الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلمانية مقدمة للحرية

سهيل أحمد بهجت
باحث مختص بتاريخ الأديان و خصوصا المسيحية الأولى و الإسلام إلى جانب اختصاصات أخر

(Sohel Bahjat)

2010 / 1 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


بعد أن يتحدث المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري عن تدهور النقاش بشأن العلمانية " و بدلا من محاولة تعريف العلمانية تعريفا مركبا شاملا يتفق مع تجربتنا التاريخية و مع رؤيتنا لذواتنا و للآخر" ـ حسب تعبيره ـ و تحوله إلى نقاش تاريخي حول أصل و أصول العلمانية، يقول:
ثم ازداد الأمر تدهورا، و زادت المعركة بين دعاة العلمانية و أعدائها في العالم العربي احتداما و ضراوة، إذ يقول أتباع الفريق الأول: "إن العلمانية كفر و إلحاد و غزو ثقافي" ثم يضيفون إلى هذا كل ما يبدو شرا مستطيرا، أما أتباع الفريق الثاني فيقولون: "إن العلمانية هي أن يكون الإنسان إنسانا، و أن يحكم ضميره، و يحب الخير كنهاية في ذاته، و يدافع عنه و عن حرية الفكر و الإبداع و التسامح و المحبة، و أن كل من يقف ضد العلمانية ظلامي يبغي العودة للعصور الوسطى، و يقف ضد الحتمية التاريخية"، ثم يضيفون إلى هذا كل ما يبدو جميلا و رائعا و نبيلا، و انطلق دعاة العلمانية يلهجون بالثناء عليها، و يتحدثون عن أن لا سلطان إلا للعقل و يشيرون إلى أوروبا مهد النور و العقل و العلمانية..إلخ" ـ العلمانية تحت المجهر ـ ص 51
يحاول المسيري إيهام القاريء بأنه هو ذلك الباحث الموضوعي الحيادي و أنه لا يقوم بالنقد إلا بشروطه العلمية، و على أساس أنه يضع العلمانية موضع النقد بأسلوب علمي و عقلاني، لكننا حينما سنستمر معه و نتابع منهجه النقدي للعلمانية ـ و من وراءها الديمقراطية و الرأسمالية و التنوير و التخطيط العلمي العقلاني ـ و هو حينما زعم أنه يريد إصلاح السفينة ـ العلمانية ـ فإنه بدلا من ذلك أغرقها بمن فيها، و هذا بالطبع أمر متعلق بالعاطفة لا بالعقل، فنحن حينما نكره كبشر نحاول أن ننسب كل قبيح إلى من نكرهه، كما مر بنا، فالمسيري حكم من البداية بالسلب على كل ما هو غربي و يهودي و مسيحي، بالتالي فهو ينسب ضمنيا كل ما هو إيجابي إلى المسلمين و الشرقيين.
فالعلمانية حسب المسيري هي صنو أو معنى آخر لكلمة إلحاد و كفر أو اللا دينية و كل مفردات المجامع اللغوية التي تصنف الإنكار، و هي مرة أخرى مرادفة للعدمية و اللا إنسانية و الدكتاتورية، و هذا غير صحيح طبعا، فلقد رأينا كيف أن العلمانية تتزامن و تتواجد إلى جانب الأنظمة المتناقضة كالديمقراطية و نقيضها الدكتاتورية و الوطنية و نقيضها الفاشية و النازية، من دون أن يعني ذلك أن تكون علة لهذه التناقضات، فالعلمانية كائن محايد يحاول إيجاد معادلة نسبية يعيش في ظلها الكائن البشري في ظل تجلياته المتنوعة و المختلفة، و لكن المسيري يريد أن يعلن لنا أن العلمانية لها نظرية "شاملة" تنتهي بالإلحاد و تتسلل هذه المنظومة إلى أدق تفاصيل الحياة و كافة جوانب الحياة، متناسيا أن الحرية مسألة غير قابلة للتجزئة و التقسيم لأنها إما أن تؤخذ كلية بعلاتها ـ إذ لا مخلوق بدون نواقص أو عيوب ـ أو ترفض كلية فيعود المجتمع إلى غياهب السجن.
و المسيري يقسم نقده للعلمانية إلى نقطتين أساسيتين:
1 ـ حصر بعض تعريفات العلمانية في المعجم الحضاري الغربي.
2 ـ حصر بعض المصطلحات المتداخلة مع مصطلح "العلمانية" أو التي استخدمت في وصف بعض جوانب المجتمع الغربي الحديث.
و يقول عن ذلك:
و سنقوم بتجريد ما نتصور أنه النموذج الكامن وراء هذه المصطلحات و ذلك من خلال تفكيكها و إعادة تركيبها لنصل إلى بعض الأنماط المتكررة، (نسمي هذه الطريقة "التعريف من خلال دراسة مجموع من المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالي المشترك أو المتداخل"). بهذا قد نتوصل إلى النموذج المعرفي الكامن وراء مصطلح "العلمانية"، و هو في تصورنا سيكون أكثر تركيبا و شمولا و تكاملا من النموذج السائد، فهو يبين الوحدة الكامنة وراء المصطلحات و الظواهرة المتناثرة.
إن التجريد الذي يحدثنا عنه المسيري ليس تجريدا حقيقيا، بل نستطيع أن نصفه بأنه تجريد وهمي أكثر من كونه تجريدا مبنيا على الواقع، فالظواهر التي توجد في المجتمع لا صلة لها بالقانون العام الذي تقوم عليه الدولة، و إذا كان بعض الأبرياء يقعون ضحية العدالة و القانون فهل يجوز لنا أن نلغي القانون؟ و إذا كانت تنتج عن الحرية بعض الظواهر السلبية فهل الحل يكمن في إلغاء الحرية؟ بالتأكيد الجواب هنا هو بالسلب و الرفض، فالحرية لها عيوب و نواقص و لكن الاستبداد و الدكتاتورية و ثقافة الممنوع هي شر كلّي بالتأكيد، و الحل هنا يجب أن يكون راجعا إلى الإنسان نفسه، و الحرية التي تتمثل في تطبيق العلمانية هي أشبه بالغذاء، فكل طعام يأكله الإنسان لا بد من أن يؤثر في صحته بوجه من الوجوه، فهل الحل هو أن يمتنع الإنسان تماما عن أكل الطعام؟ أم أن عليه أن يطلع على نوعية الطعام الذي يُناسب سلامة و صحة الشخص؟ من هنا نجد أن التجريد المزعوم و الذي سيقوم به المسيري هو مجرد نماذج عشوائية Random لا تعكس صحة أو بطلان أو الإيجابي و السلبي في أي نظرية، فإذا كانت المجتمعات المادية الغربية سلبية ـ حسب المسيري و مؤيديه ـ فلماذا هذه المجتمعات هي على رأس الهرم البشري، بينما المجتمعات التراحمية (التزاحمية كما نسميها) هي في ذيل القائمة و على كافة الأصعدة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية؟.
إن النماذج التي يريدنا المسيري أن نصدقه في كونها تعكس النظرية الشاملة للعلمانية هي نماذج انتقائية، و بالتالي فهو لا يملك أن يلغي سلبيات الفعل الإنساني، فالإنسان بما أنه حر فهو كائن سلبي إيجابي في الوقت نفسه، و إذا كنا نريد مع المسيري أن نلغي سلبيات الإنسان فذلك سيكون إلغاءا للإنسان نفسه، فالإنسان كائن يتذكر و لكنه ينسى أيضا، يرحم و يقسو، يعدل و يظلم، و هكذا نجد أن الفعل الإنساني يصنع كلا النقيضين، الإيجابي و السلبي، فهو حيوان ذو غريزة قبل أن يكون كائنا عاقلا، و ما نسميه بالفكر و العقل و الأخلاق و الثقافة كلها منتجات تحتاج إلى وقت و ظروف و أسباب كثيرة لتثمر ما هو إيجابي، و حتى لو أثمر العقل و أنتج ثقافة يبقى العقل أحيانا أسيرا لغريزة مكبوتة أو غضب لم يتح للفرد أن ينفس عنه، فإذا أدركنا هذه الحقيقة اتضح لنا أن الإنسان هو كومة حاجات قبل كل شيء.
يقول الدكتور المسيري:
و تنطلق هذه الدراسة (و كل دراساتي الأخرى) من الإيمان بأن ثمة فرقا جوهريا كيفيا بين عالم الإنسان المركب، المحفوف بالأسرار، و عالم الطبيعة (و الأشياء و المادة)، و أن الحيز الإنساني مختلف عن الحيز الطبيعي المادي، مستقل عنه، و أن الإنسان يوجد في الطبيعة و لكنه ليس جزءا عضويا منها، لأن فيه من الخصائص ما يجعله قادرا على تجاوزها و تجاوز قوانينها الحتمية، و صولا إلى رحابة الإنسانية و تركيبتها (و هذا هو مصدر ثنائية الإنساني و الطبيعي التي تسم كل الأنساق المعرفية الهيومانية الإنسانية Humanistic)." المصدر السابق ص 54
إن هذا كلام نظري جميل، و كلنا كبشر نتكلم "عما ينبغي" أن يكون عليه الإنسان من كمال و جمال و استقلالية و راحة، لكن هذا الكلام النظري الجميل لا يصف الواقع، و لا صلة له به، فالإنسان و طوال التاريخ كان يشن الحرب و يستعبد الآخرين و يسم كل حروبه بأنها "من أجل البشرية" سواء كانت حربا عادلة أو ظالمة، و لا يوجد في كل التاريخ أي نظام رفع شعار الظلم و القهر، لأن كل الحضارات زعمت، و لا تزال، أنها قائمة على العدالة و الرحمة، حتى لو كانت العدالة و الرحمة لا تعنيان إلا الموت و الدمار، و من هنا لا مجال لفصل الإنسان عن الواقع و الطبيعة، و الطبيعة هنا لا تعني قط "الغريزة الحيوانية" كما يريدنا المسيري أن نفهمها، صحيح أن النازية و العروبة و سائر النظريات القومية العنصرية قسمت البشرية على أساس حيواني، لكن الاستثناء هنا لا يسري على القاعدة، فطبيعة العقل تختلف عن طبيعة المادة، و المسيري تهرّب هنا من إشكال فكري بقي قرونا مثار جدل بين المسلمين و هو: هل الإنسان مخير أم مسير؟ هل هو حرّ أم مجبر؟ هل كل شيء يسير بقدر أم أن الإنسان مفوض إليه فيما يفعل؟ و هنا لا يهمني في مبحثي عن ذلك الذي يجعل الإنسان مجبرا أهو الله أم الطبيعة!! فالمهم أن الإنسان يفقد ذاته في كلا الحالتين، نجد حديثا دينيا يقول ـ و نتخذه نموذجا ـ:
حدثنا ‏ ‏يونس ‏ ‏حدثنا ‏ ‏ليث ‏ ‏عن ‏ ‏قيس بن الحجاج ‏ ‏عن ‏ ‏حنش الصنعاني ‏ ‏عن ‏ ‏عبد الله بن عباس ‏ ‏أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يوما فقال له رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يا غلام إني معلمك كلمات ‏ ‏احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك وإذا سألت فلتسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف ــ مسند أحمد بن حنبل الحديث 2537
فهذا الحديث يدل دلالة شبه قاطعة على أن الإنسان مجرد مخلوق خلق عبثا (فقد حُكم عليه مسبقا في أن يسقط في جهنم أو يرتفع إلى جنات النعيم)، و هذا قد لا يختلف كثيرا ـ إن لم يكن أسوأ ـ عن الحتميات المادية في الفلسفة الماركسية التي ترى في الإنسان كائنا "اقتصاديا" من دون أي جوانب أخرى، غير أن الماركسية أسلم من تلك النظرية "الإسلامية" التي تنسب هذه الحتمية الظالمة إلى الله و القدر الإلهي أو الوسواس الشيطاني، و الشيطان نفسه من خلق الله و بالتالي نسب الأمر إلى الله مرة أخرى، فأن نتهم المادة أفضل من أن نتهم الإرادة الإلهية بالظلم أو النقص، و إذا كان المسيري قرر أن يفصل الإنسان عن الطبيعة، و هو ما لا يمكن إثباته إلا جزئيا، فإنه لا يحرر الإنسان من المادة عبر هذا الفصل القسري الإجباري، و بمجرد أن يقوم بذلك فهو يرمي الإنسان في ربقة حتميات أخرى أخطر، فهذه الحتميات تلبس لباس القدسية و هي غير قابلة للأخذ و الردّ لأنها ببساطة (حتمية غيبية)، و لكن الحتمية المادية المزعومة لا تمتلك خاصية التقديس هذه كونها قابلة للامتلاك الإنساني على عكس تلك الحقيقة التي تُصبغ بصبغة "التقديس" و "الغيب الإلهي" و "الأسرار الإلهية".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عمليات نوعية للمقاومة الإسلامية في لبنان ضد مواقع الاحتلال ر


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الكنائس القبطية بمحافظة الغربية الاحت




.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا


.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية




.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟