الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إمرة المفضول بوجود الأفضل:

سامي العباس

2010 / 2 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إمرة المفضول بوجود الأفضل:
محاولة لسحب المقدس خارج حقل السياسة

تبدو مقولة المعتزلة حول "جواز إمرة المفضول بوجود الأفضل", محاولة مبكرة للتأسيس النظري لعملية فك التشابك بين المقدس والسياسة.تتجاوز كثيراً التوظيف الضيق لها في الشرط العملي الذي سمح آنذاك بإنتاجها :أعني ,انتقال السلطة من البيت الأموي إلى الفرع العباسي من البيت الهاشمي. وما سمحت به هذه النقلة من إمكانية لمقاربة مجريات سقيفة بني ساعدة و نتائجها ,خارج الانقسام اللاهوتي/السياسي بين أهل السنة والجماعة من جهة وشيعة علي بن أبي طالب من جهة ثانية ..لم تتأسطر رموز الإسلام الأولي بنفس السوية التي بلغتها شخصية علي بن أبي طالب. فالتشيع بفروعه - في مجرى الإخفاقات المتتالية لذريته- الإمام علي - في إدارة "إتحاد مرن لقبائل الجزيرة العربية " بغية القفز إلى موقع خليفة المسلمين – نسج حولها ما غيّب ملامحها البشرية ..
لقد أفضى الطلب المتزايد على استخدام المكانة الدينية لشخصيات الإسلام الأولي في الصراع الذي اندلع بعد وفاة الرسول بين بيوت قريش , ولاحقا بين القبائل التي غذت وظيفتها الحربية في الفتوحات طموحها السياسي(1) إلى إختلاط التخوم في عقل المسلم بين وظيفة الدين ووظيفة السياسة.
آل ذلك إلى إفقاد الدين مرونة تحفظ له وحدته عند كل خلل بموازين القوى بين العصبيات القبلية ذات الشوكة المنتجة للسلطة ..هذا على مقلب المقدس أما على مقلب السياسة فقد أفضى إنجدال الديني على السياسي إلى إخفاء الأخير بحيث تتعذر مساءلته. وأفضى أيضاً إلى تأبيد العصبيات القبلية كانقسامات عمودية عابرة للطبقات الاجتماعية المكونة لهرم نظام الإنتاج الخراجي .وإلى ركود الجدلية الاقتصادية –الاجتماعية للمجتمعات الإسلامية(2) أو دورانها على طريقة : اكسري بيضة"بالإذن من فقه التدبير المنزلي "..
من انجدال الدين والسياسة تخلقت مذاهب إسلامية حافظت على أطول استعصاء سياسي, واقتصادي-اجتماعي لازال أتباعها في مطلع الألفية الثالثة يناورون للخروج منه ..

* * *

من الإيمان /اللاإيمان بشرعية خلافة الشيخين نبعت المادة الأيديولوجية اللازمة للعصبيات القبلية المتنافسة : العربية ولاحقا الفارسية والتركية ..الخ .. –أنظر مقدمة ابن خلدون -
فتحت هذه اليافطة الدينية انعقدت عشرات المحاولات السياسية الناجحة والفاشلة لتشكيل إمبراطوريات أوممالك إسلامية .وصولا إلى أوائل القرن العشرين حيث انهارت آخر إمبراطوريتين للمسلمين :العثمانية /الصفوية..الأولى تتمسك بهذه الشرعية والثانية تنزعها. في مجرى من التمايز العقيدي الذي يعضد التمايز القبلي داخل الإثنية "التركية " المشتركة للسلالتين العثمانية والصفوية ..
تكمن أهمية مقولة المعتزلة"جواز إمرة المفضول بوجود الأفضل " في المخرج الذي شقته لإخراج الدين من دائرة التوظيف السياسي .. الإشكالية التي بدأت عقب وفاة النبي وتأخر تسلم الشخصية الهاشمية الأكثر لمعاناً " علي بن أبي طالب" الخلافة إلى مابعد الثلاثة الراشدين "أبوبكر وعمر وعثمان ". وهي المرحلة التي سميت بالفتنة الصغرى .وأعقبتها الكبرى بعد مقتل عثمان .
ولم تنتهي بمقتل علي غيلة, في مجرى صراعه المزدوج :
مع الخوارج "التعبير المبكر عن تشدد ديني مسلح يبْطِن ممانعة البنى القبلية للذوبان في بنية أوسع " و...مع معاوية بن أبي سفيان "منافسه من الفرع الأموي الذي سبق وأن أوصل مرشحه: عثمان بن عفان إلى منصب الخلافة فيما سمي بشورى الستة . أقول لم تنتهي بل تتابعت في المصير التراجيدي لمعظم الطامحين من ذرية علي بن أبي طالب للملك ..
أعاد هذا المسار التراجيدي لذريته المتشعبة مع الوقت تنقيح صورته في المخيال الإسلامي :السني /الشيعي . ففي جدلية يتولى فيها الدين وظيفة تحجيب السياسة ,وصلت الأمور إلى أن يخطب أبو جعفر المنصور الناس بمكة فيقول:أيها الناس ,إنما أنا سلطان الله في أرضه ..وحارسه على ماله ..فقد جعلني الله عليه قفلا إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم ,وإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني .. (3)
وقد استندت محاولة المعتزلة في ما استندت إليه ,إلى المأثور قولا أ و ممارسة للرسول محمد أو لعلي بن أبي طالب في مرحلة توليه الخلافة, لتعليم التخوم بين السياسي والديني ,أو بين الدين والدنيا في مصطلحات تلك الأيام :"ما كان من أمر دينكم فإلي.وماكان من أمر دنياكم فأنتم أولى به "(4) وهو قول ينسب إلى الرسول في معرض حكاية تأبير النخل ..أو ما ينسب قوله لعلي بن أبي طالب في معرض حجاجه مع الخوارج حول شعارهم - لا حكم إلا لله -«كلمة حق يراد بها باطل نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله. وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيه الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل...»(5)إلا أنه , وفي معرض البحث عن مخرج من انشقاق ديني ترّكب فوق انشقاق سياسي سمح بالانزلاق إليه خلط الدين بالسياسة, أعاد المعتزلة موضعة الفضل كمفهوم داخل الحقل الديني .وتم ربطه "بمقدار الثواب الذي يستحقه الإنسان على ما قدم و يقدم من طاعات ,فهو فضل وتفضيل في باب الدين .راجع إلى قدر الثواب في الكثرة ..ولما كانت معرفة الثواب ..هي من الأمور المغيبة عن الإنسان ,ولا مجال فيها لحكم العقل ..لكل ذلك كان السمع دون العقل هو الطريق لمعرفة الفضل ومن ثم التفضيل .."(6)كانت هذه هي المناورة الأولى للمعتزلة : لسحب خلاف سياسي- ’رفع بين السنة والشيعة إلى مرتبة الديني - من التداول.. فتحت سماء ملبدة بثقافة السمع" النقل" جرّاء الاستخدام المكثف للحديث النبوي في الشاردة والواردة , تصرف المعتزلة وفق هذا المثل :" من دهنه سقيّه ".
’قدّم السمع على الرأي في ترتيب فضل الصحابة, تمهيدا لتقليص سيطرة السمع داخل البنية الثقافية بتبيان عجزه عن القطع "لأن الأعمال لا تنبئ على فضل الإنسان إذا لم يعلم المغيب من حاله .فإذا فقدنا الدلالة وجب التوقف "(7) .ولقد توسع استخدام هذا التكتيك لاحقا لتقليص الدعم الكثيف لثقافة النقل التي نهض بها الوحي المجموع بين دفتي المصحف , فيما سمي بقضية خلق القرآن ..فعلى الرغم من إجماع أهل السنة على انقطاع الوحي بعد موت النبي محمد- والذي كان استجابة لإغلاق ملف إن بقي مفتوحا سيبقي مشروع بناء الدولة الذي باشره النبي محمد : قيد التأسيس باستمرار. لكن تأثيره " الوحي " –وهو مجموع بين دفتي المصحف – لم يضعف .وظل يمارس ضغوطا على تطور المعارف العقلية للمسلمين التي راحت ترفدها سياقات للمعرفة "فارسية وهندية ويونانية ".. بينما وصل الأمر عند من رفض إغلاق هذا الملف إلى تفريع "الوحي " في القنوات التي تفرعت إليها ذرية علي, وتفرع معها التشيع ..إلا أن المجال يضيق على التوسع في هذه النقطة ..
الخطوة الثانية كانت جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل إذا" اقتضت مصلحة الأمة ذلك " ومصالح الأمة تحددها في واقع الحال موازين قوى العصبيات القبلية" العربية والفارسية والتركية..الخ" ..فتح هذا على حل لمشكلة أضنت وجدان أهل السنة والجماعة ,لتواتر الأحاديث في فضل علي, المنقولة عن رسول الله:

"يروى عن ابن حنبل أنه قال :أحفظ أو أحدث مما رويته بالإسناد عن النبي "ص" ثلاثين ألف حديث في فضائل علي بن أبي طالب (ع)..وعن الإمام الثعلبي أنه ينقل عن أحمد بن حنبل أنه قال : ما جاء لأحد من صحابة رسول الله (ص)ما جاء لعلي من الفضائل "(8)
و سمح هذا بالتصالح مع النفس "لأتباع الإمام الشافعي " من أهل السنة الذين يصور هذا البيت من الشعر محنة مخيالهم الديني مع صورة علي :
يموت الشافعي وليس يدري علي ربه أم ربه الله
أما عند الشيعة الذين سحبوا شخصية علي بالتدريج من تاريخيتها .وأعادوا موضعتها في السياق الذي شقته المرويات الإسرائيلية عن المسيح المنتظر .."إنني وأهل بيتي كنا نورا يسعى بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف سنة .فلما خلق آدم وضع ذلك النور في صلبه ,وأهبطه إلى الأرض ,ثم حمله في السفينة في صلب نوح , ثم قذف به في النار في صلب إبراهيم ,ثم لم يزل الله ينقلنا في الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة من الآباء والأمهات ..."(9) فقد كانت المهمة من الصعوبة بحيث آلت الأمور في الاعتزال المتأخر إلى تحويل مقولة التفضيل من طوق نجاة للأمة من التشظي المذهبي " بإباحة إمرة المفضول" إلى انشقاق داخل الاعتزال جراء التركيز على الشطر الثاني من المقولة "ترتيب الراشدين على سلم الأفضلية الدينية " ..لم يقيض للاعتزال أن يتابع طريقه المستقل ..بقيت أصداؤه على نحو باهت في اللاهوت الأشعري ..وفي ما وصل لنا من مدونات كبارهم ..

سامي العباس
[email protected]



هوامش:
1- للتوسع في هذه النقطة .أنظر كتاب هشام جعيط :الفتنة –جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر –دار الطليعة-بيروت
2- للتوسع أنظر :العرب والسياسة –محمد جابر الأنصاري
3- العقد الفريد –ابن عبد ربه –ج2-ص179
4- رواه الإمام أحمد في مسنده ,والإمام مسلم في صحيحه- نهج البلاغة 1/87 القاهرة (المكتبة التجارية الكبرى).

-5نهج البلاغة 1/87 - القاهرة (المكتبة التجارية الكبرى).
6- محمد عمارة – المعتزلة وأصول الحكم –ص-205
7 - المغني –ج20-ق2ص112-116-118-135-136

8- روضات الجنات –المجلد الأول –ص-184

9 - الغدير –ج1-ص164









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_


.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال




.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس


.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال




.. قطب الصوفية الأبرز.. جولة في رحاب السيد البدوي بطنطا