الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أين الشيطان؟

رشيد الفهد

2010 / 2 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



تدافع الناس بسرعة صوب ساحل نهر دجلة من إحدى القرى المطلة عليه في ناحية ( العزير) جنوب البلاد، نساء ورجال ،صغار وكبار اصطفوا جميعا على الضفة ينظرون إلى زورق بخاري توقف عندهم قادما من (العمارة) لم يروا مثله من قبل ، كان يقل فريق الراهب (هاري وريزم) من ولاية نيوجرسي و(ميشا) الذي يتحدث بلغة أهل الجنوب مع عدد من الحراس وذلك في أطار المساعي الرامية إلى التعريف بالمسيحية في العراق وما مدى إمكانية تشييد عدد من المدارس والمستشفيات مطلع القرن العشرين.
لم يكن إقطاعي القرية في ذلك الحين موجودا، كان في الناحية لقضاء بعض الأعمال، والإقطاعي هو( الشيخ) بحسب تسمية أهل الجنوب. "هاشم" هو الذي رحب بهم، و(هاشم) هذا من رجال القرية يعد بمثابة الحكيم أو المستشار بالنسبة للأهالي ، لقد نال هذه الصفة بعد عودته من رحلة الأربع سنوات التي أمضاها في بغداد ، كانت الرحلة إليها في ذلك الزمن محفوفة بالمخاطر هذا بالإضافة إلى كونه يجيد القراءة والكتابة، تعلمها عند( الملا لي) في بغداد وكان الوحيد الذي يعرف ذلك ليس بالنسبة لقريته فحسب إنما أيضا بالنسبة للقرى المجاورة الأمر الذي منحه هيبة أكثر من غيره إلى جانب وصفه الدائم للحياة البغدادية على شكل قصص كانت حين يرويها تثير المتعة والارتياح والدهشة في أحيان أخرى، حتى أن الشيخ كان يدعوه خلال سهراته ليسرد له ما تيسر منها قبل أن تصل العلاقة فيما بينهما إلى طريق مسدود اثر مطالب تقدم بها( هاشم) تدعو الشيخ إلى زيادة منحة المزارعين الأمر الذي أغاظ الشيخ ،، و إغاظة الشيوخ في ذلك العصر أمر ينذر بالمخاطر.
"هاري وريزم" لاحظ الناس يتفرقون تباعا بعد أن أحاطوا من حوله ، لم يكن راغبا بهذا الانصراف ، بدا ذلك بوضوح ، منوها عن رغبته في التحدث إليهم والحديث إليهم بالطبع يعد من أهم محاور عمل الفريق إلا أن" هاشم" أدرك هذا ملتفتا إلى" ميشا" قائلا: (الناس هنا تعرف الله ، إلا أنهم لا يدركون من هو الشيطان، فحين طالبت الشيخ بحقنا بما يتناسب مع أتعابنا أمتنع عن الرد إلا انه فيما بعد اخبرهم أن الشيطان هو الذي سرق المحصول وبالتالي لا بد أن تكون المنحة قليلة والناس صدقوا الرواية وسارعوا في تلك الليلة بالبحث داخل القرية عن الشيطان). ضحك الجميع وأخذ الارتياح يتزايد عند "هاري" الذي أصابه ألإحساس انه أمام رجل و قضية سيما حين قص عليهم "هاشم " قصة شيخه الذي أقدم في إحدى حالات غضبه المعتادة على قتل احد أبناء القرية وفوق هذا راح والد القتيل واقفا أمام الشيخ يقول له: ابني (فدوة الك) أي فدية لك مع أن والد القتيل في وقت سابق بكى كثيرا حين فارقت جاموسته الحياة .
"هاري وريزم" الذي كان قد درس الفلسفة في باريس أعرب عن تضامنه بعبارات ظلت عالقة في ذهن "هاشم)" وهي ( أن البعض يحاول التوفيق بين شرور الحياة وخير الله) وهو رأي أطلقه الفيلسوف التنويري "اسبينوزا" وهو يهودي كفرته اليهود سرعان ما تحول هذا الرأي إلى ما يشبه المثل الشعبي انتشر في كل أنحاء أوربا، إلا أن " هاشم" فهم ذلك بطريقته البسيطة و هي ( أن البعض يحاول التوفيق بين الله والشيطان).
القرية والقرى المحيطة بها تقع على مسافة غير بعيدة من ضريح(عزير بن شالوم) احد أنبياء اليهود و يعد من أهم المزارات بالنسبة إليهم حتى سميت الناحية باسمه.
لم يكن ( عزير) مزارا يهوديا فحسب إنما كان مزارا يؤمه المسلمون أيضا حتى أن ( هاشم) قبيل رحلته أقسم برأس( عزير) على أن لا يتزوج على زوجته في بغداد بعد أن رافقته عنوة إلى المزار لتجبره على القسم هناك ،هذا إلى جانب تقديم النذور من جانب المسلمين والدعاء عند زيارته من اجل تحقيق الأماني .
قبل أن يغادر الفريق التفت "هاشم" يقول لـ" ميشا" وهو يحمل عدد من كتب الإنجيل باللغة العربية قال أنها للبيع :( من سيشتري كتبك ياميشا إذا كان الناس هنا أنصاف عراة، يتضورون جوعا ولا يعرفون القراءة والكتابة).
و"ميشا" هذا عراقي من أهالي البصرة،أمه اسمها "حنان" تعمل ممرضة في مستشفى" لانسنك " الذي شيده فريق "هاري وريزم" وسط البصرة، شهد إقبالا متزايدا ليس من جانب البصريين فحسب إنما كان يقصده الكويتيون أيضا الذين وصفهم أميرهم الشيخ" مبارك" بالحمير حين طالبه المقربون منه بعدم السماح للكويتيين بالتوجه إلى المستشفى بالقول: (هؤلاء الرجال من هم ؟ هل هم دبلوماسيون ؟ لا هل هم سياسيون ؟ لا . هل هم تجار ؟ لا . إنهم أطباء جاءوا ليعلمونا والله يعلم أننا جهلاء كالحمير ) .
بضعة أيام مضت على مغادرة "هاري وريزم" و"ميشا" حتى توافدت أنباء من ناحية( العزير) تفيد بان الشيخ توعد من هناك بالانتقام من "هاشم" بسبب استقباله لما وصفهم بـ (الأنجاس) والجلوس معهم في الديوان ، والحقيقة أن الشيخ كان يريد مبررا (شرعيا) للانقضاض على "هاشم" الذي أخذ يشكل بالنسبة له مصدر تهديد و إزعاج كبيرين إلى جانب تأثر الشيخ ومعه معظم الشيوخ في ذلك الحين بالدعاية ضد الغرب التي كانت تمارسها الدولة العثمانية الموالون لها،وهي الدولة التي كان العراق يخضع لسيطرتها فترة أكثر من ثلاثة قرون من الاستبداد ،القهر ، الفقر،الإرهاب ،الموت،الأمراض ،الجهل،الأمية.
إذن واحد يصف الساعين إلى تقديم العون بـ (الأنجاس ) مع انه قاتل وحرامي محاولا صب نار غضبه على رأس كل من يرى ذلك أمرا مقبولا وآخر في منتهى الوضوح يصف شعبه بالحمير لأنهم أرادوا منه أن يعلن القطيعة مع هؤلاء . إشكالية مضى عليها أكثر من مائة عام في مؤشر دال على أننا كنا و لا نزال نراوح في المربع الصفر .
ليس ثمة اختلاف جوهري بين الاثنين طالما كنا ولا نزال لا نفكر كيف يمكن أن نصنع الأشياء الحلوة بأنفسنا لأنفسنا ما دعانا إلى التطلع منذ ذلك الحين حتى الساعة لمنقذ أو مخلص عسى ان يأتي إلينا مسرعا من وراء الحدود.. شرقية كانت أم غربية. إشكالية منذ أن بدأت كان أبطالها دوما الساعون إلى التوفيق بين الله والشيطان.

المصادر:
1- ثرثرة فوق دجلة حكايات التبشير المسيحي في العراق ترجمة خالد البسام
2- السياسة في فلسفة باروخ سبينوزا محمد سعد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرة ترفع شعار -الخلافة هي الحل- تثير مخاوف عرب ومسلمين في


.. جامعة كولومبيا: عبر النوافذ والأبواب الخلفية.. شرطة نيوريورك




.. تصريحات لإرضاء المتطرفين في الحكومة للبقاء في السلطة؟.. ماذا


.. هل أصبح نتنياهو عبئا على واشنطن؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. طبيبة أردنية أشرفت على مئات عمليات الولادة في غزة خلال الحرب