الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انها الحرب

نرمين خفاجى

2010 / 2 / 10
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


إنــها الحــــــــــرب

منازل مهدمة.. غربان تنعق بكل مكان.. قطط كثيرة ترتع فى الشوارع تتخذ من الدبابات الإسرائيلية المحروقة بيوتا لها بعد أن تحولت إلى مقالب زبالة... شوق يلف البيوت القليلة التى لا زالت مستوية على سطح الأرض إلى المأكولات البحرية فتتطاير فى سماء المدينة روائح السمك المشوى والكابوريا والجمبرى ، وتتبعثر عربات السرومباء والسريديا من الغريب شرقا إلى حضن الأربعين غربا،يتجول العائدون بحنين غير خفى فى الشوارع المدمرة للملمة شظايا ذكريات قديمة ،والبحث فى وجوه العائدين عن صداقات حبستها سنوات الهجرة السبع فى بئر الغربة ،اغانى سمسمية لها رنين حنون..حواديت وحكايا وأساطير لا تنضب عن بطولات فدائيين رفضوا الهجرة ،أتذكر منهم عبد العزيز الجزار وعم عواد .
حكاية عن خوذة جندى اسرائيلى مذبوح موجودة فى بيت عبد العزيز الجزار والتى يخرج منها عفريت بدون رأس يبحث عن رأسه فى حجرات المنزل ليلا فلا يجد سوى الخوذة المعدنية الصماء تتوسطها نجمة داود وبذلة الميدان الملطخة بالدماء الصهيونية والبندقية ذات السونكى ، فيرميهم أرضا ويبدأ فى لعب ماتش كورة منفرد بالخوذة .
أتذكر أيضا الطائرة الإسرائيلية المكومة على الأرض قطعة خردة أمام قصر الثقافة ،والتى تقاسمها السوايسة فيما بينهم كتذكار، البعض استخدم مساميرها والصواميل فى تثبيت أشياء أخرى استحضرت بدورها الأشباح ..حواديت كثيرة استغلتها الأمهات الأشرار كأمى فى إخافتنا ،هذا غير التحذيرات بعدم اللعب فى الشارع لان "لسه فى ألغام بتنقجر فى الأطفال اللى بيلعبوا فى الشارع"
كنت قد أتممت عامى الرابع وقت العودة لكنى لازلت أتذكر الدمار وأتذكر الحكايات التى لصقت صور الدمار فى ذهنى الصغير .
أتذكر أيضا كيف تكون مثل "البازل" بداخل أركان نفسى مفهوم لكلمة حرب ،كان هناك دوما وبأماكن متعددة بالسويس كشك خشبى يطلق عليه "المعرض" تنتشر بداخله صور ابيض واسود للسويس وقت الحصار ،من إحدى هذه الصور قفزت إلى داخلى مشاهد الحرب.
عربة بطيخ سويت بالأرض وتبعثرت كسر البطيخ مختلطة بدماء وأحشاء الحصان الذى أصيب فى بطنه وصدره فوقع متخبطا ووقع فوقه بائع البطيخ فى عناق وحد بين العناصر النباتية والحيوانية والإنسانية ،كتل مختلطة ومشوهة الأشكال وقد وحد بينهم جميعا اللون الأحمر وأنين الإحتضار .
فى الليل كنت افكك الصورة إلى صور أخرى ،البائع وقد استيقظ فى الصباح ،يجلس مع أطفاله ينهر ابنه الأكبر ليساعده فى رص عربة البطيخ يتناول لقمة سريعة غالبا جبن قديم "مش" وخبز ، يتعلق أبنائه الصغار بالحصان ،يداعبونه يقدمون له الطعام ، ثم يخرج البائع والحصان والبطيخ حيث اللاعودة ، هل لازال الأطفال ينتظرون الأب والحصان ؟ هل طال القصف بيت البائع فقتل العائلة بالكامل ؟
ظلت الصورة تطاردنى بالأسئلة حتى توارت فى الدهاليز المظلمة للذاكرة ، لكنها تعود لتولد من جديد واضحة المعالم جلية مع كل حرب ، رأيتها على شاشة التلفاز فى حرب لبنان، وقصف غزة ، تخرج تطاردنى من قلب كل مذبحة إسرائيلية ، وفى النهاية ذهبت لتبعث يوميا فى العراق.
وقت العودة كان منزلنا مدمرا تماما لذلك أقمنا فى بيت جدى لأمى والذى كان لا يزال بالمهجر .كان بيت جدى من البيوت ذات الطراز القديم المسمى "البغدادلى" والذى كان منتشرا فيما مضى فى كل من السويس وبورسعيد .
بيت خشبى ذو ثلاث طوابق ، استقر فى ذاكرتى منه - مع كثير من الحب- البلكون الخشبية وشبابيكه التى تفتح لأعلى والبلاط الملون ،البيت كان يشبه سفينة ينفتح الباب عن طرقة طويلة على شكل حرف تى على اليمين المطبخ وعلى اليسار دورتى المياه واحدة للاستحمام والأخرى لقضاء الحاجة أما الطرقة الطويلة ففبها أبواب الغرف والتى تفتح على بعضها بأبواب أخرى داخلية كانت أرضيات الغرف من الخشب باستثناء الصالة "الطرقة" كانت من البلاط الملون بأشكال نباتية وحيوانية محورة كانوا بالنسبة لى هم كل ممتلكاتى فى هذا العالم معهم العب واخلق الحكايات وأحولها إلى أصوات تتناسب والألوان الزاهية التى كانت تشع من البلاط .
بدا ذلك طبيعيا فى ظل منع اللعب فى الشارع وفرض حظر الدوشة فى البيت،ونفورى من التليفزيون .
كانت البيوت المهجورة وقت الحرب تستخدم للاختباء وأحيانا لعسكرة الفدائيين لذلك وجدنا بالبيت عشرات الرصاصات الإسرائيلية والتى لم تستخدم بعد ،ربما كانت من غنائم الفدائيين .
ظلت الرصاصات فى حوزة أبى وامى لفترة طويلة وكانت مثل تلك الأشياء متداولة بين السوايسة بشكل طبيعى جدا كسوفونير. ولكن امتد عبث أخى الأكبر إلى الرصاص فخافت امى علينا وللأسف تخلصت منه بالكامل ،احتاج البيت من أبى وامى جهد كبير لإعادته إلى ما كان عليه قبل أن يهجر .
انتقلنا الى منزلنا الكائن بوسط المدينة قبيل مظاهرات 18 و19 يناير 1977 ،لنبدأ حقبة جديدة من الأحداث .












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. باريس سان جرمان يأمل بتخطي دورتموند ومبابي يحلم بـ-وداع- مثا


.. غزة.. حركة حماس توافق على مقترح مصري قطري لوقف إطلاق النار




.. لوموند: -الأصوات المتضامنة مع غزة مكممة في مصر- • فرانس 24 /


.. الجيش الإسرائيلي يدعو إلى إخلاء -فوري- لأحياء شرق رفح.. ما ر




.. فرنسا - الصين: ما الذي تنتظره باريس من شي جينبينغ؟