الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نذور السلطان

حامد حمودي عباس

2010 / 1 / 16
المجتمع المدني


حين غادرت بنا الحافلة ساحة المحطة المركزيه لنقل المسافرين من قلب العاصمة بغداد ، متوجهة الى الاردن ، لم يكن في توديعي غير افراد عائلتي ، حيث كانت ملامح الرعب تكسو وجوههم ، وهم يرون معيلهم الوحيد يغادرهم الى المجهول . . ولم تكن ساعتها حاضرة تلك المشاعر الحزينة لفراق الوطن ، فالوطن الحبيب يومذاك كان مسلوب الارادة ، لا يقوى على ان يحتفظ بابنائه ، ويسيل دمه من كل زوايا جسده المستضعف ، وهو لا يعرف لمصيره من قرار .

تحركت الحافلة بنا وهي تتهادى بين شوارع بغداد ، والازقة المتعبة تسرع مختفية من امامي ، وليس فيها ما يضل صدى في النفس ، حيث كل شيء ميت لا حراك فيه ، وما يتحرك هناك فقط ، هو الصمت والخذلان ، ومعالم الحرب ، والسرادق المتناثرة لاقامة المآتم لضحايا القتال الدامي على خطوط الجبهة .

في الاوقات التي تتوقف الحافلة فيها عند منعطف أو تقاطع مروري ، كنت أمعن بالتطلع لما تبقى أمامي من بغداد .. أجساد تتحرك لا يميزها عن بعضها البعض سوى أن هذا رجل ، وتلك امرأه ، فالجميع يبدو مثقلا بهموم العالم برمته .. خيل لي وأنا انظر عبر زجاج النافذة المكسو ببخار انفاس الركاب ، بان تلك الاجساد راحت تمتص سبخ الارض التي تسير فوقها ، فاكتسبت ذلك اللون الرمادي القاتم ..

اللون الكاكي الباهت ، يكسو مناطق بعينها حيث يتجمع الجنود ، إما للالتحاق بوحداتهم العسكريه ، أو لتناول وجبة سريعة من عربات البيع المتجوله .. ملابسهم لا تحمل من علامات الانظباط العسكري سوى اللون ، ورؤوسهم عارية وكأنهم لا زالوا بالقرب من مداخل بيوتهم ، لا يحملون هما لحساب من أحد .. كل شيء في تلك الايام يبدو على سجيته لا يخشى من قانون ، ما مادام الامر لا يمس سمعة وشخص السلطان ، بل إن حركة الناس عموما كانت في تلك الايام مختومة بمهر الحكومه ، وهي تبيح لهم فعل كل شيء إلا أن تتعدى حدود عتبة الباب العالي .. السرقة من المال العام لم تكن جريمة إن أحسن فاعلها التخفي وعدم احراج الدولة ، ورجال الدين أشاعوا بين الخلق ، كون أن سرقة المال العام هو بمثابة الحرب على السلطه ، ولذا فهو حلال .. حينها استمرء المعوزون والتجار وموظفي الحكومه جميعا أمر نهب ما يتاح نهبه من أموال الشعب .. حتى قبور الشهداء ممن قدر لجثامينهم أن تعود لذويها وتدفن على سنن مذاهبهم الدينيه ، هي الاخرى لم تسلم من قانون الحلال ، فبيعت ابوابها في أسواق الخرده لتوفر للاحياء لقمة الخبز ، ولم يثني منظر وجود لوازم الشهيد الشخصية بالقرب من قبره ، كملابسه وعدة الحلاقه ، والتواجد الملزم لكتاب الله ، اللصوص من الاقدام على مقايضة تلك الموجودات ، بوجبة غذاء أو قضاء فسحة أنس ..


صوت ابنتي الصغرى لا زال يضغط على مسامعي ، وهي تبكي في المحطة قبل ان اغادرها ، ووجوه بقية افراد الاسره بملامحهم المأساوية توحي لي احيانا بان استوقف الحافله واعود ادراجي من جديد .. ولكن الى اين يمكنني ان اعود ، فكل شيء خلفته ورائي يطلب مني ان اتحرك وبأي إتجاه ، عدا ان ابقى ساكنا انتظر حلول الكارثه .. انهم جميعا يدفعون بي لاتخاذ القرارالمناسب .. أي قرار .. شرط أن يوفر لهم ما يقيهم شر الجوع والتشرد ..


كان رفيقي في تلك الرحلة ، مواطن كردي عراقي ، كنا نحن الاثنين نلتصق ببعضنا البعض ، رغم ان تعارفنا لم تتعدى بدايته محطة بغداد للمسافرين .. لقد كنت أحس وكما هو ، بالحاجة الى شريك في خوض معركة الاغتراب الجديده .. وعرفت بعد حين ، بانه يشبهني في كونه لا يعلم وجهة بعينها لتكون محطته النهائيه .. في المعبر العراقي الحدودي بدت لنا أصعب اللحظات ونحن نواجه استفسارات المقيمين على ادارة المعبر .. فالكمبيوتر كان عنيدا في تكرار طلباته لمعرفة كل شيء .. الاسم الرباعي ، واسم الام ، وطبيعة العمل قبل المغادره ، والجهة المقصوده ، وما هي أسباب السفر ..

الاردنيون في معبرهم لم يطيلوا النظر فينا سوى تقديم بعض الاستفسارات الروتينيه .. وسرعان ما بدأ يطل علينا عالم من نوع آخر ونحن نتقدم عبر اول مدينة غير عراقيه .. عالم فارقناه منذ زمن طويل ، حتى نسينا ملامحه .. محلات تغمرها الاضواء ، والوان من الفواكه تبهر النظر المحروم ، ومخازن تفنن مالكوها في إظهار ديكوراتها الجالبه للزبائن .. عيوننا كانت مشدودة للارصفة وهي تسرع بمغادرتنا قبل أن نشبع فضولنا من النظر الى ما فيها من الوان .. همس صاحبي بالقرب من أذني قائلا .. كم مر من الوقت ونحن بعيدين عن هكذا خيرات ؟؟ .. وحفزني قوله لأن أعود من جديد مستحضرا حقيقة أن بلادي لا ينقصها شيء ، غير ان تعقد سلاما مع ذاتها ، وتلتفت لابنائها ، تاركة فضيحة اسمها ( التضامن العربي ) ، والتبرع بالذود عن بوابات الوطن الكبير .

عمان كانت حميمة في استقبالها لنا من خلال مسحة الأمان المفقودة في حياتنا منذ زمن طويل .. وفي الفندق تدارسنا أمرنا لنتحرك في اليوم التالي ، علنا نجد سبيلا لعمل يوفر لنا ما يمدنا باسباب البقاء .. ولكون صاحبي يحمل تخصصا علميا في الزراعة وتربية الحيوان ، فقد قررنا البدء بالبحث عن عمل في هكذا مجال .. حيث شدنا عنوان أحد المكاتب الزراعية المملوكة لعربي من غير الاردنيين ، لأن ندخل على صاحبه ونعرض حاجتنا للعمل معه .. تفحصنا الرجل بدقه قبل أن يسأل .. من أين حضراتكم ؟؟ .. هل انتم عراقيين ؟؟ .. رد صاحبي بسرعه وبثقة عاليه .. نعم نحن من العراق .. حينها نهض الرجل من مكانه بتثاقل .. وامسك باكتافنا ليدفعنا خارج المكان وهو يقول .. ( لو قدر لكما ان تدخلا مزرعتي ، فان الدجاج هناك سيتوقف عن انتاج البيض ) ..

هزت تلك الحادثة نفوسنا ، ومع أنها كانت موطنا للتندر والضحك على ما بلغناه من حال ، فقد ضلت آثار ما سمعناه توخز في دواخلنا ولزمن ليس بالقصير .. ولم يكن لدينا من حل آخر غير أن نعود لتدبير ما يعيننا على ايجاد سبيل آخر مناسب ، علنا نعثر على عمل ، أو طريق يهدينا للسفر الى بلد آخر .. فكرنا بالسفر الى المغرب العربي عن طريق لبنان لوقوعه على ضفاف البحر الابيض المتوسط ، وحين ذهبنا للسفارة اللبنانيه في اليوم التالي ، استقبلنا الموظف المختص وبشكل اعتيادي ، وتسلم منا جوازات سفرنا على ان نعود في اليوم التالي لاستلام تاشيرة الدخول .. واحتفلنا مقدما بالمناسبه ، حيث سهرنا ليلتها في احدى المقاهي المطله على الساحة الهاشميه ، لنقضم ذكرياتنا ونخطط لما هو آت .. في الصباح الباكر كنا بالقرب من باب السفاره لنحضى بجوازاتنا الممهورة بالتأشيرة المطلوبه .. اقتربنا من شباك التسليم .. وحينما لمحنا الموظف ذاته ، إختفى برهة ليعود ومعه موظف آخر يحمل الجوازات ليسلمنا اياها وهو يقول .. ( هناك ختم مثبت في الصفحة الاخيره من جوازاتكم ، ينذركم بعدم مراجعة السفارة مرة اخرى ، وفي حال تكراركم المحاوله ، سنقوم باشعار السلطات المختصه لمخالفتكم التعليمات ) ..

لم نكن نعرف سببا لذلك الاجراء .. ولم نبدي اعتراضا البته خوفا من تبعات الاعتراض ، رغم اننا على يقين بان سيرتنا الذاتية سليمة ، وصفحاتنا الشخصية لا تشوبها شائبه .. فنحن مواطنين عاديين دفعتهما ظروف بلدهما ان يهاجرا طلبا للرزق ، بعد أن أديا ما عليهما من ضرائب وطنيه ، أولها هو اننا أدينا ما علينا من خدمة العلم الالزامية .. ثم انني شخصيا كنت من ضمن المدافعين عن البوابة الشرقية ( للوطن الكبير) من خلال أدائي الخدمة في القوات المسلحه ، وتعرضت للكثير من الاهوال جراء حملي للسلاح بوجه ( اعداء الامة من طامعين ..) .. وامتلك صور شتى من المعاناة الانسانية لابنائي نتيجة سوقي لجبهات القتال ، حتى اضطروا في بعض الاحيان لاستجداء عبوات غاز الطبخ من جيرانهم لبعدي عنهم .. فلماذا إذن ترفضني لبنان وبهذه الطريقه ؟؟ .. ولماذا يعزف الدجاج العربي عن انتاج البيض بمجرد احساسه بقربي من مكامن اعشاشه ؟؟ .. لم احضى بجواب يروي عطشي وشوقي لمعرفة الحقيقة ، عدا عن كوني وسواي من ابناء شعبي ، كنا ضحايا نذرنا سلطاننا لغيرنا بلا مقابل .

وللقصة بقيه ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - متعة
عبد القادر أنيس ( 2010 / 1 / 16 - 16:47 )
قراءة ما تكتب يا سيد حامد متعة رغم المرارة التي تبقى في الحلق بعد الانتهاء منها.
بلداننا كلها غنية، بل ليس هناك بلد في العالم يمكن أن نصفه بالفقر. المأساة هي في الناس عندما تستبد بهم ألوان الجهل والتعصف والفقر الفكري.
ملاحظة: ذكرني سفرك عبر الحافلة بكثر الأسفار التي كنت مجبرا على القيام بها طوال سنين طويلة. السفر كان عذابا بأتم معنى الكلمة بسبب الانتظار: انتظار القطار، أنتظار الحافلة، صعوبة إيجاد تذكرة. ذلك أن دولتنا في تلك الحقبة التعيسة كانت تتحكم في وسائل النقل وفي كل شيء تقريبا وكانت عاجزة عن كل شيء. موظفو النقل كانوا أرباب بأتم معنى الكلمة والمحظوظ من يكون له ابن عم أو صديق يخفف عنه هذه الضائقة.
اليوم وبعد أن انهار القطاع العام وسمح للقطاع الخاص ورغم الكثير من النقائص إلا أن الزبون صار من جديد ملكا كما يقول الفرنسيون.
باسم شعارات كبيرة مثل القومية والاشتراكية والقطاع العام ومحاربة البرجوازية أفلست بلداننا بعد أن بذرت كل الجهود في مناوشات جانبية ومتاهات وصراعات ضد طواحين الهواء وخزعبلات إمبريالية.
تحياتي على الفرصة
تحياتي


2 - الرفض بدون إبداء أسباب
فاتن واصل ( 2010 / 1 / 16 - 18:42 )
جربت مرارة هذا النوع من الرفض فى يوم من الأيام, وتصرفت بنفس الطريقة .. خفت ان أسأل لماذا رُفِضت خشية ان أفتح على نفسى جبهة من النيران, ومن عدو لا أعرف مدى قوته وما الذى جعله يرفض .. وخرجت من هذه التجربة بنتيجة واحدة .. أن الانسان فى بلادنا رخيص وليس له حقوق ولو ثار مطالبا بها, يدان ويتهم ويتعرض لأبشع أنواع الاضطهاد ... أستاذ حامد شكرا لك قلبت على كل المواجع

اخر الافلام

.. الأونروا: ملاجئنا في رفح أصبحت فارغة ونحذر من نفاد الوقود


.. بعد قصة مذكرات الاعتقال بحق صحفيين روس.. مدفيديف يهدد جورج ك




.. زعيم المعارضة الإسرائلية يحذر نتنياهو: التراجع عن الصفقة حكم


.. موجز أخبار الواحدة ظهرًا - مسؤول الأغذية العالمي في فلسطين:




.. تغطية خاصة | إعلام إسرائيلي: الحكومة وافقت على مقترح لوقف إط