الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مادية لينين مادية ميكانيكية -3

أنور نجم الدين

2010 / 2 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


المادية: 1850 - 1900

يتضح من كل ما قلنا أعلاه أن السؤال الأساسي الموجه إلى الفلاسفة، هو: "هل ممكن فهم أي عصر من دون أن نعرف صناعة ذلك العصر؟ - كارل ماركس، العائلة المقدسة".

إن هذا السؤال يقودنا إلى نظرة نقدية إلى العالم، نظرة تعود أساسها إلى الحياة الفعلية للبشر، ومن ضمنها المعارف البشرية، فالمعرفة لا تتجرد عن المقدمات المادية للتاريخ، أما التاريخ فلا يجري إلا من خلال التطور الصناعي، والتبادل التجاري، وإن درجة التطور الصناعي، هو في نفس الوقت درجة من تطور العلوم، أي المعرفة العلمية عن العالم، فمن غير الممكن تجاوز الفكر المنطقي والإحساسات المجردة لاكتساب المعارف، دون النظر إلى العالم الحقيقي، من عيون الأجهزة العلمية التي نحصل عليها من خلال التطور الصناعي. وهكذا، فالصناعة هي التي تحدد درجة تطور معارفنا عن العالم، فلا يمكن التطور في الحياة البشرية والمعارف الإنسانية، دون التطور المسبق في صناعتها. فلو لم يكن الأمر كذلك، لما كانت تختلف معارفُنا عن معارفِ أجداد أجدادنا، فإذا كان مقاييس الخطأ أو الصواب، أي المنطق الصوري، أو الإحساسات الإنسانية المباشرة، وسيلة لاكتساب المعارف عن الأشياء، فلما كان لدينا مثلًا، أي فكرة عن تركيب الهواء، أو الماء، أو الغاز، أو الطاقة، أو..، أو..، أو... وهكذا، فالوعي الديني، والفلسفي، والعلمي، وعي تاريخي، فالمعارف البشرية تطورت إذًا في التاريخ، وعبر التاريخ، ومع التاريخ.

ولكن على عكس ذلك، فالماديون الديالكتيكيون، يحلون القوانين الجدلية -أي العقلية- محل القوانين المادية، فإنجلس (1820- 1895) مثلاً، يحل قوانين الجدل الهيغلية، محل قوانين نيوتن العلمية للحركة، وهو يقول:

"فليست الجدلية سوى علم القوانين العامة للحركة وتطور الطبيعة والمجتمع الإنساني والفكر - إنجلس، أنتي دوهرنغ".

ولكن أين نجد هذا القانون العقلي في حركة الأشياء؟ فخطأً أو صوابًا، يبحث نيوتن قوانين المادية للحركة بصورة تجريبية، وإذا كان أدلته المادية ناقصة في وقتها، فالأمر لم يتعلق بعدم اللجوء إلى نظرية الأحكام العقلية، أي المنطق الجدلي لإثبات خطأ أو صواب نظريته، بل إلى الوسائط المتوفرة في عصره.
أما سرعان ما يقوم إنجلس بإبطال كل أطروحاته الوهمية عن الديالكتيك، حين يؤكد بنفسه بأن الديالكتيك ليست معرفة ناتجة عن التجربة على الأشياء المادية، بل معرفة فطرية:

"إن البشر قد فكروا جدليًّا قبل زمن طويل من معرفتهم ماهية الجدلية؛ تمامًا مثلما كانوا ينطلقون بالنثر قبل زمن طويل من وجود كلمة النثر- إنجلس، أنتي دوهرنغ".

وهكذا، فالجدل علم، لا يمكننا الاتفاق مع الماديين الجدليين إطلاقًا؛ حيث إن الجدل، الدياليكتيك ليس سوى معرفة فطرية، حسب إنجلس، أو إنه بالتحديد ليس اكتشافًا علميًا. وإذا قلنا: إن الدياليكتيك هو قانون حركة الأشياء، فلا نختلف إطلاقًا عن هيغل إذ يقول: إن الدياليكتيك هو قانون حركة الروح أو وجود الروح، فلا المبحث الأول ولا المبحث الثاني، لا يكشف لنا أصل حركة الأشياء وقوانينها المادية، ولا يمكننا إثبات جدلية حركة المادة من خلال هذا المفهوم العقلي المجرد، لأن الجدل ليس شيئًا أو قانونًا في الأشياء. وليس من الضروري أصلاً، بذل أي جهد لفهم أو اكتشاف قوانين الدياليكتيكية في الأشياء، مادامت القوانين هذه، موجودة أينما وجدت الأشياء، ولها نفس الطبيعة في أي مكان وزمان، حسب الديالكتيكيين. ولكن كما قلنا سابقًا، فالقوانين الاقتصادية، لا يمكن أن يكون نفسها في كل زمن تاريخي، بل تتغير بفعل تطور الصناعة والمبادلة التجارية. فماذا يعني إذًا اكتشاف قوانين الدياليكتيكية؟ وماذا يعني أن الجدل هو قانون حركة المادة، أو قانون تطور المجتمع؟

أما إذا أردنا البحث عن مصدر هذه المعرفة الجدلية لدى إنجلس، فلا نجد سوى كتابات هيغل. إذًا كيف اكتشف إنجلس علاقة الجدل والحركة؟ خلال التجارب العلمية على الأشياء؟ كلا، بالطبع، فمصدر هيغل للجدل، هو الفلسفة الأغريقية، والأديان القديمة، وليس العلم التجريبي، أما إنجلس، فيستعير هذه الفكرة من هيغل، وكل ما يغيره هو أنه يستخدم كلمة (قوانين) الجدل، بدل المقولات. وما يقوم إنجلس بالجدل عليه، فليس التناقض بين الجدل والفيزياء، بل التناقض بين الجدل والميتافيزياء، وإن كل أمثلة إنجلس أمثلة عينية، حسية، لا تعطينا شيئًا سوى ما يعطينا العين المجردة: الماء، الحرارة، الحشرات، الرياضيات، وأخيرًا: علاقة الفكر بالمادة (انظر أنتي دوهرنغ). أما المادية هذه، فليست سوى معارضة ما يقوله المسيح عن العالم. لكن الأمر الغريب هو إن إنجلس يهاجم الروح والمسيحية، ولكن من خلال هيغل. أليس هذا مضحكًا؟ فجدل هيغل ليس سوى عبارات عقلية جاهزة عن الفلسفة بوصفها تفسير دنيوي للمسيحية (أنظر هيغل، مختارات).

ولنجرب الآن بعض وجوه الجدل من خلال الدخول إلى واقع الأشياء المادية، فإذا بدأنا مثلًا من الروابط المادية بين الشمس والقمر والأرض والنجوم، ودوران بعضهما على البعض، ثم المسافة بين الأرض والقمر، ثم الأزمات الاقتصادية، والثورات، والحروب مثلًا، فلا نفهم كل هذه الأشياء، حسب إنجلس، إلا من خلال الديالكتيك. أليس هذا مضحكًا؟ فالجدل معرفة فطرية حسب إنجلس، ولكن لم يكتشفه أحدٌ قبل هيغل، أما هذا الإكتشاف، فلم يحتج أي جهد علمي من قبل هيغل. أليست هذه معرفة ناقصة، بل ومشوهة عن التاريخ؟
ثم يقولون الديالكتيكيون -المثاليون والماديون- لنا بأن كل شيء في العالم، يخضع لقانون وحدة الأضداد مثلاً. ولكن كيف يفسر الماديون الجدليون المزاحمة بين العمال، وهم يقرون سلفًا بأن العمال يشكلون طبقة؟ هل دخل الشيطان علاقاتهم، أو المزاحمة بينهم شيء مادي؟ وثم كيف نفسر مكونات الذرة، وعلاقة الأجسام المادية ببعضها البعض في العالم المادي؟ بوحدة المتضادات؟ فمن منظور العلم، لا نتحدث هنا عن التناقض، بل عن التكوين المادي للأشياء، فلا وجود للذرة دون تفاعل مادي بين الإلكترون والنيوترون مثلاً، إذًا فالإلكترون والنيوترون لا يناقضان بعضهم البعض، بل يؤكدان شرط وجود بعضهم البعض وبصورة أبدية. ثم نعني بالتناقض مصدر التطور في الحياة الاجتماعية مثلاً، فما تطور الذرة في ما يسمى بتناقضاتها الداخلية؟ أليس هذا فهم الأشياء بصورة مشوهة جدًّا عن الواقع؟ أليس هذا وهمًا ديالكتيكيًّا؟

وهكذا، فعلى العكس من إنجلس، فلم يكن معرفة قوانين الحركة ممكنًا، دون ظهور العلوم الطبيعية، أما العلوم الطبيعية، فلم تنشأ دون التطور الصناعي بالمعنى الحديث، فإلى أين نوجه أنظارنا عندما يتعلق الأمر بقوانين الحركة: نحو هيغل، أم نيوتن؟ فإذا أردنا البحث عن قوانين الحركة، وقانون التطور الاجتماعي من خلال المنطق الجدلي، فيتميز بحثنا أخيرًا بميزة عقلية محضة تخرج من دماغنا، لا من حالتها المادية.
وهكذا، فالماديون الدياليكتيكيون، يخلقون أفكارًا عقلية مجردة، وينسجون المفاهيم عن العالم المادي، من تلك الأفكار، فالعقل الجدلي، لا يساعد البشر في فهم الأشياء، بل يعطيه فقط صورة حسية، شكلية، صورية عن الأشياء، وهذا ما يمكنه الدياليكتيك التجربة عليها لا أكثر، فتجربته إذًا تجربة حسية لا أكثر.

وهكذا، فبعدما اجتاز نظام العلم الاقتصادي والتاريخي، النظام الفلسفي وأصوله المنطقية، فلم يبق بعد للمنطق سوى فائدة جدلية، فالتطور التاريخي، عوض المنطق العقلي بالأسلوب العلمي التجرييبي، وهذا الأسلوب هو الذي أصبح مصدر المعرفة عن القوانين المادية.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حسين بن محفوظ.. يصف المشاهير بكلمة ويصرح عن من الأنجح بنظره


.. ديربي: سوليفان يزور السعودية اليوم لإجراء مباحثات مع ولي الع




.. اعتداءات جديدة على قوافل المساعدات الإنسانية المتجهة لغزة عب


.. كتائب القسام تعلن قتل عشرين جنديا إسرائيليا في عمليتين شرقي




.. شهداء ومفقودون بقصف منزل في مخيم بربرة وسط مدينة رفح