ما قد تغير، أو قل لم نكن نراه في إبراهيم، كان يشع من عينيه بريق غريب، كعاشق احتضن بندقيته . شكل بجسده متراساً متنقلاً يمنع الجنود من التقدم، لساعات عدة نجح في ذلك، دب الحماس فينا ، لكن هيهات لنا أن نفعل شيئاً، كان عدد البنادق لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، صرخ أحدنا بإبراهيم : عن ماذا يدافع فقراء المخيم؟ هل صحيح أن الموت أرحم بهم من ظلم الاحتلال؟ .
يقاتلون دفاعاً عن حلمهم بتحصيل حق أبنائهم في العيش على ارض الأباء والأجداد .
ويقول جار آخر: بكى إبراهيم يوماً وهو يستمع إلى مذيعة في إحدى القنوات الفضائية العربية تصف فتى فلسطينياً لم يتجاوز السابعة من العمر بالشهيد، وبأنه كان يتصدى ببطولة للدبابات التي اجتاحت المخيم . وقف إبراهيم وصاح : إنهم يذبحوننا بمزايداتهم .
قلنا له: أتضن على هذا الفتى بلقب الشهيد وقد ضحى بروحه ؟!!.
هز إبراهيم رأسه بحزن وقال:
ما نفع كلمات المديح ، ترى هل أعطي هذا الفتى الخيار بين الحياة و الموت، من حق هذا الفتى أن يحيى لا أن يرغم على اختيار شكل موته .
القناص شلومو الذي تعلم من القيم العنصرية الصهيونية أن حياة الفلسطيني لا تساوي إلا ثمن طلقة زاد في كرمه، فلم يكتف بزرع طلقة واحدة بجسد إبراهيم بل زاد عليها العشرات من الطلقات، ليس بعيداً عن النافذة الوحيدة لما يمكن أن نسميه مجازاً ببيته، سقط إبراهيم، كان ينزف على مرأى من بناته وزوجته، حاول طاقم الإسعاف الوصول إليه لعدة مرات ولكن عبثاً ضاعت جهوده، فطلقات القناص شلومو كانت لهم بالمرصاد . اكتفت بناته وزوجته بمراقبته عن بعد .
بعد مرور عدة ساعات اقترب كلب ضال وراح ينهش لحم إبراهيم . صاح أحد الجيران :
لقد فارق الحياة، الكلاب لا تنهش الجسد الحي .
وبدأت المحنة الأصعب لعائلة إبراهيم،اتصلوا بطاقم الإسعاف ، وبالهلال والصليب الأحمر تمنوا عليهم سحب الجثة لدفنها، لكن الإسرائيليين رفضوا ومنعوهم من الاقتراب من الجثة ، تناوب الجيران وبنات وزوجة الميت على حراسة جسده من نهش الكلاب الضالة، كانوا يصرخون بها، وعندما لا تبتعد كانوا يحدثون جلبة حتى يطلق القناص شلومو طلقات تحذيرية تهرب من أزيزها الكلاب، انتبه شلومو إلى خدعة عائلة وجيران إبراهيم فلم يعد يطلق النار، تاركاً للكلاب الشاردة نهش الجثة، سبعة عشر يوماً بقيت الجثة مسجاة في الشارع، حتى رحلت قوات الاحتلال .
وضع الدكتور ع . ف ما تبقى من جسد إبراهيم في كيس بلاستيكي، بكى وهو ينشد أبياتاً للشاعر سعدي يوسف:
هذا الدم الأزلي من يلقي عليه اليوم سترة
من يهب الشهداء حفرة .

ماء وكفن

رن جرس الهاتف في غرفة الطبيب (ع . ف) ، كان المتحدث (ن . ع ) أخصائية تحليل مخبري في إحدى عيادات منظمة لجان الرعاية الصحية في الضفة الفلسطينية والقطاع التي يعمل بها الطبيب ع . ف، كانت تبكي مناشدة الطبيب أن يرسل لها طاقماً طبياً لإسعاف والدها الذي أصيب بأزمة قلبية . حاول الطبيب أن يهدأ من روعها وقال لها :
لا وقت للبكاء دعينا نحاول إنقاذه قدر الإمكان، فالطاقم الطبي حتى في حال السماح له بالوصول إلى المخيم فهذا يتطلب عدة ساعات، هناك عشرات الحواجز العسكرية الإسرائيلية وكل جنين أعلنها الاحتلال منطقة عسكرية مغلقة .
راح الطبيب يعطي التعليمات لـ (ن) التي أخذت تحاول جاهدةً إنقاذ حياة والدها . بعد نصف ساعة من التواصل مع الطبيب عبر الهاتف صاحت (ن) :
بدأت البرودة تدب في أطرافه يا دكتور، وهمدت حركته .
طلب منها الطبيب فحص عيني المريض، ففعلت وأبلغت الطبيب أن لا تجاوب .
قال الطبيب قبل أن يغلق السماعة:
يا أخت (ن) لم تعد حالة والدك بالمستعجلة، انتظري سنحاول بشتى السبل أن يصل إليكم طاقم طبي لتقل الجثة ودفنها. آسف أنا مضطر لإنهاء المكالمة معك، هناك مريض على الهاتف الآخر يحتاج إلى مشورة طبية .
قالت (ن) لأمها وأخيها الأصغر:
ما نحتاجه الآن قماش يكفي لكفن وقليل من الماء كي نغسل ميتنا، بعدها لا يبقى لنا سوى انتظار سيارة الإسعاف وإذن الدفن .
تفحص (م) الأخ الأصغر لـ( ن) كل صنابير المياه في البيت فلم يجد نقطة ماء واحدة، ورغم مناشدة أمه وأخته له أصر( م ) على الصعود إلى سطح المنزل لتفقد خزان المياه عله يجد قليلاً من الماء يغسل به جسد والده .
صعد (م) إلى السطح ولم يكد يطل برأسه حتى عاجله القناص بطلقة أصابته في الكتف، حملته الأم والأخت إلى غرفة في الطابق الأرضي، اتصلت ( ن) بالدكتور ع . ف ، رد عليها وبادرها بالاعتذار عن تأخر الطاقم الطبي لكن ( ن) قالت له:
لم أتصل من أجل هذا فالمصيبة أكبر لقد أصيب أخي (م) بطلقة قناص، النزف شديد ولم أستطع أن أوقفه .
حاول الدكتور جاهداً مساعدتها من خلال توجيهها في اتباع الخطوات الضرورية لإسعاف أخيها، وبقي على تواصل دوري معها لأكثر من خمس ساعات، إلى أن كان هاتفها الأخير في الرابعة فجراً إذ قالت باكية:
لم تصل سيارة الإسعاف بعد يا دكتور، أرجوك اتصل بهم أبلغهم أن حالة أخي لم تعد مستعجلة، هناك العديد من الجرحى في المخيم أصبح لهم الحق بالأولوية . دكتور أخي (م) ينام الآن إلى جانب والدي الذي أََحَبه كثيراً .

إنهم يؤنسون وحدة الشهداء

عبرت الحاجة أم ( س ) الزقاق الضيق راكضة مخافة أن تدركها إحدى رصاصات القناص الإسرائيلي. دخلت بيت الشاعر ع . ص الذي بقي بابه مفتوحاً طيلة أيام حصار مخيم جنين، عبرت من فوق أجساد صغار افترشت كل زوايا البيت، جاءوا من كل حارات المخيم المهدم. نظر ع . ص بدهشة إلى الحاجة أم (س) وقال لها:
ما الذي أتى بك يا حاجة، عبور الزقاق محفوف بالخطر، القناص الإسرائيلي لا يرحم .
أجابته الحاجة وهي تلهث:
لم يبق في البيت قطرة ماء، أكاد أموت عطشاً .
فقال لها ع . ص:
سامحك الله يا خالة لو ندهت لكنا تدبرنا الأمر وأرسلنا لك الماء مع أحد الشباب .
قالت الحاجة:
هذا ما كنت أخشاه، يكفينا ما قتل من شبابنا، ولعل القناص لا يرى في عجوز مثلي صيداً يستحق ثمن رصاصة، فأنا عجوز تقف على حافة قبرها .
ملأت الحاجة أم ( س) قنينة ماء ثم استدارت هامة بالعودة إلى منزلها ، حاول ع . ص منعها قائلاً : إلى أين يا خالة، ابق معنا على الأقل حتى الصباح .
نظرت الحاجة إلى ع . ص وقالت له:
هل نسيت يا (ع) أن صاحبك (س) ينام في البيت وحيداً، سأذهب كي أونس وحدته في ليل الموت الذي يطبق على صدر المخيم .
بكى ع . ص بحرقة شاعر كسرت قلبه كلمات امرأة كانت أبلغ من كل ما كتب:
هناك في مخيم جنين لا يقضون الليل إلى جانب الشهداء يندبون موتهم، بل يؤنسون ليلهم من الوحشة . يؤنسون وحدتهم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اشتباكات بين الشرطة الإسرائيلية والمتظاهرين المطالبين بإسقاط


.. مواجهات بين الشرطة ومتظاهرين يطالبون بإقالة الحكومة في تل أب




.. الشرطة الإسرائيلية تفرق احتجاجات في تل أبيب ضد الحكومة ونتني


.. آلاف المتظاهرين يخرجون في شوارع تل أبيب




.. العلاقات السوفييتية العربية